ديبَاجة
خياليَّة حول (الثورة)
(1)
كنّا
نعيش عالماً مُبَعثَراً في أنحاء الأرض، تلك المساحات الشاسعة بين الشعوب كانت تَسمَحُ
بالكراهيَّة، ولكننا، في عالم اليوم الجديد تماماً، والمختلف، كليَّاً -اختلاف كم-
عن عالمنا السابق؛ نعيش في ضيقٍ لا يحتمل الكراهية، والدليل هو هذه الحرب
العالميّة الثالثة التي دُشِّنت مع الاتصال المريع الذي ربطنا في السنوات العشر
الأخيرة.
نعم،
ضيقٌ لا يحتمل وجود الكراهيّة، ولا يحتمل سوى المحبّة. وذلك ما سيكون عليه عالم
الغد، الذي بات واضحاً وجليّاً بالنسبة للعاقلين، بينما يظلّ عصيّاً على الإدراك
بالنسبة لمن يريدون أن تظل سلطة العالم المندثر قائمة!. ويتجلّى ذلك في أشدّ
أشكاله وضوحاً في "الدولة"، والتي أصبحت منبوذةً من قبل جميع شعوب
العالم، ثم يتدرّج التجلّي إلى أن يصل إلى ذكوريّة وأبويّة المجتمع التي بدأت في
التحطّم، طبيعيّاً، مثلما يتحطّم الصخر من ضرب الأمواج!.
(2)
أبدأ
بتعريفاتي للـ(ثورة)، وفق نظرتي خلال عدسة العالم الجديد، وقد وضعتها وكتبتها من
قبل في مستويين: ثورة فكريّة، وأخرى جسديَّة. فأما الفكريّة فميزتها أنها لم
تتوقّف عن الحدوث والتأثير ولا للحظةٍ واحدة، وتتجلَّى بصريَّاً وواقعيّاً في
إنتاج العقل البشري المستمر، فالعقل، في حدّ ذاته، ثورة! حدثت في الطبيعة وكوّنت
ما نسميه بالحضارة الإنسانيّة، ولا تزال مستمرّة، وهذه هي الثورة المستمرّة.
فأما
الجسديّة فتتجلّى فرديّاً في التعارضات والتناقضات الدائمة بين الجسد وما يحمله
التفكير الجَمعي للشعوب، والمصنوع ـ في العالم القديم ـ إعلاميّاً وتعليميّاً
وتربويّاً بيد الدولة وشديدها؛ تعارضات بين احتياجات الجسد والآيديولوجيّات
المكوّنة ليقينيّات الشعوب. واحتياجات الجسد معروفة للجميع بحكم حصول كلّ واحدةٍ
وواحدٍ منّا على جسد! الحماية من (الجوع، المرض، العنف، القتل..إلخ)، والحاجة الملحة
للمتعة المعرفيَّة والجسديَّة (الجوع الخفي والحقيقي) ويأتي التعليم، عادةً، في
ذيل هذه الاحتياجات لأسبابٍ تتعلّق بسيطرة الحروب والفقر على المشهد في بلادنا. كذلك
فالديموقراطيّة، كأسلوبِ حياةٍ سيُصبِحُ مُتخلِّفاً مع مرور الزمن، هي من ضمن
مطالب الجسد: الحماية، وحريّة التعبير. وهذه ثورات جسديَّة. أقول أننا –كبشر-
سنتجاوز الديموقراطيّة كنظام حكمٍ في المستقبل، إذ سيتضح أنه لم، ولن تكون هنالك
ديموقراطيّة طالما كانت هنالك نقود بنوك وشركات و، بالأساس، رأسماليّة. طالما
ظلَّت الموارد الطبيعيّة الممنوحة للبشري بوصفه –مُطلقاً- بشريَّاً، تُباع
وتُشترى.
فهل
هذه الثورات –الجسديّة- مهمّة في عالم اليوم؟ هل نحتاج، لكي ننجز ثورة فكريّة، هل
نحتاج، فعلاً، أن نغيّر أنظمة الحكم في بلادنا؟ وهل ذلك التغيير أولويّة، وهل هو
ممكن؟ نعم، هو ممكن، ولكنّه لا يدخل في مجال اهتمامات الأجيال الناشئة يا قوم، ولا
ما تُعايشه الشعوب من خلال انفتاحها، لأول مرة، على الشبكة!
(3)
لا
يدرك الكثيرون هذه البديهة، ولكن لا بأس من ذكرها هنا: نحن أوّل أجيال من كائنات
أرضيّة تدخل الشبكة! هذا التاريخ الذي عايشناه سيظلّ مثار الكثير من الدراسات في
المستقبل، وأعني بـ(نحن) جميع المتعلّمين والمتعلّمات الذين خاضوا تجربة الإنترنت
لمعرفتهم بالآتي:
· القراءة والكتابة؛
· التعامل مع جهاز الكمبيوتر في أبسط
قواعده؛
إن
نظرنا إلى هذه الفئة أعلاه، والتي عايشت نهايات القرن العشرين وبدايات الألفيّة (الانفجار
الأخير، أو القفزة الإنسانيّة الجديدة، قل أعظم تجليّات الثورة الفكريّة المستمرّة)
فهي تظل فئة طبقيّة محدودة في ذلك الزمان، وكنّا في ذلك الوقت قدر الشباب
المولّعين نار البي ورانا ديل، بما أننا قد دخلنا فئة الأجيال الكبيرة في فترة
وجيزة نسبةً لاختلاف الموازين بين العالمين، القديم والجديد، بحيث انمحق مفهوم
الأجيال، واختلَّ توازن جَسد الزمن، وأصبح الناس أنداداً في مجالات التعبير
وحريّته، وانتهت الحدود وضاقت علينا السبل!.
تلك
الحظوة -حظوة الإطلال على العالم العنكبوتي الجديد لأول مرة، وبأنفاس مبهورة-
أكسبتنا ثقّة وشعوراً بأن هذا الجيل مختلف ومميّز ولن يأتي كمثله شيء! إلا أن هذا
الشعور سرعان ما اختفى تماماً بإدراك أن ذلك النوع من "السلطات"
و"المفاهيم" لا تنتمي للعالم الجديد، ويا له من عالمٍ جميل! إذ اتضّح
جليّاً أن التشوّهات التي زُرعت في أحشاء أدمغتنا ما قبل انفجار الثورة بسنوات
قليلة ـ إعادة صياغة الإنسان السوداني بالـ"الإسلام الحقيقي" في السودان
كنموذج، وهو مشروع الأخوان المسلمين ـ هي مكوّن أساسي وجزء لا يتجزّأ من الثورات
الداخليّة التي أكسبتني، أنا تحديداً، معرفةً لا ينتهي نقصانها حول ذاتي والعالم.
(4)
انتهى
عصر الفئات المحدودة المُطلَّة على العالم الجديد والواقع الحديث، انتهى! وذلك بأن
أنشَبَت الشبكة خيوطها في الهاتف الجوّال، حُرّ الحركة؛ حاصرته وهَصَرته، تمدّدت
داخله وسيطرت عليه تماماً مثلما يفعل العنكبوت، ثمَّ أصبح جزءً من مملكتها! إن
الانتقال من جهاز الكمبيوتر إلى الهاتف الذكي يُعتبر بحاله ثورةً كاملة! إذ هو
انتقال في الملكيّة وتغيّر في جوهرها وبروز للفردانيّة التي تنبّأ بها سيدنا هرمان
هيسّه (الأفراد المنفصلون بعضهم عن بعض)[1].
سأحوال،
خلال هذه الديباجة، أن أتحدّث عن بعض البديهيّات الساطعة التي لا يراها سوى
المؤمنون بديمومة العالم القديم ولا نهائيّته، فهم لن يصدّقوا أن قيامته قد قامت
إلا أن تحدث لهم القيامة ـ بتعبير صديق ـ بطريقة (هوليووديَّة). الذي ربما خطر على
بال صديقي أن ذلك سيحدث، وقد شاهدت بأمّ عينيَّ كتيبة من المقاتلين الأكراد
يُفجِّرون سيَّارةً من أسفلها فطارت، طارت أمتاراً بعيدةً بزاويةٍ عموديَّةٍ
تماماً، طارت بكل من فيها من "مجاهدين" في سبيل تحقيق رؤيا "الخلافة
الإسلاميَّة"، ولم تنفجر إلا في السماء الكبيرة، تماماً مثلما تخدعنا
هولييود.
(5)
لا
أريد أبداً أن يعتقد أحدٌ أنني أبشِّرُ بعالمٍ جديد، إنني، بالأحرى، أصف وجوده
وتحققه على أرض "الواقع"، فالأمر بالنسبة للكثيرين مِن مَن يدافعون عن
"الإنسانيَّة" وفقَ قِيَم وتصوّرات وماركز قوى وسلطات العالم القديم
يعيشون معنا ويتنفسّون ذات الهواء ويستخدمون ذات الأدوات ولكنهم لا يدركون زوال
عالمهم بالكامل، سأحاول أن أفصّل قليلاً بسكب القليل من المواد الكيميائيّة
الحيويّة على صورة المؤسسات التي تحكم العالم القديم ـ القائمة صُوريَّاً في
عالمنا اليوم ـ لتوضيح هيكلها الذائب وجوهرها المُحطَّم.
في
الذهاب إلى عالمٍ كهذا تلزمنا قُبلَةٌ واحدة؛ تُعطَى بلا ثمنٍ، وتُفضَح كما يُفضَحُ
الجذرُ. وكما كان قانون الطبيعة شرهاً، ومتوحشاً، نحن لم ننظر في يومٍ إلى الأرض
كإله. ببساطة، واضحة: إلهتكم هي الأرض، ولن أؤمن بإلهٍ غيرها.
البلاهة
التي ألهمت كثيراً من الشعوب بأنها مركز الكون تقف شاهداً على بلاهة الكون ذاته،
إذ من غير الممكن أن تصدح كل هذه المجرات بوجودها دون أن تَصِفَ اتصالاها
بالقوانين الطبيعية لما هوَ كامنٌ في جوف الأرض؛ في ما طَلَع منها من أصوات
وإيقاعات وحياة، يا اخواتي ويا اخواني الأرض، عاينو تحت، خلو الفوق، ركّزوا في ما
يلي أقدامكم.
(6)
هذا
البيان للتدليل على إلهكم الحقيقي، لن أُنكِرَ وجود آلهةٍ أخرى ولكن، حسبما هو
موضوعٌ أمامنا في الواقع فإن الإله، إن كان من ثمة إله، فهي الأرض. عديل كده: حتّى
الإنترنت، الشبكة الداخليّة، هي صنيعة أرضيّة؛ دعك من الجسد والعقل والقلب
والحواس، دعك من الدم والبراكين والزلازل، دعك من القيم والعادات والتقاليد، دعك
من الأديان، التوحيديّة والمتعددة، دعك من طوفان نوح، دعك من حروب المستعمرات؛
اتركونا في الاتصال: الاتصال القاسي الذي كان ثمنه الحروب والمجاعات والإبادات، اتصال
اللغات التي أتحدث بها لكم، دعونا في الحياة.
(7)
سأكون
صريحاً: لا إله سوى الأرض. بالنسبة لي على الأقل. أما بالنسبة لكم فأنتم لم تفهموا
إنبات النبات. ولا رِقَّة الحيوان، ولا أن كل ذلك، علميَّاً وفلكياً، نابعٌ من هذه
الأرض، هذا الإله الذي وضعناه تحت أقدامنا واحتقرناه، ربنا، سبحانه وتعالى، تحت
أقدامنا ولا نرى منه سوى غرورنا ككائنات هبطت من السماء. ولكي لا يُفهمَ ما أُريدُ
إحياءَه خطأً، فإن الكثير من الكواكب والكائنات والحيوات لا تزال موجودة في الكون،
نحن لسنا الكوكب الوحيد، وهذه بديهة، بديهة لا يمكن أن توازي سوى بلاهة الاعتراض
على كروية الأرض. تشابه تماماً الشعور الأبله الذي انتاب أغلب البشر، خلال
التاريخ، بأحقيتهم القاتلة في الحكم على آخرين بانعدام الوجود وبالبدائيَّة. إن
البدائيَّة هي مفتاح الكون، التفعيل العظيم للبدائيّة الإنسانيَّة: اللغة، حب
المعرفة، انفلاق القلب بفِتَنِ الفن، وانقلاب الأحداق الداخليَّة عندما تفرض
الموسيقى -مطلق موسيقى، وهي لغة الله- عندما تفرض سطوتها على القلب المتحجّر،
والبركان القديم السليم.
ـــــــــ
لوحة: غاي ديننينق
Painting by: Guy Dinning
Painting by: Guy Dinning
تعليقات
إرسال تعليق