التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بثور الأمل

بثورُ الأمل
مأمون التلب




(1)
يَعرفُ القاصي والدّاني من كوكَبِ الأرض أن نظاماً يضمحلّ وقد حلّ مكانه، بصورةٍ لا تزال شبحيّة وشيطانيّة، نظاماً جديداً تماماً في كلّ شيء. يَترَادفُ هذا المعنى مع كلمات واقعيّة جدّاً كـ(انعدام الأمل) كـ(الحبّ الذي هَجَرَ الكوكب)، والمُعبِّرة الكبرى: ماتَ الإله!. جميعها تسميات لانهيار النظام، وبينما تبدو لنا نهايات أنظمةٍ في الماضي وكأنها نزهة مُسالمة في الطبيعة الخلابة، فإن انهيار هذا النظام يبدو لنا أبديّ التّحقق؛ سيظلّ يضمحلّ ويطحن أجساد المخلوقات الأرضيّة بإصرارٍ وعنادٍ ومثابرةٍ غير أرضيين؛ سيظلّ يفعل ذلك إلى أن نفنى. ولكن، ألا نعلم جميعنا أن ذلك سينتهي؟.



إنّه ليس انعدام أمل، إنه تحوّلٌ في صيغة الأمل؛ هل نريد فعلاً أن ننقذ العالم الذي يغرق أمامنا اليوم؟ ألا نتمنى موته؟ فناءه؟ امّحاء كل مؤسسات الكذب المستمر المتّحدة عن وجه الأرض؟. ذلك ليس لأجل الفناء كغاية، وإنما كوسيلة نَبشٍ في جلد هذه الجثّة لإخراج الحيّ من الميِّت إخراجاً أقلّ هَدراً للدماء؟.

 نهاية الاتحاد السوفيتي أتت بتنازلٍ، تخلٍّ عن مشروع الدولة الميّت، وكان دراميّاً حدَّ تحوّلت أحداث العالم من دراما بطولة إلى سوداويّة الهزيمة والملاحقة، كيف ستتنازل هذه الرأسماليّة عن مكتساباتها وهذا الكم الهائل من العبيد الذي يقلّ عن تعداد سكان العالم بحفنةٍ من النِسَب المئويّة؟ لا أعتقد أنها ستتنازل، بل ستحلِب اللغة الجّافّة ضرعها، الشهيدة الأزليّة، سيمثّلوا بجثث المزيد من الكلمات كانعكاسٍ طبقَ الأصل لمسلخ التمثيل الدولي من أجلِ جثث الناس الطازجة.
لكن جرثومة الأحلام الكوابيس تقولُ بغير ذلك، بثورها ظلّت تطفح على سطح الأرض، في كلّ برٍّ وبحر وسماء ونجوم، دائماً على هيئةِ موسيقى، أحياناً مكتوبةً، منطوقةً، مرسومةً، مطبوخةً، مجروحةً، محبةً، متألّمة. منذ الأزل ظلّت تطفح وتنطفئ وتترك ندبةً لا تزول، علامةً يحجّ إليها الأفراد البثور. اليوم فارت البثور، غمرت سطح الأرض، وأصبح تجاهلها مستحيلاً، إنها الإشارة الأخيرة من جسد الأرض المتألّم، إنه التحذير والصرخة، الوردة المتفتّحة وسط خراب رَمزها كمُودّعةٍ للجُثَث.
(2)
من نصٍّ كُتبَ في العام 2007م أنقل: [تَبْدو الحَيَاةُ كَظِلٍّ يَتَحَرَّكُ إثرَ حركة عالمٍ آخرَ سريٍّ، وعَبْرَ جِدَارٍ مثقَّبٍ بالأسماء والصفات والدلالات، يَنْفُذُ ضوءٌ مكلَّلٌ بأشواكِ نبوءاتٍ يفسِّخُها الزمنُ بسيره الأعرجِ المسنّ. وإن جاز لي أن أتفوَّه بكلمةٍ فلأجل أن أُشير إلى الكمِّ الهائل من الأسلحة الثقيلةِ والخفيفة، وهي تُهرَّب من العالم الآخر إلينا محمولةً على قماشِ مبرِّراتٍ واهيةٍ تَسلُبُ، وباستمرارٍ يَنْفُثُ تَعَفُّنَ فَمِهِ يَأْسَاً، إرادةً كائنات الأرض.
ولكن، من يمنحُ العالم الآخر روحاً تتحرَّكُ كهذه؟، عَرْشُهَا التَّخْوِيفُ بشبكةٍ تُغَرْبِل أجساد الخيال والنُّطق والموقف والحريَّة، حتى تُصبح صالحةً لتغذيةِ الأفواهِ البشريَّة، وهي (على شكلِ هاويةٍ) تَطلُبُ يقيناً محطَّما؟
وإن كانت الكتابةُ هي بارودٌ أو سلاحٌ هُرِّبَ بدقَّةٍ، ومُسِحَت عنهُ ملامحُ الشياطينِ التي كانت تغفو بهِ هناك (مرمِّمَةً أقدامهُ بقيعان محيطات العالم الآخر، والتي هي ليست ماء، وليست فضلاتِ سُحبٍ، وإنما نظرةُ طائرٍ تائهٍ داخل صوته العابر للمحيط)، مُسِحَت الملامح لكي يُصْبِح هذا السلاحُ متداولاً، بين يَدي الكائن السابق لاختراعِ اللُّغةَ، دونَ أن تُثِيْرَ شَكَّ الأجِنَّة في الأرحام، والصرخاتِ النابعةِ من دمٍ يلتهمُ لذَّةَ رعبٍ، والمراوغاتِ الأخلاقيَّةِ للعدمِ المسكونِ بأنفاسِهِ الأخيرة، والنظرةِ بشقَّيها: (الأجْنَح والأَتْرَبْ). وبعد ذلك يأتي مأفونٌ لينفُضَ الجريمةَ من سَطْحِهِ اللَّماع، ويُغلقُ على وجههِ البابَ البعيدَ الغَارِبَ ويُدرِكُ هُيامَ الواقع، بل وتحقُّقَه، داخل كلِّ هذه المرايا المتقابلةِ بعنفٍ لا يغفر الالتفاتة، ولا يَقْبَلُ الشهقة الخالية من التحطيم العارف، فإن هذا المأفون بالجَّحيم سيُكْرَمُ، وبالذلِّ داخل قلبِ الرحمةِ سينبضُ دون توقُّف.

آن للجِدِّار الْمُثَقَّبِ أن يُبِيْدَ نَفْسَهُ بنَفْسِهِ،
يفعلُ ذلك بمجرَّد أنْ تَجرَّد وجُودُنا بشتَّى رُعبهِ الطبيعيّ.
وأقول (آن)، لأنَّ كل لحظةٍ تمرُّ؛ تحطيمٌ، وكلُّ نظرةٍ خائنةٍ إليهِ؛ إرادة].

أغسطس 2016م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 Van Gogh, Wheatfield with Crows, July 1890. Oil on canvas, 50.5 x 103 cm. Van Gogh Museum, Amsterdam.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

إجلالٌ ونفورٌ أمام كلام الربّ: حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة"

تنقيبات طينيّة (13) خطاب أَ ماديو : " إجلا لٌ ونف ورٌ أمام كلام الربّ " حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسييه مأمون التلب مُقدِّمة طينيَّة: (1) أ عود مرةً أخرى إلى باب (تنقيبات الطينيّة) لقراء مد وّ نتنا ، حيث أزور كُ تُ باً وكُتّاباً آخرين ، وفي الحقيقة فإن الدَّاعي لدخول الباب عادةً يأتي من نصوصٍ وكتاباتٍ أثَّرت فيَّ حدّ الألم والمعاناة والفرح واللذة الهائلة، وغيَّرت فيَّ بعمق، وصراحةً لم يحدث ذلك من ذ مدّة؛ صحيح أنني استم ت عت بمئاتٍ من الكتب الجيّدة خلال سنوات ال ا نقطاع عن العودة هنا، تعلَّمتُ الكثير وانتقلتُ إلى عوالمٍ وبلادٍ وأناسٍ آخرين، إلا أنني فوّتُّ "قطار الليل إلى لشبونة" إلى هذه اللحظة، والتي يتكاملُ فيها عالم القطار مع عالمي الخاص وحياتي الراهنة؛ حيث العجز لا اليأس، والمراقبة لا المُشاركة، أي التقدّم في العمر محسوساً بقوّة، وبالضبط عند مشاهدة الاستبسال الخارق لأجيال اليوم وحلمهم ببناء عالمٍ جديد! إنه لمن المُدهش، بعد أكاليل الهزائم التي تطوّق أعناقنا بأشواكها، أن ترى الحياة تتجدَّد رغم أنف عدميّة وانغلاق آمال عالم ا...