التخطي إلى المحتوى الرئيسي

غَيري


غَيري

مأمون التلب

هل استسلَمت، أبداً؟ هل توقَّفت عن توهّم اللغة كياناً منحشراً فيك وحدك، مُتغذِّياً وهاضماً ومُخرجاً ومستفرغاً، مكتئباً وخليقاً بالصراع والتدمير؟ بالولادة وتسليم الحياة يداً بيدٍ لكلِّ شيء؟ لكل هذه التفاسير يداً بيد؟. إنَّ بمقدور شجرةٍ أن تُعلِّمك أشدَّ ضراوةً من هذا كلّه، بل تزرع بذور العواء داخل كلّ اختلاجةٍ يُضمرها جسدك، إن كان قد أخرجها أم من قَبل أن تُولَدَ على سطحه، فتكبرُ مُتوحِّدةً خائفةً تُناوش بعضها البعض ، ومن ثمّ تُقتَتِل، داخلك! نعم داخلك!

هلاَّ استسلَمت؟! فأنت تفعلُ هذا الاستسلام، بوقاحةٍ لم يَسبقك كائنٌ عليها، لما يسمّونه "غرورك"! لكنّ جارتك الريح، وأولاد الحِلِّة ناس الأغصان وما يَحمله اللُّعاب من مصائر وحبّ! هؤلاء، ألن تَستسلم لهم؟! أبداً؟. ارفِق بحركات الرموش التي رُمِشَت في هذا العالم، والتكسيرات المُجرَّحات اللواتي تُعانيها بلا أسبابٍ غامضةٍ حتَّى! هاذي العيون التاليةُ لها؛ يا واي! ما لهذه الحماقة الجماليّة الدَبقة المفكّرة بما تحمله العين! وبما اُلتِهَمَ من كلامٍ في غيرِ لُغَتِك مُتَسَرِّباً إلى داخلك يُغيّر أسماء أقدار مزارعك الداخليّة؛ مثلما تفعلُ قبلةٌ تَصِلَك بالمحتويات! يا ربَّ المحتويات.

لم تستلسم؛ وما يَصِلُكَ مباشرةً من خلوده فإنكَ لستَ أهلاً لمحبّته، ليس اليوم على الأقل، وليست لياليك بقادرة على تصوّر كمّ الجحيمات الهائل المتَضَوَّر جوعاً خلف خطوط اليدِ فَقَط؛ دَعك من الجَدول، وخفقة الجناح، والنوم!.

كيف لا نستسلمُ ونحنُ حوامل بالخَجَل ذاته، والكوابيس ذاتها، كيف ونحن نَعرفُ أنه ليس وضعاً للسلاح بقدر ما هو تحديقٌ إليه، من فوهةِ قبلاته الفارهة، ونرى هل بالإمكان أن تَكون له نهاية؟ تجد أن السؤال  كأن تبدأ قضمَ تفّاحةٍ ظانَّاً أنها مجرَّد التّفاحة، تماماً كما تُعامل أنتَ الماء دون أن تنظُرَ إلى عينيها؛ في الحقيقة كان نادراً، دائماً وبمرارةٍ، أن لا تَكتَشف مكان العين، رغم أن مكان القلب مُعطَىً بطفاسةٍ ظَنَنتَ معها أنه مجرَّد القلب!. وكأنَّ المرآة لم تتذوَّق طَعمَكَ يوماً؛ كأنَّ الاسماء لم تُسمَّى، والتضحية لم تُدَشَّن، والمجازر المليئة بكامل فراغ العالم تحدثُ في مجرَّةٍ غير جسدك! غير جسدي، غيري!.

يوليو 2012م.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

إجلالٌ ونفورٌ أمام كلام الربّ: حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة"

تنقيبات طينيّة (13) خطاب أَ ماديو : " إجلا لٌ ونف ورٌ أمام كلام الربّ " حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسييه مأمون التلب مُقدِّمة طينيَّة: (1) أ عود مرةً أخرى إلى باب (تنقيبات الطينيّة) لقراء مد وّ نتنا ، حيث أزور كُ تُ باً وكُتّاباً آخرين ، وفي الحقيقة فإن الدَّاعي لدخول الباب عادةً يأتي من نصوصٍ وكتاباتٍ أثَّرت فيَّ حدّ الألم والمعاناة والفرح واللذة الهائلة، وغيَّرت فيَّ بعمق، وصراحةً لم يحدث ذلك من ذ مدّة؛ صحيح أنني استم ت عت بمئاتٍ من الكتب الجيّدة خلال سنوات ال ا نقطاع عن العودة هنا، تعلَّمتُ الكثير وانتقلتُ إلى عوالمٍ وبلادٍ وأناسٍ آخرين، إلا أنني فوّتُّ "قطار الليل إلى لشبونة" إلى هذه اللحظة، والتي يتكاملُ فيها عالم القطار مع عالمي الخاص وحياتي الراهنة؛ حيث العجز لا اليأس، والمراقبة لا المُشاركة، أي التقدّم في العمر محسوساً بقوّة، وبالضبط عند مشاهدة الاستبسال الخارق لأجيال اليوم وحلمهم ببناء عالمٍ جديد! إنه لمن المُدهش، بعد أكاليل الهزائم التي تطوّق أعناقنا بأشواكها، أن ترى الحياة تتجدَّد رغم أنف عدميّة وانغلاق آمال عالم ا...