التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جَنَّةُ العُمْيَان




جَنَّةُ العُمْيَان
(سَمَاوَاتُ الجِّذْرِ الْمَجْهُولَة)
2007م




قلبُ الجنَّة


خائنٌ
هَذَا الثَّورُ الأعْمَى 
مَنْ رَفَسَ الأَرْضَ وطَعَنَ الفضاءَ بقرونِ خيالهِ 
تَارِكَاً مُصَارِعِيهِ يَلْهَثُونَ في نَوْمِهِم خَلْفَ دَمِ النُّجُومِ الْمُتَقطِّرِ، 
وَاعِدَاً أسْلِحَتَهُم الفَاتِرَة بِمَعَارِكَ لا تُرَى.


خَائِنَةٌ
هَذِه القَطْرَةُ التي تَحْفِرُ في صَوْتِ الْمُحِيطِ قَبْرَهَا هَانِئَةً 
وتَحِطُّ مِن قَدْرِ السَّحَابِ في قَلْبِهَا.


(1)






غَدَاً يُصْبِحُ مَوْتُكَ صَنَمَاً تَتَعبَّدُ أسْفلَ أقدامهِ، تَلهثُ مُقْتَنَيَاتُكَ الثَّمِيْنَةُ تَحْتَ وطأةِ أصَابِعِهِ الْمُتَّسِخَةِ الجَّبَانَةِ. غَدَاً، أيُّها الوَغْدُ، تَتَحوَّرُ الزَّوَاحِفُ السَّاكِنَةُ الـمُطِلَّةُ مِن جُحُورِكَ العَدِيْدَة، جُحُورٌ تَتَمَدَّدُ مِن لَمَسَاتِكَ، مِن نَظَرَاتِكَ، جُحُورٌ تُطلِقُ الفَحِيْحَ الَّذِي تَأْبَى سَمَاعَهُ، الفَحِيْحُ مُشَكِّلُ الخَطَوَاتِ بِشَهْوَةِ الفَرَائِسِ العَمْيَاءَ الصَّغِيْرَةِ وهِيَ تُستَدْرَجُ إليهِ في الثِّيَابِ النَّاصِعَةِ. 








أسْتَدْرِجُكَ للمَوْتِ الهيِّن
للمَوْتِ الْمَرْصُوفِ أمَامَ الْمَلِكَاتِ الغَيْبِيَّات.
لَسْتُ عَلَى عَجَلَةٍ مِن عُمْرِي 
غَايَةُ عُمرِي أن يُظْهِرَ عَضَلاتِ الخَوْفِ أَمَامَ الله كَيْ يَسْتَرِيْحَ 
بلا فَائِدَة
عَلَى العَتَبَاتِ الْمَوْلُوْدَةِ مِن نَظْرَتِكَ لغِلافِ السِّحْرِ 
جَلَسْتَ، وربَّمَا لِسَنَوَاتٍ قَاصِرَاتٍ
جَلَستَ وربَّمَا ليَوْمِيَّاتٍ تَتَمَزَّقُ أورَاقُ حِيْرَتِهَا حِيْنَ تَتَحَرَّشُ بِهَا رِيْحُ النَّاس 
كانَ غُمُوضُكَ هذا 
حَرَارةَ العَتَبَاتِ مِن تَحْتِي 
ونَحْتَ الوَلوَلاتِ فِي الهواءِ المُحِيْطِ بِي 






أنتَ بَريَّةٌ شَامِخَةٌ 
عَلَيْهَا تُدَارُ مَعَارِكَ الصَّيْدِ والافْتِرَاس دُونَ ضَغَائِنَ تُذْكَر 
عَلَيْهَا تَتَغَوَّلُ السُّحُبُ المرِيْضَةُ عَلَى جَمَالِ الجَّفَافِ 
أنْتَ البَريَّةُ، 
ولَكَ الخَيَار: 
أن تَنْتَفِضَ مِن حُمَّى تَنْبَعِثُ مِن أَحْوَالِ التَّائِهِيْنَ 
_الغَافِلِينَ عَن عَلاَمَاتِ نُجُومك_ 
مَنْ مَاتُوا غَرَقَاً في العَطَشْ


أو أَنْ تُسلِّمَ عَلَى الصَقْرِ فِي فَمِهِ 
وَهْوَ يَنْتَظِرُ جُثّةً قَادِمَة..
...
أسْتَدْرِجُكَ للمَوْتِ الهيِّن 
وأرْصِفُ الـمَلِكَاتِ الغَيْبِيَّاتِ لكَ 
لتُدْرِكَ عَظَمَةَ السَّيْرِ فَوْقَ رَوَائِحِهِنَّ
دُونَ أن تُشْفِقَ عَلَى وِحْدَتَكَ الذَّابِلَة.






(2)






لَوْحَةُ القَصْرِ تَبْدَأُ بِكَسْرَةٍ وَحِيْدَةٍ فِي صَخْرَةٍ مَعْزُولَةٍ لا تَجْذُبُ التِفَاتَةً، ولا حتى مِن ثدي أُمِّهَا الأرض. لَوْحَةُ القَصْرِ تَنْتَهِي بِشَرْطَةٍ تُحْدِثُهَا الأجْسَادُ الْمُتَسَاقِطَةُ مِن عُلُوِّهِ الضَّاحِكِ، مُعْدَمَةً بأوامِرَ تَعْبَثُ بأحْشَاءِ ناطِقِهَا، تَنْتَهِي بِتَلْوِيْحَةِ الوَدَاعِ فِي عين طفلٍ شَهِدَ الْمَعَارِك في أرْوِقَتِهِ ونَامَ عَنْهَا قَرِيْرَاً نَادِمَاً عَلَى نَبْضِهِ الْمُحَرِّكِ للصَّدَى فِي صَالاتِهِ. 
ألَوِّحُ لَكَ إذاً باللَّوْحَةِ دُوْنَ أنْ يَرْمِشَ لِي كَفَنْ.
وأغَنِّي لَكَ: خنْجرَ العَرَّافِ الْمَغْرُوسِ فِي ظَهْرِ السِّجْنِ، نَابَ الثُّعْبَانِ البَاكِي فِي كَأْسِ الْخَمْرِ الجَّمِيْل، العَجُوزَ التي تَحِيْكُ فُستَانَ الْمَلِكَةِ الخَالِدِ، الْمَعْبَدَ الْمُتَكَوِّرُ فِي عَيْنِ الحَصَادِ الْمَقْتُولِ، جَسَدَكَ العَارِي وَهْوَ يَتَلَذَّذُ بِمُعَانَقَةِ السُّورِ الصَّدِئ ذِي الذَّهَبِ الْمَسْنُون.




(3)




عِنْدَ حُدُودِ الكَوَارِثِ،
ألْعَبُ رِهَانَاً سَاذَجَاً بِصُحْبَةِ سَمَاءٍ عَمْيَاءَ ولُغَةٍ تَتَنَـزَّهُ فَوْقَ شِفَاهِ السفَّاحِيْنَ البُسَطَاءِ،
بِصُحْبَةِ شَمْسٍِ خَافِقَةٍ بِجَبْهَةِ الطِّفْلَةِ الْمُتَّسِعَة،
بِصُحْبَةِ جُدْرَانِ البيُوتِ ذَاتِ الفَسَاتِيْن الكَهْلَة. 


عِنْدَ حُدُودِ الكَوَارِثِ 
أُقَبِّلُ الْمَارِدَ القَبِيْحَ فِي جُرْحِهِ البَارِزِ ذِي الصَّدِيد، 
ذِي الأنْهَارِ اللَّزِجَةِ مِن سَيَلانِ الطَّمْثِ ومَسَاحِيْقِ الرُّصَاصِ التَجْمِيْلِيَّةِ 


أَنْتَ تَنْظُرُ لَنَا أيُّهَا العَرْشُ العَزِيْز 


ونَحْنُ نَلْعَبُ بِكَثَافَةِ القَلْبِ، 
والعَجْزُ نَرْدٌ مُتَفَسِّخٌ عَلَى وَجْهِ النَّهَارِ واللَّيْل 


كَائِنَاتٌ مَحْلُوقَةُ القَتْلِ، 
تَتَأمَّلَ النَّهَارَ الْمُهَاجِرَ مَعَ الطُّيُورِ ثمَّ 
فجأةً
تَصْرُخُ في إثْرِه، 
تَرْكُضُ بأقْدَامٍ حَافِيَةٍ إلاَّ مِنْ شَوْكٍ رُوحِيٍّ جَاهِلْ. 


كَائِنَاتٌ مَخْفُوقَةُ الرقَّةِ تَتَأمَّلُ اللَّيْلَ العَابِرَ بِثَوْبِهِ الطَّوِيل مَسْحُوباً عَلَى مَقَابِرِ السَّمَاءِ الجَّمَاعِيَّةِ 
مَقَابِرٌ لا تَتَعَدَّى الشِّبْرَ، 
تَارِكَةً بَقِيَّةَ الْمِسَاحَةِ للعَدَمِ العَجُوزِ الذي يَسْنِدُ الأَرْضَ بِرَاحَتِهِ الْمَهْدُومَةِ
وَهْوَ يُعَفِّرُ أصَابِعَهُ بالعُيُونِ التي شَهِدَتِ الذَّبْحِ والْخَسْف. 








إنَّنِي أمْلُكُ القَلْبَ 
ويَفْقِدُنِي العَالَمُ الْمَشْغُولُ بِعَدِّ غَنَائِمَ وَزَّعَتْهَا الْمَلائِكَةُ فِي لَحْظَةِ ضَعْف. 








إنَّهُم يَمْلُكُونَ تَسَلْسُلَ الأحْدَاثِ العَاقِل 
تَشَرُّبَ التَّارِيخِ لِنَكْهَةِ الدَّمِ فِي الذُّقُونِ والظُّهُورِ الْمُشْعِرَة 
غَامِقَ الرَّقْصِ عَلَى أنْقَاضِ عَيْنِ الله
حَارِقَ الوَقْتِ عِنْدَ احْتِجَازِ العُنُقِ فِي آخِرِ زَاوِيَةٍ مِن رُوحِ الْمَاءِ العَارِفَة. 




إنَّ الأرض تلك، هذا:
بَرَاكِيْنٌ تَحْلِبُ الغُرُوبَ والشُّرُوقَ إلى رَحِمِهَا لتَتَسَلَّى بالانْتِظَار، مُحِيْطَاتٌ تُجْلِسُ الإتِّجَاهَاتِ الأَرْبَعَةَ عَلَى ظَهْرِ الرِّيْحِ الْمِسْكِينَةِ لِتَحْمِلَهَا، تَنْتَشِرُ مِن عَرَقِهَا الْمُتْعَبِ ذَرَّاتُ البَشَر الْمَسْحُوقَة، لتُغَطِّي سَمَاوَاتِ الجِّذْرِ الْمَجْهُولَة، نَظَرَاتُ الكَائِنَاتِ البَحْرِيَّةِ الغَامِضَةِ فِي قَاعِهَا، شَوَاطِئٌ، تَسْرِقُ مَتَأَمِّلِي جَمَالِهَا عَلَى لُهَاثِهَا الخَارِقِ وتَحْتَجِزُ الْمَاضِي والحَاضِرَ والآتي فِي لَهْفَتِهَا عَلَى الأُفُق.





أيُّهَا الأُفْقُ الْمِسْكِيْنُ القَاتِل 
أنْتَ لا تَمْلُكُ شَيْئَاً....






(4)






لَيْلٌ
كَائِنَاتٌ تَمْتَصُّهُ بِعُيُونِهَا كَامِلاً، لِتَجْتَثَّ ثُبَاتَهَا اليَوْمِيّ، 
سِلْسِلَةٌ مَعْدَنِيَّةٌ تَحْمِلُ بِدَاخِلِهَا حِكَايَةَ الكَوْنِ، 
يَمْتَصُّهَا اللَّيْلُ لِيَعْرِفَ ذَاتَهُ البَارِدَة. 


وكُنَّا نَتَحَلَّقُ كَآلامٍ مَنْبُوذَةٍ، _دُونَ عَنَاءٍ يُذْكَر_ حَوْلَ هَالاَتِ القَمَرِ العَارِفِ، 
ونُغَنِّي عَلَيْنَا قُبُورَنَا الْمَجْهُولَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ السَّاخِن.


هَلْ كَانَتْ مَجْهُولَةً؟ 


كَانَتْ مَسْنُودَةً بِكَلامِ الله الْمُوَزَّعِ بِدِقَّةٍ تُوْرِثُ الجَّهْلَ واليَأْس، 
لِتُخْرِجَ رَأْسَهَا الْمَبْتُورَ مِن سِجْنِهَا القَاعِيِّ الفَاتِر، 
قَاعٌ عَلَّمَنَا إيَّاهُ تَنَفُّسُنَا الْمُنْتَظِم، 
طَمْأنِيْنَةُ جُلُوسِنَا النَّهَارِيِّ بِصُحْبَةِ الفَتَيَاتِ الْمَالِكَاتِ لِرَعَشَاتِ العَالَمِ الخَفِيَّة.


سِلْسِلَةُ مَفَاتِيْحٍ إذاً؛ 
كَانَتْ تَخْنُقُ الْمَشْهَدَ اللَّيْلِيِّ بِأَكْمَلِِه، 
وهِيَ تَكْشِفُ فُحْشَ الأبْوَابِ بَعْدَ يَأسِ طُرَّاقِهَا. 


يالَهَوْلِ الثَّبَاتِ عَلَى الأرْض، 
يالَهَوْلِ التَّحْدِيْقِ فِي الرِّيَاحِ الطَّبِيْعِيَّة،
يالَهَوْلِ اللَّيْل.


إنَّهَا مُجَرَّدُ نَوْبَةِ مَفَاتِيْحٍ تَاهَتْ عَن يَدِ القَانُون، 
ذلِكَ الْمُنْتَظَرُ عِنْدَ بَوَّابَةِ الغَنَائِمِ الفِرْدَوْسِيَّة، 
بِنَظَّارَةِ نَدَمٍ، 
وشُرُودِ سَرَابٍ مَهْزُومٍ بِعَيْنِ الْمَرْوِيِّ مِن آبَارِ الجَّمْرِ السَّحِيْقَة.




(5)






إنَّ الحِجَابَ ضَارِبٌ، عَلَى كُلِّ حَالٍ يُكَالِبُ أنْفَاسَهُ عَلَى الحَوَاسِّ السَّالِفِ ذِكْرُهَا بِغَرَضِ الإحَاطَةِ بِوَجْهِ الْمُطْلَق. رُغْمَ جُلُوسِنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الدَّانِيَةِ مِن أَنْفِكَ الْمُرْتَجِفِ، وشَفَتَيكَ الْمُتَبَاعِدَتَيْنِ حَالَ سِرٍّ يُوْشِكُ عَلَى السُّقُوطِ سَهْوَاً، إنَّ الحِجَابَ لَضَارِبٌ ضَارِبٌ، بِفِعْلِ يَدَيْكَ، فِي القِدَم.


عِنْدَمَا تَحَرَّكَ بَصَرِي تِلْكَ الحَرَكَةَ البَسِيْطَةَ السَّاذَجَة، اسْتَطَعْتُ أنْ ألْمَحَ ذَلِكَ الوَقْتَ النَّادِرَ مِن الطَّبِيْعَة، ولَكِنَّهُ لا يَفْتَأُ يَخْتَفِي. 
بَعْدَ أنْ تَمُرَّ السَّنَوَات، ويُوْلَدُ مِن صُلِْبي أبْنَاءٌ عُمْيَانٌ يَحْلُمُونَ بِرُؤيَةِ ألوَانِ جُلُودِهِم الجَّمِيْلَة ولو لوهلةٍ سَائِلَة، سَيَأْتِي ذَلِكَ الْمَوْقُوْتُ بِنَظْرَتِهِ، ويُحَدِّثُنَا عَن ذَلِكَ الوَقْتِ النَّادِرِ مِنَ الطَّبِيْعَةِ، لأنَّهُ سَيَمْلُكُ القُوَّةَ عَلَى تَثْبِيْتِهِ بَعْدَ كُلِّ مَا تَرَاكَمَ فِي عَيْنَيْهِ مِن عَمَاءٍ أبَدِيٍّ قَهَّارٍ لِمَا يُرِيْد.
سَيَقُولُ لَنَا: 
إنَّنِي أَتَّجِهُ الآنَ بِخَطَوَاتِي نَحْوَ الوَقْتِ النَّادِرِ، إذْ فِيْهِ دَبَّابَةٌ عَلَى الطَّرِيْقِ الْمُؤَدِّي للأشْجَارِ النَّاسِكَةِ، إنَّهَا بِلا شَكٍّ دَبَّابَةٌ ضَالَّة، ظِلالُ جِبَالٍ _بلا جِبَالٍ_ تُلْقِي بِنَفْسِهَا عَلَى انْحِنَاءَاتِ الْمَعْدِنِ القَاسِي للدبَّابةِ، أضوَاءٌ ميِّتَةٌ تَنْـَزلِقُ مِنْهَا بِيُتْمٍ اسْطُورِيٍّ، وعَلَى عَتَباتِ بَابِ الدَّبَابَةِ الجَّانِبِيِّ جَلَسَ شَاعِرٌ مُطْرِقُ الرَّأسْ، وعَلَى شَعْرِهِ سَطَعَتْ صَيْحَاتُ طُيُورٍ جَارِحَةٍ، ومِن أصَابِعِهِ البَوَّاحَةِ سَالَتْ قَطَرَاتُ بَارُودٍ مُسْتَعْمَل. عِنْدَمَا اقْتَرَبْتُ مِنْهُ، رَفَعَ رَأسَهُ غَيْرَ مُنْدَهِشٍ مِن وُجُودِيَ الأعْمَى فِي هَذا الوَقْتِ السرِّيِّ النَّادِر. ومَا كَان لَهُ إلا أنْ تَحَدَّثَ مُشِيْراً بِعَيْنَيْهِ، بِطَرْفٍ خَفِيٍّ إلى الدبَّابَة. كَانَ بِثِيَابِ الحَرْب، وفِي عَيْنَيْهِ نَظْرَةُ الخِيَانَةِ الأبَدِيَّةِ لِمَا يُعْرَفُ بِحَسَاسِيَّةِ الشَّاعِرِ ورَهَافَةِ دَمْعَتِهِ الوَاضِحَةِ عَلَى كُتُبٍ مُهْمَلَة. 




قال:
(يَالَجَمَالِ الْمَعْدَنِ يَكْسُو عُرْيَ الدبَّابَةِ، كَمْ تَحَمَّلَ مِن خَوْفٍ مُحْكَمٍ تَبَخَّرَ مِن جلُودِ الجُّنُودِ، تَحَمَّل مُعَاتَبَةَ الأرضْ _أُمِّهِ_ على تَصَدِّيْهِ الأرْعَنِ لِمَهَمَّةِ الزَّحْفِ البَطِيءِ بِأوَامِرٍ بَدِيْهِيَّةٍ مُرْعَبَة).




دَاعَبَ الأرْضَ، بَل أَخَذَ يَنْتِفُ تُرَابَهَا بِرِيْشَةٍ سَقَطَتْ مِن طُيُورِ شَعْرِهِ، مُحَاوِلاً كِتَابَةَ فَوْضَاهُ الْمُتَلَعْثِمَةِ دَاخِلَ نَظْرَتِهِ لِحَرَكَاتِ الطَّبِيْعَةِ السَّطْحيَّة، لَقَدْ عَادَ إلى إطْرَاقَتِهِ سَالِمَاً، غَانِمَاً بارْتِسَامِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى وَجْهِي، مُحَرَّقاً بِلِذَّةِ اكْتِشَافِي لِمَخْبَئِهِ؛ بِلِذَّة اكْتِشَافِهِ صَبْرَ الدَّبابَةِ عَلَى جَهْلِ الشُّعَرَاءِ والفَلاسِفَةِ وأمَّهَاتِ الجُّنُودِ وعُيُونِ الأطْفَالِ الخَائِفَة. قَالَ (وَهوَ يُطْلِقُ صَوْتَ تَهَكُّمٍ مِن شَفَتَيه):


(هَلْ تَعْرِفُ حُكْمَ الْمَجْهُول؟ وماذَا عَنْ حُكْمِ الْمَنْبُوذ؟ ومَاذَا عَنْ حُكْمِ السَّاقِطِ تَحْتَ قَانُونِ الكَوْن؟ إنَّ لِكُلِّ شَيءٍ يَدٌ فِي مَا يَحْدُثُ لَهَا بِطَرِيْقَةٍ سِريِّةٍ مُضْحِكَة، وإنَّهُ لَمِنَ الخُرَافَةِ أن نَبْعَثَ العُرْيَ الذِي سَنَرْتَدِيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِن أسْفَلِ سَافِلِيْن لِيُجِيْبَ لَنَا بِكُلِّ بَسَاطَة!!. أنْتَ تُرِيْدُ: "بِكُلِّ بَسَاطَة"؟ أنَا أُريْدُ شِعْرَهَا الذِي سَتَتْرُكُهُ خَلْفَهَا بَعْدَ أنْ تَقْتَنِصَ دَرْسَهَا الْمَجَّانِيِّ السَّافِر. لَكَ مِنِّي عَهْدٌ بألاَّ أقْتُلَكْ إنْ تَتَبَّعْتَ سِيْرَةَ الْمَجْهُولِ والـمَنْبُوذِ والسَّاقِطِ تَحْتَ قَانُونِ الكَوْن بِمَعْرِفَتِهِ).


وعِنْدَمَا حَدَّقتُ بأسْرَابٍ شُدَّت لِهِجْرَتِهَا بالذُّهُولِ، قَالَ:


(يَا عَزِيْزِي الْمَخْدُوع، إنَّ للشُّعَرَاء قِيْمَةَ قَتْلٍ فِي حَدِّ ذَاتِهَا الْمَسْنُون، ويَحْمِلُونَ فِي هَذا الخَيَالِ تَأوُّهَاتٍ مَفْغُورَةَ الذَّبْحِ لأجْلِ التِهَامِ سُلطَانِ الحَيَاة).
......




(إن الدَّبَابَةَ لذَاهِبَةٌ فِي طَرِيْقِهَا للأشْجَارِ النَّاسِكَة، سَتَتَعبَّدُ إلى الأَبَدْ، رَاثِيَةً نَوَايَا القَذَائِفِ الَّتِي فَارَقَتْهَا لِتُثبِّتَ أَقْدَامَ العُرُوشِ الْمَائِيَّةِ لِلحُكَّام، رَاثِيَةً حَالَ الأمْطَارِ التِي سَالَتْ عَلَيْهَا وهِيَ تَهُمُّ بإبَادَةِ الْمَزَارِعِ الْمُكَدَّسَةِ بالنَّبَاتَاتِ الجَّافَة، سَتَتَعَبَّدُ إلى أنْ تَنْتَقِلَ إليهَا قَابِلِيَّةُ الحَرْقِ مِن الأشْجَارِ النَّاسِكَة. حيْنَهَا سَتَنْتَهِي، سَتَبْدَأُ بَرَاكِيْنُ الجَّمِيع بِشَقِّ ثِيَابَهَا، لأنَّ الأسْلِحَةَ الْمَزْرُوعَةَ فِي رُوحِ الإنْسَانِ سَتُشْغَلُ بالنُمُوِّ الحَقِيْقِيّ، بَعْدَ تَجَرُّدِ الأسْلِحَةِ الفَتَّاكَةِ مِن بَصَمَاتِ السَّمَاءِ ورَائِحَةِ الطَّبِيْعَةِ وشِعْرِ الشُّعَرَاء).




ثمَّ إنَّنِي يَا أَبِي أتَنَازَلُ عَن تَحَسُّسِ شِفَاهِ الْمُتْعَةِ بِأسْمَالِي،
تَارِكَاً مَرَارَتَهَا تَعْبُرُ عَمَائِي، شَاكِيَةً لَكَ بُعْدَكَ عَنْهَا.


ثُمَّ إنَّنِي امْتَلأتُ بالشَّاعِر..


ثُمَّ إنَّنِي لَبَرِيءٌ مِنَ الحَيَاة.




(6)




مِنْ آخِرِ السَّنَوَات، 
مِن آخِرِ قِطْعَةٍ فِي ثَوْبِهَا، 
وهِيَ تُرَفْرِفُ غَاوِيَةً هَوَاءَ التَّارِيْخِ العَلِيْلِ، بِرِئَةٍ سَكْرَانَةٍ بالشَّمَاتَة
مِن آخِرِهَا الْمُسَمَّرِ بالنُّبُوءَات، 
الْمَشْفُوعِ بِنُبُوغِ السَّحَرَةِ وشَحَّاذِي العَمَى:
الْمُرَقَّمْ، 
الهَالِكِ بأشْلاءِ الْمُلُوكِ الْمُغْرِيَة، الْمُهَدَّلِ بِغَنَجِ الحُورِ العِيْن، الْمَجْرُوحِ بالخَيَالِ المُطْلَق.
من آخرها:
تَخْرُجُ شَمْسٌ كَاذِبَةٌ، 
بِخَطَوَاتٍ خَفِيْفَة، 
دُونَ أنْ تَحْرِقَ القمَاشَ الوَاهِي، الفَقِيْر.
 تُعَلِّمُ الأَرْضَ، الَّتِي تَسْتَقْبِلُهَا، تَوَهَانَ الحِسِّ المُعَرِّضِ لِلْحُبِّ وتَضْحَك... 


لَمْ تَخْتَلِف الصُّورَةُ كَثِيْرَاً،


فِي أوِّلِ السَّنَوَاتِ كَانَتْ اليَدُ البَشَرِيَّةُ مُجَوَّفَةً بِشَكْلٍ مَعْقُولٍ لِتَحْتَوِي الشَّمْس، والَّتِي تَتَسَلَّلُ الآنَ هَارِبَةً، تَجْوِيْفٌ دَائريٌّ ثائرٌ بالبِدَايَةِ والنِّهَايَة، دَاخِلَهَا تَتَلألأُ صُوَرُ المُدُنِ، الغَابَاتِ، الحَرَائِقِ المُعَلاَّةِ عَلَى سُطُوحِ القُرَى، عُيُونِ الأطْفَالِ البَعِيْدَةِ وهِيَ تَشِدُّ انْتِبَاهَ الأمْطَارِ العَابِرَة، تَتَكَثَّفُ صَرخَاتِ الإنَاثِ التَّائِهَاتِ فِي الدَّغْلِ البَائِر بَيْنَمَا تَتَغَزَّلُ مِيَاهُ البُحَيْرَاتِ بأجْسَادِهِنَّ الضَّاوِيَة، صورُ الثَّعَالِبِ الوَحِيْدَةِ وَهِيَ تَتَسَامَرُ أَمَامَ جُحُورِ الأرَانِبِ الشَّهِيْدَةِ، الجِّبَالِ بِسَلاسِلِهَا الجَّمِيْلَةِ المُحَلاَّةِ بِقَلائِدَ مَحْبُوكَةٍ بالجَّمَاجِمِ البرَّاقَة، و للمُحِيْطَاتِ أحْوَالُهَا الشَّارِدَةُ فِي تَفْسِيْرِ الحُريِّةِ الميِّتَةِ فِي قَاعِهَا.. دَاخِلَهَا 
كَانَتْ الصَّيْحَةُ الخَالِدَة 
والجَّسَدُ خَالِقُ الصَّدَى 
والرُّوحُ كَاتِبَةُ مَسْرَحِيَّةِ القَبْرِ عَلَى تُرْبَتِهَا.


(7)


خَارِجَ خَارِطَتِكْ:

البَيْتُ القَابِلُ للكَسْرِ
خَالِقُو هَوَائِهِ بِأيْدٍ مَهْجُورَةٍ مِنَ الطِّيْن؛ مُغَرِّدَةٍ بِدُمُوعِ الخَفَافِيْشِ
حَدِيْدُ المَلاَئِكَةِ المُسْتَجِمِّ بآيَاتِهِمْ.. أَسَّسَهْ
الرَّقِيْبُ الَّذِي مَادَ عَنْ قَامَةِ العَبَثِ البَشَرِيِّ الَّتِي انْتَصَبَتْ دَاخِلَهْ
يَتَغَوَّلُ بالمَطَرِ المُتَطَايِرِ مِنْ سَقْطَتِهْ
ويُلَيِّنُ قَلْبَ الجِّدَارِ الْمُسَوِّرِ للبَيْت،
جِدَارٌ كَسَى عَوْرَةَ النَّائِمِيْنَ بِدَاخِلِهْ
ضوءُ أَعْيُنُهُم سَالِمٌ
_بِحِمَايَتِهِ_
مِن مُدَاعَبَةِ الفَضَلاتِ المُسِنَّةِ
شَمْسُكَ تَأْتِي
تتمرَّدُ، تُشْفِي حُدُودَ الفُصُولِ بِأَنْ تُحْدِثَ الصَّرْخَةَ الكَافِيَة؛ للخُرُوجِ عَلَيْهَا
وللبَيْتِ أنْ يَرفُضَ الدِّفء
يَشْرَحُ مَمْلَكَةَ اللَّيْلِ دَاخِلَ صَرَعَاتِهِ
وجُنُودُ النُّجُومِ الَّذِيْنَ قَضَوا نَحْبَهُم فِي مُصَارَعَةِ الصَّخَبِ المُسْتَعِرْ 
فِي الزَّوَايَا
وِفِي شَفَقٍ يَكْتَوِي بِالغُبَارِ القَدِيْم
ظِلالٌ تُحَرِّكُ سَاكِنَهَا 
مُنْذُ أنْ كَانَ مُلاَّكُها فِي سَرِيْرٍ يَرُجُّونَ ثَلْجَ المُلاَمَسَةِ الشَّاسِعَة،
يَشْغِلونَ تَوَاطُؤَ أغْلالِهِم بِأَنِيْنِ اللَّهَب
وَهْوَ يَنْفُضُ قُوَّتهُ عَبْرَ قُبْلَة..
أَلَمْ يَكُن الظِلُّ أصْلاً 
غِوَايَةَ ذِكْرَى الجَّسَد،
وحُلمَ الجَّمَادِ بِحُريَّةٍ مُسْتَحِيْلَة؟!




خَارِجَ خَارِطَتِك:


يَقُومُ مَكَانَ الخيَامِ _الَّتِي اقْتَلَعَتْهَا أَظَافِرُ تَارِيْخَهَا_
أَثَرُ الطِّفْلِ حِيْنَ حَبَا تَحْتَ رَحْمَتِهَا 
مُسْلِمَاً بَالَهُ لِتَخَيُّلِ أَشْبَاحِ جَدَّتِهِ فِي القمَاشِ الْمُسَرَّبِ لِلحَرْقِ
كَاسِرَاً عَيْنَ شَمْسٍ تَرَصَّدَتِ النَّفَسَ البَارِدَ فِي صَوْتِهِ
وفُضُولٍ يَضُجُّ بِكَفِّهْ


وَهْوَ
مِن 
شِدَّةِ 
الرُّوْحِ
يَقْبَلُ أنْ يَشْتَعِل.




تَقُومُ مَكَانَ الرِّيَاح
شَهقَةُ امْرَأةٍ ضَاعَ مِنْ جِلْدِهَا جِنْسُهَا؛
ضَاعَتْ الخَطَوَاتُ الَّتِي أطْلَقَتْهَا بِصَحْرَاءَ فَسَّرَتِ الرِّيْحُ مَلْمَحَها المُتَقلِّب.
والسَّنَوَاتُ الَّتِي لَمَعَتْ فِي حِجَابِ مَبَاهِجِهَا لَمْسَةٌ تُفلِتُ اللَّيْلَ مِن سُترِهِ
وهِيَ
مِن
شِدَّةِ
الطَّلْقِ
تُسْرَفُ فِي جَنَّةٍ وَاشِيَة



تَقُومُ مَكَانَ الدِّمَاءِ
ارْتِجَافَةُ كَفِّ الَّذِي جَرَّحَ الأرْضَ وهِيَ تُطِلُّ _بلا كَلَلٍ_ مِنْ مَقَاصِدِهَا الدَّائِرَة
مِنْ أَصَابِعَ شَائِخَةٍ تَسْرِقُ الحِبْرَ مِن صُوَرٍ ثبَّتَتْهَا الحُرُوبُ البَرِيْئَةُ:
طِفْلٌ يُسَمِّي القَذِيْفَةَ نَجْمَاً
ثَوْرٌ يُدَوِّرُ شَهْوَتَهُ فَوْقَ أنْقَاضِ أُنْثَاهُ
سَقْفٌ يُجَمِّلُ نَظْرَتَهُ للسَّمَاءِ الَّتِي تَخْتَفِي
وهِيَ
مِن 
شِدَّةِ
الأرْضِ
تُشْفَى بِيَأسِ اسْتِدَارَتِهَا الخَالِدَة.


يَقُومُ 
المَكَانُ
لآلِهَةٍ 
بَائِدَة.




(8)






وكَانَ ذَلِكَ لأَجْلِ نِسَاءٍ شَفَّافَاتٍ وخَمْرٍ مِسْكِيْنٍ يَجْرِي مَغْلُوبَاً عَلَى أَمْرِهِ فِي أنْهَارٍ حَائِرَةِ الاتِّجَاهِ من تَحْتِهِمْ، 
وكَانَ ذَلِكَ لأَجْلِ أَعْلامٍ خَرْقَاءَ فِي أَطْرَافِ المَجَرَّةِ تُعْلِنُ حُدُوداً قَابِلَةً للإحْتِضَانِ، تُعْلِنُ عَنْ تُرْبَةٍ تَحْتَمِلُ قِيَامَ قَوَائِمِ عُرُوشٍ جَارِحَةٍ عَلَيْهَا 
وكَانَ ذَلِكَ بِتَثْبِيْتِ العُيُونِ كالدَّبَابِيْسِ عَلَى خَرَائِطَ تَنْتَفِضُ بِدَاخِلِهَا أَرْوَاحُ الخَرَائِبِ الرَّاعِفَة، 
وكَانَ ذَلِكَ بالخَرْقِ الْمَتْلُوِّ عَلَى رُؤُوسِ طُيُورٍ غَائِبَةٍ فِي تَسْلِيْحِ الضُّوءِ والظَّلامِ بِأَجْنِحَتِهَا.


تَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ يَدُ الْمُرَاقِبِ، 
يَدُ الْمَذْبُوحِ عَلَى أمْرِهِ، 
يَدُ الرَّاهِبِ عَلَى جِلْدِهِ الْمُتَمَرِّد، 
يَدُ الْمَعْقُوفَةِ عَلَى كُتْلَةِ أبْنَائِهَا الْمُتَوَرِّمَة، 
 
مِن بَيْنِ كِلِّ القُطْعَانِ أسُوقُ تِلْكَ الَّتِي تُدْرِكُ حَتْفَهَا فِي شِفَاهِ الهَاوِيَة.


أَسُوقُ لَكَ قُطْعَانَ السُّحُبِ حَتَّى أَدْنَى حَرَارَةٍ تَنْفُثُهَا الأَرْض، حَتَّى فَمِ الوَرْدَةِ الْمُسْتَيْقِظِ تَوَّاً، حَتَّى صَدَى الصَّرْخَةِ الْمَشْنُوقِ عَلَى حَوَافِّ الأعْشَابِ الْمَكْشُوفَةِ للرِّيْحِ العَاصِفَة. السُّحُبُ تُجْهِشُ بِرُوحِهَا مِن تَأَثُّرِهَا بالقِطَعِ الحَرَارِيَّةِ العَابِثَةِ ذَاتَ الضَّفَائِر؛ الْمُنْتَشِرَةِ عَلَى كَامِلِ الكَوْنِ بِلاَ آيَاتٍ تَرْفَعُ آذَاناً لتُعْلِنَ صَلاَتَهَا الجَّهْريَّةَ، كَيْف؟ وجَامِعُهَا مَحْرُوْسٌ بِتَقَلُّبَاتِ اللَّيْلِ ومُضَاجَعَةِ الكَوَابِيْسِ الَّتِي بِلا فَمٍ ولا رَائِحَة، تَبْويْبِ الأَبَالِيْسِ _عَلاَمَاتِ الأَرَامِلِ مُوَهِّجَاتِ الذِّكْرَيَاتِ بِشُهُبِ القَلب_، كَيْف؟ وَصَوْتُهَا مَسْحُوقٌ يَحْفَظُ مَاءَ وجْهِهِ بِتَجْرِيْحِ حَلْقِ مُتَجَرِّعَهُ الْمُفْتَرَضْ؟! كَيْف؟ وسَمَاوَاتُ رُؤَاهَا تُمَاسِكُ رُوْحَهَا بِشَظَايَا الْمَرَايَا الْمُثبَّتَةِ عَلَى بَطْنِهَا هَنِيْئَاً لِسَلاَمَةِ العَيْنِ صَاحِبَةِ اللَّفْتَةِ البَارِعَة؟!.






وأَسُوقُ قُطْعَانَ السُّحُبِ عَارِفَاً بالذِّئَابِ الَّتِي تَنْسَلُّ مِن قمَاشِ قَمِيْصِي السَّارِح، عَارِفَاً بالأطفَالِ الْمَلُولِيْنَ البَاحِثِيْنَ عَن ابْتِسَامَةٍ فِي صُورَةِ السَّحَابَةِ الْمُبَاغَتَة، عَارِفاً بِمَوَاعِظِ الْمَنْفِيِّينَ قَاتِمَةِ الجَّدْوَى وهِيَ تَرَى فِعْلَهَا يَتَجَذَّرُ فِي تَرَدُّدِ الأمْطَارِ الَّتِي لَنْ تَهْطُل.


وأسُوقُ لَكَ القُطْعَان وهِيَ تُسْقِطُ فَضَلاَتِ لَمَسَاتِهَا المُهْدَرَةِ طَعَامَاً للعُمْيَان.




(9)






السَّنَابِلُ تشْغِلُ أروَاحَهَا بِقَضَايَا الرِّيَاح 
بأرْحَامِهَا الْمُشْرَئِبَّةِ بالطَّيْرِ والصَّيْد، 
والصَّرَخَاتِ الوَلُوفَةِ للشَّمْسِ فِي غَرْبِهَا 
بانْتِفَاخِ الفُصُولِ التِبَاسَاً وفَتْكَاً بِقُرَّاءِ مُسْتَقْبَلِ الثَّمَرِ الْمُرْتَخِي فِي الفُرُوعِ العَلِيْلَةِ 


أَشْبَاحُهَا _السَّنَابِل_ تَخْلِقُ أرْصِفَةً فِي ازْدِحَامِ الْمُدُن، 
وازْدِهَارِ سُلاَلةِ أبْنَائِهَا بالصِّنَاعَةِ والتُّرْبةِ الْمَعْدَنِيَّة


أشْبَاحُهَا كَائِنَاتٌ مُشَرَّبةٌ بالتَّشَرُّدِ فِي عَيْنِ فَاحِصِهَا الْمُنْتَظِر،
وَهْوَ يُغْرِقُ أقْدَارَهَا فِي كِتَابِهْ.


(مَلاَئِكَةٌ غَارِقُونَ بِوِحْدَةِ لِذَّاتِهِم يَشْرَحُونَ انْقِطَاعَ الْمِيَاهِ عَنِ الرِّيْحِ، والسُّحُبُ انْتَشَرَتْ فِي جِيُوبٍ يَدُسُّوْنَ أَطْرَافَهَا فِي بَوَاكِيْرِ أنْوَارِهِم). 


وكَأنَّ السَّنَابِلَ _بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْمُدُنِ الفَاتِكَة، بِهَزَائِمَ لا تَنْتَهِي_ 
شُلَّةٌ مِن أرَامِلَ غَالَبَهُم فِي الدُّمُوعِ العَمَى، 
يَتْرُكُونَ سُلاَلَةَ أزْوَاجِهِم للقِيَامَةِ،
 والذَرَّةِ الهَيدْرُوجِيْنِيَّةِ الحَائِرَة.






(10)






أغَانٍ تَتَخَلَّلُهَا لَحَظَاتٌ صَامِتَةٌ يُلقَى عَبْرَهَا سَلامٌ،  (لأيِّ شيء؟) 
أغَانٍ كهذِهِ 
لا تَحْيَا إلا دَاخِلَ قَارُورَةٍ حَدَّدَ مَادَّتَهَا حَاكِمُ الكَوْنِ العَظيمِ لَحْظَةَ مَسَّهُ حُلمُ الإنسان. 
مَادَّةٌ خَطَّاءَةٌ تُشْوَى بِخَطَواتِ الطُّرُقِ المَسْدُودة، تُمنحُ البُهتَانَ حينَ يَلفُظُ ضَميرُهَا طَلَبَ القُبْلَةِ.
وقد كانَ للرِّيحِ أَيادٍ أيْضَاً عِندَمَا تُؤمِنُ بِأنَّ لَهَا خُلوَةً في هذا العَالَم، وكانت تُمسِكُ القَارورَةَ بين يَدَيْهَا كَوَجهٍ عُذْرِيٍّ يَأَّسَهُ الإنْتِظَار، وتَرْجُو الأغاني بِلُغَتِهَا الضَّائِعةُ في الصيغِ الشِّعْريَّةِ أنْ اعْمَلِي أبداً داخِلَ الهوَاءِ الذي مَرَّ فِيهِ أوَّلُ طائرٍ أنْجَبَتْهُ السَّمَاوَاتُ، وهوَ يُؤَدِّي سَقْطَتَهُ الأخيرَةَ، ولْيَكُنْ عَمَلُكِ تَمِيْمَةً تُجَنِّبُ الحَيَاةَ حَسَدَ الملائِكَةِ الصَّائِبِيْن، تَميمَةً تَشنِقُ فُتاتَ الأصابِعِ الَّتِي تُنْجِبُ نَارَاً وتُلوِّثُ نُطْفَ اليَقِيْنِ في ثَلْجِ تَارِيخِهَا، تَمِيْمَةً تَحْكِي للمَوْتِ تَفَاصِيْلَ جَسَدِهِ الَّتِي تَكْسِرُ كلَّ مرآةٍ وَقَفَ أمامها متأمِّلاً، وتُكسَرُ داخِلَ كلِّ عينٍ لَمَحت صوَرَهُ الزَّائِفَة.


كانَتْ نَظْرَةُ الأرْضِ صَمَّاءَ دَائِمَاً.


يُنفَى الطَّائِرُ فِي الهَوَاء،
أصْلاً كَانَ فِي العَدَمِ الْمُلْتَهِبْ،
لِهَذَا، أصْبَحَ يُغَرِّدُ، ويَصِيْحُ بَيْنَ مُقَاوَمَاتِ الهَوَاءِ الجبَّارَة. 


تَتَسَلَّقُ الكَوَارِثُ السَّكْرَانَةُ جُذُوعَ الأشْجَارِ اللَّينَة،
تَتَوَهَّمُ خُلُودَهَا بَعْدَ تَقْبِيْلِ الأوْرَاق،
لَكِنَّ الطَّائِرَ بالْمِرْصَاد. 


لِكُلِّ شَجَرَةٍ (إنْدَايَةٌ) فِي الجُّذُورِ 
تُخْفِقُ فِي تَعْرِيْفِ هَوَاءِ الْمُتَنَفِّسِ بالعَبَرَات، 
تُفْلِحُ فِي تَصَوِّرِ السَّمَاءِ وَهِيَ تَسِنُّ قَوَانِيْنَهَا _السَّارِيَةَ الْمَجْهُول_ عَلَى جَسَدِهِ،
الطَّائِرُ يَأْتِي لِيَنْقُرَ خَشَبَ الجَّسَدِ الْمَخْفِيِّ بِرُعُونَةٍ،
الطَّائِرُ بالْمِرْصَاد.


صُورَةُ الصيَّادِ ثَابِتَةٌ فِي عَيْنِ الطِّفْل 
(الصيَّادُ: أبَاهُ الْمُبْتَسِم)
مَنْ عَلَّمَهُ الأسْمَاءَ جَمِيْعَاً
عَلَّمَهُ الذَّنْبَ الْمَعْقُوفَ زِيْنَةً حَادَّةً فِي شُبَّاكِ غُرْفَتِهِ المفتوح، المُتوَحِّش، 
عَلَّمَهُ تَدْرِيْبَ البِحَارِ عَلَى سُلُوكِ شَخْصِيَّاتِهَا اللانِهَائِيَّة، الأنْهَارُ الْمُتَّهَمَةُ بالإغْرَاقِ السَّهْل،
عَلَّمَهُ إصَابَةَ الهَذَيَانِ فِي مَقْتَل، حِيْنَ يُحْكِمُ الطَّائِرُ بَصْمَتَهُ عَلَى إنَاءِ الخَمْر الْمَكْسُورِ ويُجْرَح،
عَلَّمَهُ دَهْنَ الأيَادِي الَّتِي سَتُصَافِحُهُ _طَوَالَ العُمْر_ بِرَائِحَةِ غِشَاءِ العَيْنِ الوَاهِي.
(صُبَّنِي يا أبِي فِي أسْمَاءِ الكَوْنِ حَلِيْبَاً لَمْ يَفْطِمْ مَجَرَّةً بِيَقِيْنٍ يُلْمَس)


صُورَةُ الصيَّاد ثَابِتَةٌ فِي عَيْنِ الطِّفْل، 
صورةُ السِّرْبِ الْمُهَاجَمْ؛
الشِّتَاءُ الرَّاجِفُ دَاخِلَ عظام أفْرَادِهِ الْمُتَصَلِّبَة،
البَقَاءُ الْمُنْتَفِعُ بِكَوْنِهِ أجْنِحَةً،
والطَّائِرُ 
بالْمِرْصَاد.








تَبْهِيْمُ الْمَعْبَدِِ بِخُلُودِ السَّاجِدِيْن
لا يَعْفِيْهِ مِن الشَكِّ الْمُتَدَفِّقِ مِن الجَّبْهَةِ السَّاجِدَة،
الشكُّ الَّذِي يُخَلِّفُ كَهْفَاً فِي تَجَعُّدَاتِ الْمُتَأَمِّل. 


تَبْهِيْمُ الْمَعْبَد بِنَثْرَ الطُّيُورِ عَلَى سَقْفِهِ الحَائِر، 
لا يُشْفِيْهِ مِن غِيَابِ الشَّمْسِ عِنْدَ الغُرُوب، ومُتَرَتّبَاتِ ذَلِكَ، مِن انْجِذَابِ الطُّيُورِ لِوَكْرِ الشَّمْسِ الكَاذِبْ، وتَفَتُّتِ أَجْنِحَةِ الخَفَافِيْشِ فَوْقَ الرُّؤُوسِ الغَافِلَة.


الطَّائِرُ بالْمِرْصَاد.


يُنْفَى الهَوَاءُ فِي العَدَم، 
يَبْقَى اللَّهَبُ مُعَلَّقَاً بِنَظْرَةِ الطَّائِرِ الأبَدِيَّةِ للبَريِّةِ الخَائِفَة،
وَهوَ مُثبَّتٌ أَعْلَى صُخُورِ الجَّحِيْمِ الْمُرَمَّمَةِ بِتَشَقُّقَاتِهَا.










عينُ الجنَّة






سَاقِيَةٌ سَكْرَانَةٌ فِي أُُفُقٍ مَيِّتٍ تَدْعُو صُقُوراً جَائِعَةً لِتَأَمُّلِ الْمَاء:
مَاءُ الْمَلائِكَةِ القَابِضِيْنَ عَلَى مَصَائِرِ الفِئْرَانِ الْمَبْذُولَةِ للبُيُوتِ الجَّمِيْلَة،
مَاءُ السَّلاسِلِ الكَاسِيَةِ لجِرَاحِ الرَّاكِضِ العَارِي فِي سَاحَاتِ الْمُلُوكِ الرِّيَاضِيَّة،
مَاءُ كَمِيْنِ النَّشْوَةِ مُغْتَرَفَاً مِن سِيْقَانِ الجنَّةِ وَهِيَ تَتَأَوَّهُ مِن وَطْأَةِ خَيَالاَتِ الأَرْضِ.




فِي النِّهَايَةِ؛
كُرَةٌ أَرْضِيَّةٌ تُوْحِشُهَا لَمَسَاتُ الأَقْدَامِ الْمُرْتَعِبَة؛
سَاقِيَةٌ سَهَّارَةٌ تَكْشِفُ عَوْرَتَهَا عِنْدَمَا يَعْكِسُ الغَفَّارُ اتِّجَاهَ الزَّمَن.





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

إجلالٌ ونفورٌ أمام كلام الربّ: حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة"

تنقيبات طينيّة (13) خطاب أَ ماديو : " إجلا لٌ ونف ورٌ أمام كلام الربّ " حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسييه مأمون التلب مُقدِّمة طينيَّة: (1) أ عود مرةً أخرى إلى باب (تنقيبات الطينيّة) لقراء مد وّ نتنا ، حيث أزور كُ تُ باً وكُتّاباً آخرين ، وفي الحقيقة فإن الدَّاعي لدخول الباب عادةً يأتي من نصوصٍ وكتاباتٍ أثَّرت فيَّ حدّ الألم والمعاناة والفرح واللذة الهائلة، وغيَّرت فيَّ بعمق، وصراحةً لم يحدث ذلك من ذ مدّة؛ صحيح أنني استم ت عت بمئاتٍ من الكتب الجيّدة خلال سنوات ال ا نقطاع عن العودة هنا، تعلَّمتُ الكثير وانتقلتُ إلى عوالمٍ وبلادٍ وأناسٍ آخرين، إلا أنني فوّتُّ "قطار الليل إلى لشبونة" إلى هذه اللحظة، والتي يتكاملُ فيها عالم القطار مع عالمي الخاص وحياتي الراهنة؛ حيث العجز لا اليأس، والمراقبة لا المُشاركة، أي التقدّم في العمر محسوساً بقوّة، وبالضبط عند مشاهدة الاستبسال الخارق لأجيال اليوم وحلمهم ببناء عالمٍ جديد! إنه لمن المُدهش، بعد أكاليل الهزائم التي تطوّق أعناقنا بأشواكها، أن ترى الحياة تتجدَّد رغم أنف عدميّة وانغلاق آمال عالم ا...