التخطي إلى المحتوى الرئيسي

النور أحمد علي: إلى مأمون التلب


إلى مأمون التلب
النور أحمد علي

عزيزي مامون
هل جَربت أن تصحو فجأةً، لتجد أصابعك تَلثَغُ لغةَ المشي؟ وهي غير قادرةٍ عليه، أو على الحبو؟ هل جربت أن تصحو، فجأةً منتصف النهار، لتجد جسدك، كلُّه، قدماً حافيةً، تمشي على صخور ظلِّك الشفرية التكوين، والمجلوبة من جزيرة «الخبيء»: وهي جزيرة لا توجد إلاَّ في رأسي؟. هل جَرَّبت أن تنتبه، فجأةً، إلى ظلِّك المُتَشَكِّل من صخور جزيرة «الخبيء» وهو يركلك، بكل شراسةِ الظلال، ويتهمك بالفجور وخيانة الماعون؟ وقيل المأوى في دعوى ثانية؟.
هل جربت أن تنام، وتصحو، لتجد كلك مملوءٌ رملاً؟.
هل جربت أن يركلك الله؟ ثم تتعجب كيف اهتدى إليك؟ أنت المموه في الشعر والرسم؟ هل جربت أن تصحو منتصف صحوك، لتجد كُلّك نمل، وسط غابةٍ من آكلي النمل؟! هل جربت أن تنام، وأنت مملوء عطشاً، وتحلم أنك غابة ممتدة من العطش، ثم يركلك الله، في حلمك وصحوك في محيطٍ عطشيٍّ، وكلك ثقوب سوداء؟ هل جربت أن تنام، وأنت محاصرٌ بزرد الواقع، أملاً أن تحلم بأعشابٍ برِّية، وطيورٍ برِّية، ورياحٍ برِّية، وفضاءٍ برِّيٍّ؛ ثم تصحو مزعوراً وقد رحلت جميع الآلهة، تاركةً لك قبراً هائلاً، بمساحة الكون، ووصيةً برثاء العظام؟؟
عزيزي مامون
هل جربت أن تصحو ـ لو تُرِكَ لك الخواء مساحةً للنوم ـ فـلا تجدك؟ تبحـث عنك في فضـاء سراويـلك، فلا تجــد إلاَّ «غيمةً» تعصفها الرياح؛ الرياح الحمراء، وكان أكثر مدحك فيها. تدخل ذاكرتك، فلا تجد ألاَّ بقايك من الوجع، ولا تجدك. تحاول إشعال شمسك الخاصة، بما تبقى من جندِ أبجديتك، علَّ ظلَّك يسقط، أو يتدلى من علياء غيابه، وثيقةَ إثباتٍ ونفيٍّ، في آن؟ تسخر منك شمسك، وجندك، وظلّك المثقوب من كل الجهات؟.
....
عزيزي مأمون؛
احتشدت كلّي للكتابة لك، كَونِي مررت على خاطرك، وكونك تذكرت المدعو النور أحمد علي، والذي كنت أعرفه، قبل تحولاتي الأخيرة إلى حالة السيِّد النسي!. ولكن، وفجأة، احتلت كل صخور العالم رأسي، وهرب دمي الحريقة، كثعبان دهمته الزلازل؛ راقبته، وهو في كامل نبوءته، وهو في كامل رعبه الأنيق، وهو يقذفني بنظرةٍ شائكة، كلها أسىً وسخرية! قلت: هذه لحظة شعرية بامتياز، ومجدت غيرتي.  لَوَّحتُ لهُ بصخرةِ يدي الخالية إلا مما مَدَّها به الصخرُ من بلاغة! ورجعت إلى كيس عظامي مُحتَلاً بكل «أشياء» العالم. لم أجد فيَّ إلاَّ هامشاً متواضعاً، يسمح لي بشكرك.
«الشكر»، هذه الكلمة البائسة، حدّ اللاشيء، بكل حجبه وغيامه، والمذرية حدَّ الإسفاف ببلاغة الأحضان، وبفضاء البصر.
أُتابعك..؟ نعم. أَقُصّك أثرك المفضي إلى الحلم؟.. نعم. صداقة الورق خيارٌ جوهريٌّ من خياراتي؛ هناك طائر دمي مهتم جداً بصناعة الملح، وتدجين الرياح، وتشكيل الألوية وفرسانها، وتمجيد الظنون! حتي أنني عرفت في آخر نشراتها، ومن الصديق ثيودور نولدكة: لماذا سحل «الصحابي» الفارس عبد الله بن مسعود، وجُلِدَ حتى حدود العظم ـ وهو والي الكوفة ـ ولماذا أُحرِقَ مصحفه: المعتمد بخام (محمد بن عبد الله): ذلك لخلو مصحفه من سورة الفاتحة والمعوذتين، باعتبارها أدعية، وليست قرآناً؟!.
في الفضاء الورقي، أجد ما تبقى منيّ.
تحلصت مؤخراً من جميع حواسي، أودعتها كيس ظلِّي؛ أمشي. لا أنا! أنام، لا أن! أمّا حين ينام كيس ظلِّي بجانبي، مملوءً بكل حواسي، وظنوني، أراقبه كما أُرَاقِبُ جيفةً يتحاشها العفن.
أنا أفتقدني، أشكرك أنك ذكرتني بي.
النور
ـــــــ
النور أحمد علي، شاعر وتشكيلي من السودان، ولم نلتقي إلا عبر الوَرَق. مدونة النور: http://watukb-taktoooktalk.blogspot.com/

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

The Beauty of the Silly - نجلاء عثمان التوم

 The Beauty of the Silly  نجلاء عثمان التوم إلى عثمان حامد سليمان   هل يمكن تشريح الأصالة؟ هل يمكن الكشف عن شعوبها الداخلية دون مجزرة؟ أنا مدفوعة هنا بالحجب الأصيلة التي يغزلها الغناء السوداني حول نفسه فيبدو لنا أحياناً شيئاً محيراً، لامع الحيرة . عندما نتجرد من العصاب الذي نسميه الفهم، وننطلق في رحلة متحللة من كل غاية، ونستمع إلى الأغاني السودانية بأرجلنا ومصاريننا، نشعر أن الطاقة التي تتهدج في الجو هي، ولا شيء خلافها، الهوية. لكن تظل أصالة هذا الغناء شيئاً غامضاً جداً وعصياً على التعيين. ثمة إستراتيجيات، أعتقد، أيّدت هذه الجذوة التحتية. أولاً تحتجب الأصالة، في معظم الأحيان، في تمويهات هزلية تنتجها قوالب شبه ثابتة محكومة بشهوة الرجز، والطلاقة الشعبية، والنبرة العادية في الكلام. فالغناء في الأساس هو مكان التغزل في اليومي والعادي في أقرب نسخه إلى الواقع. وكلما تشبثت الأغنية بسوقيتها المعروقة، كلما تصير إلى درجة من أصالتها الصحيحة. لكن الفن هو دائماً تدخل معقَّد، فلا نجاة من سطوته، لكن التحايل عليه ممكن. فعندما تبدأ أغنية ابتهالية، فيها تسجيل لمغامرة البلا...