التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الدون محمود كيشوت وأفلاكه الخجولة تحت السيستم



أنشرُ هنا كتابات للشعراء نجلاء عثمان التوم وأحمد النشادر، نُشِرت في الماضي وبَلَغت قلب الشاعر محمود عبد العزيز:

مقتطف من (دراجة من هيكل عظمي)
أحمد النشادر
2008م 

["تلتقي فراشات العالم كله، يوماً، برغبة متأججة عارمة للإجتماع حول شمعة. تذهب فراشة أولى إلى قصر بعيد، وتلمح داخله ضوء شمعة، فتعود لتروي ما رأت. لكن حكيم الفراشات الذي يرأس الإجتماع يقول إن ذلك لن يساعدهم في شيء. فراشة أخرى تمضي إلى حيث تمس أجنحتها لهب الشمعة التي تبقى متعالية، فتعود محروقة الأجنحة لتروي رحلتها. لكن حكيم الفراشات يقول لها إن روايتها ليست دقيقة. هنا تقوم فراشة ثالثة أسكرها الوجد، فتقفز بعنف في اللهب بأرجلها الخلفية، حتى تحمرُّ أطرافها وتصبح كاللهب! هنا يقول حكيم الفراشات الذي رأى كل شيء من بعد: لقد تعلمت تلك الفراشة كل ما كانت تريد معرفته، لكنها وحدها من يعلم ذلك، وهذا كل ما في الأمر"!

حكاية نقلها ثلاثة فرنسييين، في أحاديثهم حول اللامرئي، عن كتاب فريد الدين العطار (منطق الطير).]



الجمعة
"جيل العادة السرية"! عبارة لم يعد تفاديها ممكناً، من زاويتي، عند أي حديث عما يسمى (حياتنا)! فالحياة هنا انشحنت كلها في المخيلات. لم تعد ثمة حياة على أرض الواقع، فالأحياء هنا ينتقمون بمخيلاتهم مما قد يؤذيهم. تجدهم في غرف المخيلة المغلقة يرسمون وينفذون سيناريوهات الإنتقام، ويستمتعون بها. يدافعون عن أنفسهم في مخيلاتهم، يمارسون ملذاتهم في مخيلاتهم، يبررون أخطائهم في مخيلاتهم، والعجيب أنهم ينجزون ذلك بمنتهى الإتقان! أما في الواقع، عندما تنظر إلى التعثرات الفظيعة، والتمزقات المريعة، والفشل المتفشي، تستغرب أين يذهب ذكاء المخيلات وطاقاتها الخلاقة! إن هؤلاء الناس يصلون إلى حياتهم منهكين بعد أن يستهلكوا أنفسهم في مخيلاتهم، وبعد أن يمارسوا، حتى آخر قطرة، نشاطهم التعويضي في إشباع ذواتهم داخل جو المخيلة الصافي، كالوجه الذي يخلقه حامله، وبعد أن يكون فشلهم الفادح قد تفتت وذهب في مجاريه، ليأتوا إلى الواقع، يغذون مخيلاتهم من جديد بما تحتاج (لاستهلاك) (انتصار) جديد على فشل ما، أو ظلم ما، أو سخف ما.. وهكذا!
تتفتح الطرق أمام هؤلاء (المخيلاتيين) الكثر إما أن يقلبوا الطاولة رأساً على عقب أن يثوروا لتغيير الحياة وتغيير قوانينها وتشويش معاييرها التي تأكل مساحتهم، والثورة هنا تبدو كأنها تدفق اللاوعي المكبوت المسنود بطاقة المخيلات وخبرتها الحلمية، أن يفيض اللاوعي ويتدفق مفتتاً كل عائق وقانون وثابت و(مُتَثابت)، والخيار الثاني لهؤلاء المخيلاتيين أن يستمروا كما هم يعيشون في مخيلاتهم وينافقون في الواقع. الخيار الثالث ربما يكون أن تسحبهم هذه المخيلات كلياً، أن تشربهم أو تبتلعهم مخيلاتهم بحيث لايعودوا موجودين في الواقع، أن يذهبوا إلى ما يسمى (الجنون)، هنالك خيار أن يصبحوا جزءاً من الواقع، أن يقتلوا مخيلاتهم ليصبحوا جزءاً من ما يقهرهم ليصبحوا جزءاً من واضعي العوائق والغباء الذي تتسم به الإجراءات أن يصبحوا من (ذوات الجلد التخين) وهؤلاء كلما تراصوا وكلما إتصلوا فيما بينهم كلما متنوا وزادوا مساحة الإحداثيات المضيقة على المتخيلين.
 يحاول الفن أن يبسط جزءاً من أرض هذه المخيلة على الواقع، الواقع الذي يأكلنا ويقيدنا ويحكمنا بما يسمى بالنجاح والفشل وفق شروطه التي يضعها ذوو الجلد (التخين) والمذعنون لهم في الغالب. يحاول الفن أن يضيف منطقة يمكننا أن نتنازع فيها وأن نخطئ، منطقة تكون لنا فيها حرية الخطأ والجنون والتبذير والتجربة بكل ما تقتضيه من تناقضات، مكان يمكننا أن نتمزق ونلتئم فيه دون أن نخاف من أن يحسب ذلك علينا، لكن، الفن يفعل ذلك بصرامة تقنية شديدة، صرامة قد لا تنجو من آليات ما تقاومه ومن قسرية تراكم  التجربة البشرية، لكنها صرامة مفرغة من سلطتها (كما أتمنى أن أكتب وأمارس).
يبقى أن أقول أن (جيل العادة التي تعرفون) عبارة أطلقها شاعر صديق على جيلنا المحروم من أن يعرف أو يجهل غريزته، أن يجربها أو أن تجربه. وبدت لي عبارته كهواء يحوم بين كلامي، أو كأنها مناخه!

السبت:
حفلٌ أُعلِنَ عنه بصيغة (المدرسة والأستاذ: الهادي الجبل ومحمود عبد العزيز)!
ذهبنا وفينا ما فينا من حقيقة صوت محمود! الصوت البحر العاتي الذي يهدر في الفضاء حاملاً الجملة الغنائية ليحطمها على الحدود المطلقة للصوت! الصوت الذي يغني "كنت بستجدي العواتي زي مشرد حظو عاثر"، فلكأن ذراته نفسها، في تكوينها، تؤدي إلى نفس الشكل.
ذهبنا، وفي الفاصل الأول غنى الهادي حامد ود الجبل الذي يندمج مع أغنيته فيصير هو نفسه جزءاً منها. يدخل في الزمن كما يقال، لكنه إنما يحرف الزمن ليجعله زمنه الخاص. غنى الهادي وانتهى فاصله، دون أن يلوح خبر عن محمود. يمضي الوقت ببطء غياظ كأنما يسير في عروق الناس الذين ملوا من انتظار لحظة لا يعرف أحد متى تأتي بالضبط، لحظة يدمر فيها غضبهم وحبهم لمحمود نادي التنس واستهتار محمود بحبهم العجيب لصوته، فما لبثوا أن انتصبوا، بعد ساعة، على أرجلهم، بينما قبضاتهم ترفع حديد الكراسي المتهالك بقوة وغضب!
بعد ساعتين أطلَّ، فنسي الجمهور غضبه، عندما انطلق الهتاف الشهير: (الحوت لا يموت)، ليمسح بضربة حب واحدة كل استعداد للتدمير! غنى محمود أغنيته الأولى، والجمهور لا يزال واقفاً على هتافه، كأنه موجة من صوت محمود جمَّدها الغضب المتحول حباً، أو الذي كان حباً، في الأصل، حولته كثرة الحب إلى غضب! المهم، أن محموداً انتهى من أغنيته، بينما الجمهور لا يزال واقفاً، فسألهم، في لهجة مستغربة:
ـ "في شنو؟! واقفين كدا مالكم"؟!
ثم أضاف:
ـ "إنتو دايرين غنا، ولا دايرين أي كلام"؟!
فخرج الهتاف المختلط غير المنظم، على طريقة تلاميذ الإبتدائي، ممزوجاً، بعض الشيء، بالغضب الذي هو، في العادة، جزء من أصوات البالغين:
ـ "دايرين غنا"!
ليقول محمود ببساطة:
ـ "ما تقعدوا طيب"!
وسرعان ما حمله صوته فوق كل غضب وضغينة، منتشلاً إياه، كما في كل مرة، من أجواء الطعنات والمؤاخذات التي لا معنى لها! يعيش محمود كلياً في تجربته، في زمن تنفسه الخاص، عبر حنجرته التي تتسامى على التطاحن والضجيج، بينما ترفع عواتيها الكون إلى منصة الصوت المحض، الصوت الذي ينتمى للجسد ولا ينتمي له بنفس المقدار، والذي يعرف جيداً كيف يمكن أن يغير مسار جيل يعبر عنه، يتحطم، ويغضب، ويصبح عاتياً، بدلاً عنه، دون أن يقصد، أو ربما لأن ذلك جزء من طبيعته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 نُشر النص ضمن رزنامة الأستاذ كمال الجزولي عام 2008م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

صليب محمود
نجلاء عثمان التوم


 2010م











من جَناحٍ عليه يَرَى الطائرُ فريسته وعدوَّه ونَفْسَه و- خلف المرآة الذئبة - الجسمَ المنهمر في بروفةٍ وقتلٍ؛ إلهي إلهي، لِمَ تركتهم والخشب حَسْبي ليس موتاً شجرياً بل عذاباً طليقاً يبحث مجنوناً وبُنِّياً عن كمونه. متى هو المدى؟ من فرج الأخدود المطلّ على ذاتِهِ يشربُ الوجه جسد الإدراك وغيبوبته قريرةٌ كعين المحلية.
أَهدِي لي من فضلك. نحولٌ عضوٌ كفيفٌ يُرَى بالعضلة السعيدة، وبدوخان الفن والجهل الروحي العزيز. السكةُ حديدٌ مُثَبَّتٌ بالفرائص، والصوت كالفسفور في دم الخشب النهريِّ يجهشُ، وطأته تضوع في عروقٍ ودواماتٍ وبراهين مروضة تدحض. محمود يدوم، ويَتَكَهَّفُ في طفولاته برندات السفريات الداخلية وتسافر فيه البطانة كله.
كادر الخمر دمي: قريباً على مسرح سوفوكليس، الدون محمود كيشوت وأفلاكه الخجولة تحت السيستم. كربلاء جوفية تتبرعم في حلق السلطة المحتقن وتنفجر في الجرَّاري، اسمو خنجر الجفير، شُفْتُه ود عيني ضو الفاشر الكبير، ومن بين كل أصباغ الصورة لم أفهم إلا ضحكة الشنطة الساموسنايت المُحْرَجة مثل مندولين بدويٍّ يجأر من اللذة في بحيرة بجع التعلمجي شاويش الخلا.
في جبروت الفراغ و صورتك ويدك على الصليب ولادة الخبل. غضبك، حتى يتسلق وجهك طابع البريد، لا تحزن يا حوت سنكشكش إطارك الخارجي برسومات الله والتهاباته.

عاد الجوع سليماً وقال قتلني أملي.

الصوت جنة يجرجرها الساكسفون في الشوارع. تنضج الموسيقى مثل حقل أرواحٍ محصودٍ ينزف قسوته علينا وعشَّتُنا معنا تجوس في الفطام مع قشعريرة المزيد المزيد، يُنشر الدم باسمه الأولاني، فجأة يُساق القلبُ مثل لثغة في فلذة الصوت، يساق إلى فصيح اليد مصوبةً إلى الطبول، والعين مأخوذة ولا تكفي وطيران الأرامل والمرضعات إلى ملكوت القدم، رقصة الكِرَن تفسر مالطائر ما الإنسان الحمأ المسنون.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

إجلالٌ ونفورٌ أمام كلام الربّ: حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة"

تنقيبات طينيّة (13) خطاب أَ ماديو : " إجلا لٌ ونف ورٌ أمام كلام الربّ " حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسييه مأمون التلب مُقدِّمة طينيَّة: (1) أ عود مرةً أخرى إلى باب (تنقيبات الطينيّة) لقراء مد وّ نتنا ، حيث أزور كُ تُ باً وكُتّاباً آخرين ، وفي الحقيقة فإن الدَّاعي لدخول الباب عادةً يأتي من نصوصٍ وكتاباتٍ أثَّرت فيَّ حدّ الألم والمعاناة والفرح واللذة الهائلة، وغيَّرت فيَّ بعمق، وصراحةً لم يحدث ذلك من ذ مدّة؛ صحيح أنني استم ت عت بمئاتٍ من الكتب الجيّدة خلال سنوات ال ا نقطاع عن العودة هنا، تعلَّمتُ الكثير وانتقلتُ إلى عوالمٍ وبلادٍ وأناسٍ آخرين، إلا أنني فوّتُّ "قطار الليل إلى لشبونة" إلى هذه اللحظة، والتي يتكاملُ فيها عالم القطار مع عالمي الخاص وحياتي الراهنة؛ حيث العجز لا اليأس، والمراقبة لا المُشاركة، أي التقدّم في العمر محسوساً بقوّة، وبالضبط عند مشاهدة الاستبسال الخارق لأجيال اليوم وحلمهم ببناء عالمٍ جديد! إنه لمن المُدهش، بعد أكاليل الهزائم التي تطوّق أعناقنا بأشواكها، أن ترى الحياة تتجدَّد رغم أنف عدميّة وانغلاق آمال عالم ا...