التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السوائل الخائنة - مأمون التلب



السوائل الخائنة

مأمون التلب



وكلما تغلّبت وجوهٌ على أخرى،

تقلَّبت هموم عيونها وكَشَفت ما لم يُرَى.

بدروبٍ لا تُفضي إلى مكانٍ وجَّهَتِ الجدرانُ أيامَ جمودها إليك؛

خَسَفَت أقمارها،

وتوجَّعت من أشعِّة شموسها،

وسمَّت الفضاء قلباً يَعُدُّ خطوات حياتك بفارغ القَتل.

إنك منهم؛

الذين لا يقفون على وجه قبرٍ إلا ليحوّلوا ترابه سماءً طافية على ملامح وجه الميِّت؛

سماءٌ لم تعترف بها دياناتٌ ولم يقاتل لأجلها أحد.

إنها السماء التي نَطَقَتْهَا شفتاك بلا طيور.



لدمعتكِ

لكلّ سائلٍ هائلٍ خانك وظَهَرَ

نخبُ انحناءٍ كاملٍ لقوّةِ العالم؛

لهيكله السائر في الصحراء مُشبّعاً بالماء،

ووجود العطش مَمحُوَّاً بكلّ من أساءَ إليك،

وجود السراب مُتوّجاً بكلّ من لمح جوهرك.



بوجهه المُختار بعناية انهزامات الضعف البشريّ،

يُقلّب عضلاتهِ، مُفرزاً أمام كلّ شيءٍ قدرته على التحوّل؛

إنه يقهر الأسماء، ظنُّ البشر بأن الجماد جاهلٌ بوجوده

وبمن يهدّدُ جُمودهُ.

يلمس الأحياء بعنق زهرةٍ نابتةٍ لا تتباهى بعطرها

وبمن تفشّى قبح أحلامه أمام الجميع؛

يلمس الأحياء بمن نام ليمنح أحلامه قدرةَ الحياة؛

التجوّل بملابس مُشرّبةً بدماء ضحايا بشريّةٍ لم تكتمل، أعني

أشجارٌ اخضرّت دون أن تعرف معنى الأخضر فتصرخ من رعبه على جسدها،

إنها الرياح تُعرِّف النموّ بأن تُحرّك أغصانه، تُكسّره بعنفها في الفصول الصاخبة،

إنها الأمطار تشتدُّ بكونها ماءً هابطاً من الأعالي، مُتحديةً قانون نبوعها من أسفل عطش الأرض؛

عطش سكّان الأرض، أيها العطشان بقلوبك الصحرواية،

بخيلاتات مآتاتك تستلُّ سيوفاً وهميّةً تُصلصلُ في عيون الطير الذي يُحبُّك،

أنت مُبعد مُحبيك،

تنبتُ في أحشائك صرُوحٌ تكتبُ تاريخ سلامتك، تكتب تاريخ عنفك الذي لم يوجد؛

لم يوجد إلا في ذهن الموسيقى،

من سَمِعَ الصوت الأوّل ونغَّمه، رَقَصَ ولم ينتبه للغات أعضائه،

رَقَصَ ولم ينتبه لضربات أطرافه للفراغ الذي غلّف العالم ولم يُحَدِّث عن ذَاتِهِ.

أنت مشروخٌ بجروح الورود، بأسماء روائحها،

أنت لدمعتك:

نخب قوّة العالم التي لم تجد أحداً لتواجهه سواك.



أين هي القوانين التي ترصُّ الطيور كسهمٍ في السماء

القوانين التي تجعل الماء شفّافاً من منابعه

التي تمنح الجسد قدرة الرقصِ على إيقاعٍ

من مَنَحَ قدرةَ الطيران للمعدن أعلى جاذبيّة-حبّ-الأرض

الكلاب قدرةَ الحبّ، الوفاء، الحراسة، البلاهة

قوانين انحناء قلبك، الذي لن تدركه أمراض القلوب، لما يشيخ باستمرارٍ

صدءُ المعادنِ البشريّةِ أنت من يلهبها لتذوب،

قليلةٌ هي الأشجار التي لا تسير لأنك رأيتها وأمرتها بالسير،

السرابات التي تُطفئ ظمأ العين والجسدُ حالماً يرجفُ،

البراكين تهزُّ الأرض ليهرب من يعلّقون صلوات حيواتهم، نُطف أبنائهم

ولا من حممٍ فقط نظرةُ عينيك.

أيّها الساديّ الذي علّم البشرية براءة اللمسة التي تُحطّم التاريخ.

لا وجود لسلطةٍ سوى أحلامهم بانعدام وجودك،

لا قلق سوى أمنياتهم بانسحاق وجهك أمام الموت،

كيف يا موت تقف أمامه، أعني كيف يا موت تقف أمامك؟.

صراخ القيامة يتردد في الكتب التي تنزف من أعضاءٍ حَفِظتَهَا منذ أن وُلدت

صراخُ الحروب البشرية طويلة الأمد يفقأ عينيه داخل عروقك،

ومن طيرٍ يركُّ على خيالات مآتةٍ صَنَعْتَهَا بضحكاتك المتنافرة،

هل من جيلٍ يمرُّ عبر رموشك دون أن يُسحق ويُربّى؟.

لديك الأرض تتخلّى عن كونها بيضاوية

تدور في مدارات الكون

وتظلّ بريئة

تُظلّل بالليل، وتُضاء بالقمر

يا لهول جهل الأرض؛

يا لهول الجهل،

يا لهوله.



كنّا، بسيرة العميان الذين لا يعرفون اللون

كلّ شيءٍ مسمّىً بملمسه

الأوجه التي لا يدركها أحدٌ نراها معرّفةٌ بعماهم

الشوارع كلّها تتملّك معناها بوجودهم

فكيف يصلون لكَ، أنت الذي عشقت جميلي الوجه

عطور أجسادهم شممتها دون أن تنطق بحقيقتك.

إنها الأشجار تنبت منك، أنت الذي منبع كلّ بذرةٍ لم تدرك معنى البداية،

ولم ترى نهايتها مأكولةً بمناقير الطير، منتشرةً في الريش

وفي أفواه متعلّمي الطيران.

والريح نعرفهم

والريح تعرفك

اصرخ في الرياح وفي آلاء الأشجار لعلّ الكون يعود لأصله

ويمنحك ضحكةً لا زلت تُطلق أصداء بداياتها منذ أن وُجد الحيوان

منذ أن ظُلم الحيوان بكونه هو:

أنت من عاد إلينا ولم نعد إليك.



أكتوبر 2009م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

إجلالٌ ونفورٌ أمام كلام الربّ: حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة"

تنقيبات طينيّة (13) خطاب أَ ماديو : " إجلا لٌ ونف ورٌ أمام كلام الربّ " حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسييه مأمون التلب مُقدِّمة طينيَّة: (1) أ عود مرةً أخرى إلى باب (تنقيبات الطينيّة) لقراء مد وّ نتنا ، حيث أزور كُ تُ باً وكُتّاباً آخرين ، وفي الحقيقة فإن الدَّاعي لدخول الباب عادةً يأتي من نصوصٍ وكتاباتٍ أثَّرت فيَّ حدّ الألم والمعاناة والفرح واللذة الهائلة، وغيَّرت فيَّ بعمق، وصراحةً لم يحدث ذلك من ذ مدّة؛ صحيح أنني استم ت عت بمئاتٍ من الكتب الجيّدة خلال سنوات ال ا نقطاع عن العودة هنا، تعلَّمتُ الكثير وانتقلتُ إلى عوالمٍ وبلادٍ وأناسٍ آخرين، إلا أنني فوّتُّ "قطار الليل إلى لشبونة" إلى هذه اللحظة، والتي يتكاملُ فيها عالم القطار مع عالمي الخاص وحياتي الراهنة؛ حيث العجز لا اليأس، والمراقبة لا المُشاركة، أي التقدّم في العمر محسوساً بقوّة، وبالضبط عند مشاهدة الاستبسال الخارق لأجيال اليوم وحلمهم ببناء عالمٍ جديد! إنه لمن المُدهش، بعد أكاليل الهزائم التي تطوّق أعناقنا بأشواكها، أن ترى الحياة تتجدَّد رغم أنف عدميّة وانغلاق آمال عالم ا...