التخطي إلى المحتوى الرئيسي

وَحشُ التجوَال - شعر: مأمون التلب

وَحشُ التجوَال
مأمون التلب
8 أكتوبر 2015م
الخرطوم




أتجوّل في أمعاء وحش أطلَّ بقلبه الخفّاق
على هذه الدنيا
كما تُطلُّ الوردةُ بذبولها في نهاية المطاف،
والثِمار بتفسّخها بعد انتهاء القِطاف.
أن يَنسى الزارعُ أحلامه ويقطف كوابيسه بشرهٍ مُتعمَّد،
أن يَنَال الساقي مِن مَن سقاه بقوّة فيضان المياه.

أتجوّل في أمعائه وأحدّق في البنايات الصارمة التي تأسَّست هناك بقوَّةِ الجَرْح،
ومن خلال ضلوعي الحزينة أتنفّس الهواء القليل الذي مُنِحَ لخائضٍ مثلي.
وفي الأثناء تتكشّف الأمعاء عن جُثثِ الكثير مِن مَن خاضوا،
وتبدو نهايتي، مع هطول الفضلات القاسي على الرأس والقلب، مَعقولةً
بل مُشتهاة.
فلمن خاضَ جحيماً كهذا حُرِّمَت عليه الشكوى
وانخَسَفت بداخله الطيور المسجونة لأن لا مُبرِّرَ لحريّتها
في عالمٍ يؤمن بوجوده المُطلق في كلمة (القفص)!.
أيتها السماوات، التي شاهدت الانتهاك المُبرّ لجراحات شاعرٍ وحيدٍ يعوي،
كيفَ تمرّين على الأرض، يومياً، مثلما يعبر النهر مجراه، دون أن تسقطي؟.
(2)
وفي أعماق الأشجارِ راحت عليك الدنيا وأنتَ تُشاهد
النهرَ يتصاعدُ ويضحكُ في الأوراق وتضربه الشمس،
وفي أعماق الجبال لاَنَت لك الغربة فرأيتَ
فَرَحَ الغارِ بمتوحِّدٍ يتوجّه إليه براحةٍ زلزاليَّةٍ تهدّ الجبال!
وفي أشغال الوردة كنتَ المغتال لحظةَ أن حطَّ نحلٌ ليلتقطَ حياةً،
ليَنقُلَها لحياةٍ آخرى.
وفي الموتِ نلتقي كذلك في عين الوحش التي تَنظر،
تُحدِّقُ في لؤلؤة المصائر وعنفوان خيالها،
امتلائِها بطاقة الرفض والتمرُّد،
واحتشادها بجيوشٍ لم يُخلَق مثلها إلا داخل الحرف واللغة.
عين الوحشِ تحدّق بقسوةٍ في لؤلؤة المصائر على كفِّه تَختَنِق!

 (3)
يا لحزني الذي يسيرُ بأقدامه السائلة،
يفتِّشُ عن طرقكَ الهائلة،
ليلتقط أنفاسهُ وينتقمَ من ذاتهُ،
هذا الحزن المتروك على قارعةِ الريِق،
يبتلعُ ما كانَ مِنهُ، ويَلفُظُ ما شَانَ وجهه بالحريق.
وبين الدخان تَقَدَّمَ واختار الخوض في أمعاء الوحش،
على أرضها الخصبة، بالجثث، زَرَعَ ما يَلِيه،
في انتظار ما يليكَ يا قاسيَ القلب، يا الله.

(4)
في الصحراء الغامقةِ لَدى الواحةِ رأيتُكَ تُمسكُ روحَ غابةٍ تَعزف بهِ،
القمرُ كان جالساً على التراب الناعم
وليلُكَ المسجون في العطش ينتاشُ أضواءَهُ؛
الواحة كانت مليئةً بأشباحكَ
والغابةُ تتقدّم من دَمِكَ،
لا مانعَ لأهوائها سوى هذه الأشباح،
لا منقِذَ من حقيقتها سوى الانطلاق الحرِّ في أشلاء الجثث الملقاة في الغابة.
هناك، وسط أنواء اللون الأخضر المُحمَر،
وتُخبرك الشلالات بأن لا مفرَّ من جنَّةٍ صغيرة.

أراقبك الآن في هذه الصحراء الداخليَّة،
ينتشي خيالُكَ ويتغذَّى بكوابيسٍ متراكضةٍ في عروقك،
وجذورك تَخرقُ الأرض تُمسكها من تلاليبها الملتهبة،
أراقبكَ تَتَفرَّع في هواء الجحيم متنفِّساً جميع الحرائق بنشوةٍ غامضةٍ
وأصغي بأسراريَ الصغيرة المتكوّمة في الرمالِ بينكَ،
وبين سيّدنا القمر.

(5)
ولكن،
في أمعاء الوحش السريَّة
غُرَفٌ تُبنى بأحلامٍ صغيرةٍ
تُشِعُّ، من جدرانها المبنيَّةُ بالنسيان، أجرامٌ
تمشي في الأرض؛ في الأسواق بين الناس،
تأكُلُ الطعام تحاول أن تتذكَّر الحب.

(6)
الآن،
لا مفرَّ من سلوكِ السلوكِ الذي مُنِينَا بِسلُوكِهِ:
لنقتعد لنا مقعداً قصيَّاً في ساحةٍ مَا نَحنُ إلا جزءً قصيَّاً من بُنيانها الداخليّ القديم جداً، المصقول بالحروب الكونيّة المتعاقبة: الموسيقى المتآكلة بفعل ما صَنَعته من جثث، والشعر الذي لوَّثَ صرخاته بتشذيب أظافر اليَدِ الظالمة. نحن في حانةِ الوحش نحتسي أمعاءَه، ومع كل ضربةٍ وأخرى تُصاب الأرض في مقتل، وتُفضح فداحة المِيتات الفرديّة المتحوّلة - بقوَّةِ ما تَبَقَّى من اختلال – أرقاماً لا تسمنُ ولا تغني من جوع!.
(7)
ففي الأمعاء، لا تَخف،
يتفتَّحُ الدرب أمامك ببساطةِ وردة؛
وسط روائح الموت الغالية،
وسط الأطراف المُقطَّعة والدماء الحارّة،
هناك، وسط الناس والأشياء والعَفنِ يتفتّح الدرب:
من خطواتكَ تنقشع ذواتك الكثيرة،
كاشفةً عن أنفاسها المُتهدّجة،
مُعتصرةً قلوبها أمام عينيك،
منحنيةً تدعوكَ لوليمة الآلام،
رافعةً لك أقنعتها احتراماً وإجلالا!
.....
ثمّ أن الشكوى هنا لا تجوز.
يجوز التربّص واقتناص اللحظات فقط!.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Photo by: G I A M P A O L O • S G U R A

تعليقات

  1. فلمن خاض جحيما كهذا حرمت عليه الشكوى ... لمن دي قريتا بالعامية ، جابت زمن لطيف خلاس

    ردحذف
  2. فلمن خاض جحيما كهذا حرمت عليه الشكوى ... لمن دي قريتا بالعامية ، جابت زمن لطيف خلاس

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

إجلالٌ ونفورٌ أمام كلام الربّ: حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة"

تنقيبات طينيّة (13) خطاب أَ ماديو : " إجلا لٌ ونف ورٌ أمام كلام الربّ " حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسييه مأمون التلب مُقدِّمة طينيَّة: (1) أ عود مرةً أخرى إلى باب (تنقيبات الطينيّة) لقراء مد وّ نتنا ، حيث أزور كُ تُ باً وكُتّاباً آخرين ، وفي الحقيقة فإن الدَّاعي لدخول الباب عادةً يأتي من نصوصٍ وكتاباتٍ أثَّرت فيَّ حدّ الألم والمعاناة والفرح واللذة الهائلة، وغيَّرت فيَّ بعمق، وصراحةً لم يحدث ذلك من ذ مدّة؛ صحيح أنني استم ت عت بمئاتٍ من الكتب الجيّدة خلال سنوات ال ا نقطاع عن العودة هنا، تعلَّمتُ الكثير وانتقلتُ إلى عوالمٍ وبلادٍ وأناسٍ آخرين، إلا أنني فوّتُّ "قطار الليل إلى لشبونة" إلى هذه اللحظة، والتي يتكاملُ فيها عالم القطار مع عالمي الخاص وحياتي الراهنة؛ حيث العجز لا اليأس، والمراقبة لا المُشاركة، أي التقدّم في العمر محسوساً بقوّة، وبالضبط عند مشاهدة الاستبسال الخارق لأجيال اليوم وحلمهم ببناء عالمٍ جديد! إنه لمن المُدهش، بعد أكاليل الهزائم التي تطوّق أعناقنا بأشواكها، أن ترى الحياة تتجدَّد رغم أنف عدميّة وانغلاق آمال عالم ا...