التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قَافِلَةُ التَّرمِيل - نص جديد




قَافِلَةُ التَّرمِيل
مأمون التلب






عالمٌ كانَ مُحاطاً بأصابعِ اليد،
حيثُ تُرهِبُكَ الأحداثُ المفاجئة،
وهي تَلِدُ معانيها من معَادِنِ رُوحكَ.


حينها تغدو اليدُ نَهراً
تتناثَرُ من خطوط مُستَقبَلِهِ المحتومةِ جُثَثُ الغَرقى،
وفي فراغِ ذكرياتٍ خلّفتها الجثث
تسكنُ أشباحٌ مُستَهلكةُ الإضاءَة،
تُعاني تورّماتٍ طيِّبة.

وفي الأَسرَّةِ التي مُنِحت لاستقبال الأشباح،
ناءَ كاهل الحبِّ بالإفاضة،
وحُجِّبت منابع الإلهام:
كانت اللغةُ تُخلَق.

...
عالمٌ كانَ مُحاطاً بِمَثَالبِ العين،
هناك، على مرمى النَظَر
ستظهر الطيور أولاً،
تنقشعُ غيومٌ غامضةٌ بتأكيدٍ صارخ،
وذكرى أمطارٍ لن تَهطلَ تَتَرَقرَقُ على شَفَتيك؟
إن كُنتَ تنطقُ بشفاهٍ شبيهةٍ بهذه دائماً؟
حلوة المذاق في كلِّ شكلٍ تتخذه؛
لمعةُ عينِ طفلٍ مُفَاجِئَةٍ مثلاً:
داكنةً في أحيانٍ،
بوَدَاعٍ برَّاقٍ في أحيانْ.

جثّةُ حيوانٍ ببطنٍ مبقورٍ
تُلقَى على طريقٍ التَقيتَ فيه الطفلَ فجأةً؛
رائحةُ التَّركِ تُحيطُ بشَفَتيكَ حينها
تَنهَرُ روحي وتذيبُ أشبَاحَها.

وبينما أُقبِّلُ كلَّ كلمةٍ،
وأتَنفَّسُ أبواباً ومَفاتيح،
تنقلُ قافلةٌ جَزَعَكَ إلى أوصالي،
وتنفتحُ صحراءٌ مباركةٌ لنرى:
هذه لُغاتُكَ مصلوبةٌ على شكلِ رِمَالٍ
وتلكَ شَمسُها تسيلُ من الآبار وتَعوي،
والطيور الضاربةُ سَطحَ الرّمال كلّ لحظةٍ
هي من بَرَقت في أوّل المشهد،
وكأن رسائلها ستَصِل،
وكأنّ أجنِحَتها ستُقرَأ.

...
الأرضُ أرملةُ الوجود الأبديَّة،
النتوءات على سطحها تتحدَّثُ كلّ لحظةٍ:
الجبال، الأنهار، البحار والمحيطات.. والأشجار:
التهامُ المناخات لبعضها كوحوشٍ جوَّعها زمنٌ لا يَرحم،
وانكسارُ تُرَعِ الحربِ ساقيةً جفاف حلق الأرض،
أرملةُ الوجود التي تتحدَّث:
في القاعة المجاورةِ لقلبكَ خَلَقت لذاتها ظِلَّاً
نَبضت لأجل كلّ حريَّةٍ
وخُرِقت قوانين نبضها وإيقاعَه باستمرارٍ بشع.
لغةُ الوجود المُترَمِّلةِ
كانت عَالماً في قبضةِ القلب،
رَأَت، فأَشاحت، واعتمرت أمعاءها تاجاً
وحكمَت فرعاً من الوجودِ المتقطّع الغامض
حُكِمَ عليه دائماً بإعدامٍ ما،
بنفيٍ هو هجرانٌ ظاهريٌّ للأم،
تشكيلٌ مُختلٌّ من أصوات الحيوانات وظلالها الهاربة،
في وَحشة ليلٍ مستقرٍّ في عروقها دَمَاً مُفتَرَساً.

فرعٌ من الوجودِ رأى عالماً كانَ مُحَاطاً
مُثيراً مُقشعرّ الجلدِ والموسيقى،
قادماً من مستقبلِ كواكبَ أخرى،
نَراهَا في تنفّسنا الليلي،
بينما تَكْتُم الأحلامُ أنفاسَها،
وهي تَغرق في ذاكرة عالمٍ كانَ صوتاً،
وسيعودُ صدى.
ــــــــ


6 يونيو 2017م.

منحوتة من أعمال: جياكوميتي

تعليقات

  1. كلمات معبره عن حالنا في كل مكان لمن كان.هذا حال الدنيا.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

The Beauty of the Silly - نجلاء عثمان التوم

 The Beauty of the Silly  نجلاء عثمان التوم إلى عثمان حامد سليمان   هل يمكن تشريح الأصالة؟ هل يمكن الكشف عن شعوبها الداخلية دون مجزرة؟ أنا مدفوعة هنا بالحجب الأصيلة التي يغزلها الغناء السوداني حول نفسه فيبدو لنا أحياناً شيئاً محيراً، لامع الحيرة . عندما نتجرد من العصاب الذي نسميه الفهم، وننطلق في رحلة متحللة من كل غاية، ونستمع إلى الأغاني السودانية بأرجلنا ومصاريننا، نشعر أن الطاقة التي تتهدج في الجو هي، ولا شيء خلافها، الهوية. لكن تظل أصالة هذا الغناء شيئاً غامضاً جداً وعصياً على التعيين. ثمة إستراتيجيات، أعتقد، أيّدت هذه الجذوة التحتية. أولاً تحتجب الأصالة، في معظم الأحيان، في تمويهات هزلية تنتجها قوالب شبه ثابتة محكومة بشهوة الرجز، والطلاقة الشعبية، والنبرة العادية في الكلام. فالغناء في الأساس هو مكان التغزل في اليومي والعادي في أقرب نسخه إلى الواقع. وكلما تشبثت الأغنية بسوقيتها المعروقة، كلما تصير إلى درجة من أصالتها الصحيحة. لكن الفن هو دائماً تدخل معقَّد، فلا نجاة من سطوته، لكن التحايل عليه ممكن. فعندما تبدأ أغنية ابتهالية، فيها تسجيل لمغامرة البلا...