بُحَيرَةُ اليَوم
مأمون التلب
[نُشر
الجزء الأوَّل من النص نهايات نوفمبر 2020م بصحيفة مداميك الإلكترونية، واكتمل نهايات
ديسمبر ذات العام]
لقد تَنَاوَلنا خُبز البِحَار
الواسعة،
وفي الجُذُور تناوبنَا وبَكَينا ونُمنا،
ونَامت أحلامنا.
القبور السائلةُ كانت مفتوحةَ الوُجوه،
العناقيدُ الطَيفِيَّة بوجُوه
المفقودِينَ تَتلألأ؛
حتّى الشمس غضَّت بَصَرها وأنبتَت
كل ما لم تراهُ،
عَكَست الضوء،
بل خلقت الظلال،
ونامت.
هناك تركتُ جُثَث أصدقائي،
حيثُ لم تَعرِف الضفافُ القريبةُ
من قلوبنا،
من أهلنا وأحبابنا؛
لم تعرف كيف تكون هجمة الدمار صحيَّة
وخارقة:
الخلق يجعل الكفَّ التي ترسمُ
إلهةً،
السحابةَ التي تمرُّ ولادةً،
حتّى الحرب، عناقٌ لم نألف لوجوده
شيئاً،
بل لم نقطف أزهارَه اليائسة،
فهو، في فوهة المدفع، برأسه،
يُجلِّلُ كَوْنَه بآيات الحداد.
سالت عيني في الأنهار والمحيطات،
غَامَت وتعامت عن أخطاء الكبار،
ثمَّ نزفت دماء الذئاب الوحيدة،
ثمّ خلقت أرضاً جديدة، من شدّة لحم
الضحايا تكوّنت يابسة؛
ترنَّمت بالخطايا،
صَرَخت بمحتوياتها الجحيميّة،
وقلَّصَت من محتوياتِ الموت.
الموت،
حبيبنا الأخير.
(2)
في الليالي التالية لموتك،
عندما تتسلَّقُ الأزهارُ أعطاركَ الغالية؛
يا إله الأرض،
تختفي الشفقةُ عليك، كونك وحيداً
ومتروكاً للموت العبثي القاسي،
حيث لا هَدَفَ مقدساً مختاراً،
حيث كلّ عبثٍ ملاكٌ
محيطٌ،
وساخر.
عندما يَلمَسُنَا الموتُ الجديد،
تكفُّ أشباحنا الباهتة عن تبهرجها
حتى ظلالها تظلُّ مجرَّدةً من الأسلحة.
الماضي يتقبّلنا بهَوَسِنَا،
والمستقبل يلفظُ أعضاءَنَا بحريَّةٍ
مطلقة.
(3)
على حافّة الأيام يُوجدُ بئرٌ
دائماً،
نُلقي فيهِ بالمُهملين،
وهُم، بخناجرهم، يجلسون بجانبه
يرتشفون الضمير الذي سيتمّ تأنيبه.
ففي البئر، عادةً، يُرمى الأصدقاء،
تعويضاً مريراً لحياةٍ ظننتها
مملوكةً في قبضة اليد،
وفي الشجرة ألف موتٍ وموت.
(4)
على حافة الأيام،
تنتصبُ عينٌ هائلة الدَمع لدرجة
مُحيط،
خافتة النحيب حدَّ قُنبلة،
تنتظرُ بعض الإجابات التي بلا
فائدة،
إذ في ما يلي موتَكَ
نسيانٌ بليغٌ كذرّة ترابٍ في
زوبعة.
تتذكَّرُ كلّ من أحبَّكَ لحظةً،
من شاهدَ زاويةً منسيَّةً منكَ،
وبلا رحمةٍ ترمي بهم في البئر؛
من شدّة لحم الضحايا تكوّنت يابسة
تسلَّقَت سريركَ وحاصرَت الجبال
السائرةَ أمامنا،
حَجَبَت غروب الكون السافر،
ونباتاتٌ قيِّمةٌ تُقصفُ في الحال
على اليد.
في السلام النهائيّ تُستخدمُ اليد،
لتقطف الورد، لتحجب اللحم، لتنعي الظلال.
(5)
لن ترى:
الجثث ملقاة في خورٍ يربط هياكل
الجبال العظميَّة،
المياهَ المُحتبسة الدمع تمرّ كلّ
عامٍ،
تَجرِفُ في طريقها السحابَ النامي
بين الصخور.
الأجسامُ الجامدةُ في القاع تُرَى وهي
تستلقي،
منتظرةً طائراً جامحاً
يمرُّ ما بين أمطارها النازفة
داخل ذكرياتها المُهملة.
(5)
في أحلام بحيرة اليوم تبدو الجبال
مجبولةً على الانحدار
لدرجة الحكايات الصغيرة لمن ماتوا
بين صخورها
بلا داعٍ
سوى دعوة الصخور.
هناك،
عند النهر،
يجلسُ الجسرُ، مُنحسراً
يُعاتب نَفسَهُ الوَاصلة بين ضحايا
لن يحكي عنهم أحد،
وعلى حافّة بحيرة الدماء السياحيّة
العظيمة،
سنرى من يُمسكُ السلاح مُخاطباً به
طائراً غامضاً تَخلِقُ أجنحَتَهُ الرموشُ الباكية،
والظلالُ الباقية بجانبك تنتحب،
سَلِّم على يَدِهَا المُمتَدَّة.
----
28 نوفمبر – 20 ديسمبر 2020م
اللوحة: من أعمال الفنان التشكيلي السوداني عبد الله محمد الطيب (أبسفة)
جميلة، مليئة بالصور والأحساسيس،،، والحزن.
ردحذف