التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قصائد ـ ميرغني ديشاب


قصائد
ميرغني ديشاب


(1)
هُوَ المَوْتُ
فاختَر طريقينِ أو كفَنيْنِ؛
طريقٌ إذا ما رأيتَ افتَرَعتَ بَهَاكْ،
وطريقٌ، لا تَسيْرُ العصافير فيها،
أَعلى من النّخل، أقصَرُ من قامةِ الرَّملِ.
أنت كما طلقةٍ إن خَرَجت لا تَعود إلى البندقيَّة؛
ليس كالبرقِ لَمعته واحِدَة،
كالبحرِ في مدّه السَّرْمَدِيِّ
كالموتِ في رفقةِ النّاس سِرَّاً وجَهْراً.
تَكَلَّم!
فلا شيء يَبقى إذا ارْتَحَل الموت منك إلى طفلةٍ بينَ بيْن؛
سواداً، بياضاً، فضاءْ.
لكَ الشاطئ المُرْجَحِنُّ كما لمعةِ السّيفِ
فاختَر
طريقين، نَجْمَهُمَا في فضائِكْ.

(2)
أمَّا القراءات
فسبعٌ وعشرٌ وأُخرى
لغةٌ هذه لوحة الورد فيها تناسل أوردةً من شَفَق،
وأخرى على راحة الكفِّ يَرتَجُّ فيها الكلام،
لا تلتَمِس،
لوحةً، لغةً، في بقايا من الرمل،
قاب قوسين من الرِّيحِ.
أخرى هنا،
لاهبةً في البريد لنَجمٍ ونَجمْة،
وأخرى، تُحوِّم أعلى من القمر المتدلِّي لعُشرَتِها.
هي من شهقةِ القَمْحِ للماء،
من ضحكةِ النهرِ حين يُفاجئه بالبياض السَّمكْ؛
بلونٍ سيعرفه العاشقون آناً، ويَعرفُهُمْ
غائبينَ، جميلينَ في تمائمهم كاليمام.

(3)
الأرضُ تَرْتَجُّ، تَلفظ أَلغامها،
قريباً من الأرجل الحافيَة.
لا تَسِرْ
كاليقين إذا زلزلت الأرض زلزالها، هكذا،
هكذا كان سرب الظباء يسيرُ،
على مهله للضفاف الظليلةِ،
لكنّه،
شافَ ـ رغم الظلام ـ الكُوَى؛
وعَيْناً، زوالاً،
ورجلينِ عالقتين لأعلى من الجبل المُرتجفْ!

لا تَسِر
ففي الأمر سِرْ؛
للأرض رونَقُهَا حين يَبدُو الطريق أَلِيْفاً،
ولكنَّها،
على الرغم من مائِها والشَّجر،
على الرغم من زهرةٍ عَانَقَت زَهْرَها،
رغم ذهابِ، مجيءِ المحبِّين،
على الرغم من ما أريق بها من نَبيذ؛
قاطعةٌ من خِلاَف.
الخرطوم 15/5/2011م

(4)
اليرعات كانت إلى النار أَقْرَب،
وهو يَجِيشُ بمرمى حَجَرْ
قاب قوسٍ من الموت ممتلئاً بالبريق.
كالخيل كان الجميلون خلف الجميلاتِ،
أسرابُهُم، برقُهُم في الهتاف،
في دمٍ يَتنفَّسُ جُرحاً على حَجَرٍ في الطريق؛
طريقٍ إلى الموت مثل اليراعات أقربَ للنَّارِ،
كالخمرِ أقربَ للرملِ بين النّدامى.
****
الجميلات ثُمَّ الجميلونَ
أولُ سربٍ لآخر سربٍ لهُ في رفيف الحمامِ،
دفيف الخيولِ، بريق القصائدِ أيقونةٌ.
مالَ نخو قتيلٍ إلى الخَلْفِ، يَشربه، يَتَناسلُ،
كان يجيش بمَرمَى حَجَر
حينَ ذاب كضوءٍ بعيدٍ ينوء قليلاً قليلاً،
إلى أن حَبَا وانكَفَأْ
على حجرٍ في الطريقِ
فمشى ظلّه المُتناسق نَحوَ اليراعات،
خلف الجميلينَ، خَلفَ الجميلاتِ
ممتلئاً بالحريق.

جوبا 23/5/2008م.

(5)
أيُّها الشاعر الناسجُ الآن بُرْدَتَهُ من نجومِ الكَتِفْ،
أشْعِل الوقتَ في النَّاعسات القصائد،
وقُلْ: لن تموتَ بأحزانها. دون أن تَرتَجِف،
قاسِمِ النارَ بهجتها في التَبَرُّج،
والنساء خلاخلَها، والقَمر
سطوته في الفضاء الذي فيكَ أوّلُه. لا تَخف؛
أَرِهِم في يديك الحَجَر.
****
يُوصفُ الشعرُ في رِقِّهِ بالرحيق، وفي سُكرِهِ بالمقاتل،
فيا حَجَرَ الشعر في رِقِّ أحزاننا كُن رحيقاً وقاتل؛
ما الذي يفعل الشعرُ لو صارَ حلواً؛
واحداً في التثنِّي،
وواحدةً في السنابل!

حلفا الجديدة، يناير 1991م

(6)
الغزالُ ارتَجَف
فالبندقيَّةُ فوهتها في فَمِه
وثَمَّ بريقٌ بعيدٌ
وسربُ الظّباءِ مَضَى نحوَ ماءٍ يُضيء.
وَحده، في طعام العَسينِ(1) استَمَاتَ وأَتْخَمَ ثمَّ انجَذَب،
لماءٍ قريبٍ إلى فَمِهِ لا يُضيء.
****
المضيءُ من الماءِ كان براحَ الغدِ المطمئِنْ،
حيث البراءةُ والانطلاقْ،
والعسينُ الشهيُّ، الموات الذي لا يجيء سوى بالنَغِيب.
****
ـ صَلِّ الصلاء الأخيرة
قال، وفي شِدقِهِ من بقايا اللُّعابْ
جُرْحُهُ في الصديد،
بغتةً، أطلَقَ الموت فرحتَهُ بمديدٍ على الأرض أتْخَمَ ثمَّ انجَذَب،
والظباءُ انتهينَ لماءٍ يضيء
هناك، بعيدين حيث السهولُ العَشِيبةُ مَرمى حَجَر.
ــــــ
(1) العسين: نبات طيِّب تعلفه الظباء فتستغنى بهِ عن الماء.
وادي حلفا، 2/2/2012م

(7)
هل تَقبلين فتاتي، لمَهْرِكِ
سيفاً، ومروحةً من جريدِ النخيلِ
ومحفظةً من سَعَفْ!
وشيئاً من الرملِ من شاطئ النيلِ،
طِيناً بلونِ المُشِعِّين إذا ابتسموا
لِحيَةً من شُهُودِ القتالِ، ومن حضرةِ العشقِ،
كَفَّاً كما خشبٍ لَوَّحتهُ النّهارات في السَّعيِ نحو الأمان،
حذاءً بلونِ الغَبَش،
قميصاً وحيداً
إذا ماتَ لونٌ أَقِمتُ له لونَهُ من بقايا الحشائش والحبر.
****
هل تقبلين مُساقاً إلى السجن في كلِّ يومٍ
جريرَتُهُ كَلمتانِ على وَرَقٍ من لَهَب
ليضحَكَ في وجهِ حابسِهِ المستريب بقلبٍ نبيل،
حتَّى إذا قام من بَصقَةِ الدَّمِ
عادَ إلى الناس ممتلئاً كبرياءْ.
هل تقبلين؟.

الخرطوم 26/5/2011م
(8)
أَوْرِدَةٌ في بَريدي
تَكتبُ في الحبّ والموت
ليس فيها وريدي.
****
فَلْتَدُرِ الأرضُ، لا هكذا،
هكذا
وتهتفُ: هذا وريدي.
وَلْيَلمع النّجمُ أكثَر
ـ هل تُنادي بُكُورُ العصافيرِ للنَّارِ
أم تنادَت بنفسَجَةُ الأمس،
قَمحاً، قِيَاماً،
بنفسجةً لا تُحيلُ بَنَفسجَهَا للرَّمادْ.

لوحة: فان جوخ

تعليقات

  1. اشعار رمزية بداخلها معاني عميقة تأتي بالتأمل في الكلمات
    أمد الله في عمرك يا أبي

    ردحذف
  2. امير الادباء والشعراء حفظه الله لنا ذخرا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

إجلالٌ ونفورٌ أمام كلام الربّ: حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة"

تنقيبات طينيّة (13) خطاب أَ ماديو : " إجلا لٌ ونف ورٌ أمام كلام الربّ " حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسييه مأمون التلب مُقدِّمة طينيَّة: (1) أ عود مرةً أخرى إلى باب (تنقيبات الطينيّة) لقراء مد وّ نتنا ، حيث أزور كُ تُ باً وكُتّاباً آخرين ، وفي الحقيقة فإن الدَّاعي لدخول الباب عادةً يأتي من نصوصٍ وكتاباتٍ أثَّرت فيَّ حدّ الألم والمعاناة والفرح واللذة الهائلة، وغيَّرت فيَّ بعمق، وصراحةً لم يحدث ذلك من ذ مدّة؛ صحيح أنني استم ت عت بمئاتٍ من الكتب الجيّدة خلال سنوات ال ا نقطاع عن العودة هنا، تعلَّمتُ الكثير وانتقلتُ إلى عوالمٍ وبلادٍ وأناسٍ آخرين، إلا أنني فوّتُّ "قطار الليل إلى لشبونة" إلى هذه اللحظة، والتي يتكاملُ فيها عالم القطار مع عالمي الخاص وحياتي الراهنة؛ حيث العجز لا اليأس، والمراقبة لا المُشاركة، أي التقدّم في العمر محسوساً بقوّة، وبالضبط عند مشاهدة الاستبسال الخارق لأجيال اليوم وحلمهم ببناء عالمٍ جديد! إنه لمن المُدهش، بعد أكاليل الهزائم التي تطوّق أعناقنا بأشواكها، أن ترى الحياة تتجدَّد رغم أنف عدميّة وانغلاق آمال عالم ا...