مَن يَلحَمُ أبعادي
ملف الشاعر محمد
المهدي المجذوب
مقدّمة طينيَّة:
يُعيدني هذا الملف
لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد،
بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة
(الأحداث) ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان
القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال
لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في
أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة
لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة
قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم
الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب
محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم
على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة،
وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي مقالة محمد الصادق، ثم
تأتي الأهوال.
لم تمكنّا الإعلانات
التجارية من نشر الصور التي تحصلنا عليها، كاملةً، من بيت المجذوب، اليوم أنا سعيد
بأن أقدّم كل ما أملك في محفظتي عن شاعرنا العظيم.
نُشر هذا الملف بعد
(تخوم)، مرتين؛ في موقع الشاعر الصادق الرضي Sudanese Ink، ثم في موقع (سودان للجميع) بمساعدة إدارته، وهو لا يزال هناك.
إنني لا أزال أؤمن
أننا كُنَّا مُسَيَّرين ـ بلا أيّ خيار ـ بروح الشاعر لإنجاز هذا الملف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهرس الملف:
1-
تربة
2-
أتكتَّمْتُم على (هذا
المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟
3-
لوحة شرف: إعداد صلاح
عبد الحفيظ
4-
كُتَّاب على طاولة
المجذوب:
عبد
الله الزين
محجوب
كبلو
جابر
حسين
5-
من يلحم أبعادي:
مختارات من إعداد محمد الصادق الحاج
6-
من داخل منزل
المجذوب: حوار مع إبنه الباحث عوض الكريم محمد المهدي، حوار: مأمون التلب أحمد
النشادر وصلاح عبد الحفيظ وعوض الكريم مع أحفاد الراحل.
7-
غاليري صور.
ـــــــــــــــــ
مقدمة الملف
تُربَة:
اطبعوا أعماله
الكاملة يا قوم
لا نريد أن يكون هذا
الملف رهين لحظةِ نشره الورقيةِ اليوميَّة، نريد له أن يَفعل وتدور دوائرُ حجره
السَّاقط في واقعنا المُتَحجِّر أصلاً، أن تصل حواف الضفاف، وتُنبِتُ ما يدوم وما
يُشرقُ بوجه المجذوب على السودان، وما يشرق بوجوهنا جميعاً أمام حياته وشعره
وعينيه الذكيَّتين، لذلك ندعو من هذا المنبر، كل من يستطيع المساهمة في إصدار
الأعمال الشعرية والنثرية الكاملة للمجذوب، تتضمن أشعاره وحواراته وكل دراسةٍ
وافيةٍ كُتيت عنه، وكل عرضٍ ومحبَّةٍ خرجت من خلال مقالةٍ أو كتابة، ومن ناحيتنا،
فنحنُ نتبرَّع بتحرير الأعمال الكاملة، تشكيلاً ومراجعةً لُغويَّةً وتنسيقاً
وتصميماً.
نود أيضاً أن نشكر كل
من ساهم في خروج هذا الملف إلى الضوء، بدايةً بأسرة المجذوب، والتي أرعبتنا بكوننا
أول صحيفة تدخل منزله منذ رحيله عام 1982م. نشكر المصوِّر الصبور والمجتهد علم
الهدى حامد، إذ تجلَّى صبره في تصويره الدقيق لبعض الأعمال الشعرية غير المنشورة،
والتي سننشرها في عدد الخميس القادم في صفحة كاملة مصحوبةً بصورٍ للمخطوطات بخط
يده، ونشكر الأستاذ صلاح عبد الحفيظ على ذاكرته التاريخية الفذَّة، والتي أنقذت
بعض الصُّور المنشورة هنا من سقوط تواريخها عنها، نشكر الكاتب محمد الصادق الحاج
على كل هذا التنقيب الفذ والشرس عن مكامنِ إشراقاتٍ ورعشاتٍ أخرجها لنا بعينه
المدرَّبة، وصاغها لنا بمقدِّمةٍ مهاجمةٍ تعود لتدفع تلك المختارات إلى علوٍ ما.
وأخيراً مصمِّمة صفحات الملف (تخوم) سارة بكري دوليب على إخراج الملف بهذه الصورة
التي نفخر بها.
(تخوم): القسم
الثقافي بصحيفة الأحداث
2008م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أتكتَّمْتُم على (هذا
المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟
محمد الصادق الحاج
·
إننا على ظَهْر تَلٍّ من الأعصاب نسمِّيه (الحاضر) الذي هو كل ما نَرِثُ من
ركامٍ يَسْتَشْرِهُ الحَوَاسَّ واللاحواسّ؛ مذاقات، مَلامِس، مَشَامّ، مَسَامع،
مَشَاهِد و... قراءات. لأن (النظرة منتخَب الشُّرود) في عِلْم رندا محجوب، القراءة
باللاحاسة لا بالعين، القراءة بالغريزة والمادُون. ومُسَرِّع الالكترونات يطلق
دفقاته المتلاحقة على بطن اليوم. فهل عَمِلَ الجهاز الهضمي ناظماً ـ
بتراتُبِيَّتِهِ ـ لتراتبية الأخلاق وأحكام القيمة الإدراكية؟.
·
خلال العامين (1968م _ 1969م)، وحين لم يكن أيّ من دواوينه قد صدر بعد، كتب
الشاعر محمد المهدي المجذوب نصوص ديوانه (القسوة في الحليب)، باستثناء نصَّين؛
أحدهما كَتبه في العام (1971م) والآخر، للمفارقة، مكتوب في العام 1955م. كما كتب
بين العامين المذكورين أغلب نصوص كتابه (أصوات ودخان) والذي لاذ بعض نصوصه بجرائر
الثلاثينيات والأربعينيات، تَرَاوَح بين أشعار خليلية وموشَّحَات ونصوص بالنثر.
وكان أول ما استقام كتاباً للشاعر ديوانه (نار المجاذيب 1969م)، وكان الرجل في
الخمسين من عمره، وكان قد كتب بالفعل شعره كله تقريباً.
·
وفي نفس عام صدور (نار المجاذيب)؛ أي العام (1969م) كتب محمد المهدي
المجذوب قصيدته (شحَّاذ في الخرطوم) التي صدرت في العام (1984م) طيّ كتيّب ضم
نحواً من ثلاثين ورقة. ثم انقضى واحد وعشرون عاماً على صدور (شحاذ في الخرطوم)
وثلاثة وعشرون عاماً على رحيل المجذوب، قبل أن تفاجئنا أسرة الشاعر في العام
(2005م) بديوانين كان قد أعدَّهما بنفسه في (نسخة مخطوطة ومنسَّقة بخط المجذوب)
كما أفاد ناشر الكتابين (القسوة في الحليب) و(أصوات ودخان) والذي عُرِّف في
ديباجتيهما بأنه: (أسرة المرحوم محمد المهدي المجذوب)، هذا غير النصوص التي أحرقها
والده، كما أفاد ابنه (عوض الكريم) محرِّري (تخوم)، هذا غير النصوص المتفرقة في
كراساته والتي امتنعت المحاذير الأخلاقية والاجتماعية و(الإخوانية) عن وضعها بين
أيدي القراء باصطلاح العبارة.
· (ومكانَ الأرْجُلِ الوَلْهَى طُيُورُ. في الجَّلابيبِ تَثُورُ وتَدُورُ. تَتَهَاوَى في شِرَاك)*.
لعلها أرجل المجذوب نفسه هذه الطيور مضطرباتٍ في شراك (نفوس الجماعة الصارمة)*. ولقد عاشر المجذوب وعاصر أكواماً من
(الجماعة الصارمة)، أوَّلها شيوخه الداخليون الذين فصَّل صرامتهم طيَّ حديثه
لـ(أبوذكرى) يُقرِّعونه، ثانيها شيوخه في الخلوة في المدرسة يُقرِّعونه، ثالثها
شيوخه المصريون الإنجليز يقرعونه، ثالثها شيوخه الشعراء من معاصريه، وكلنا معاصروه
والتالون وبعدهم و...، يُقرِّعونه، أعني إن المجذوب قد قُرِّعَ بما فيه الكفاية
للأسباب الظرفية كلها التي تجدونها في أحاديثه وفي شعره الذي وُضِع تحت احتياطات
تعليبية مزينة بشرائط الهدايا اسمها (شاعر صوفي، ومن "فُحُول!!" شعراء
السودان، و...)، بربِّكم!!، كيف وضعتم المجذوب في مكانٍ، دعكم عن زمانٍ، هو ما لا
تستطيعون تنميط المجذوب وِفْقَه. (طيور في الجلاليب)، هي المجذوب الذي أعرف، هي (فتىً في حلبة الطَّارٍ تَثَنَّى وتأنَّى)*،
(تأنَّى) يا
قوم، تأنَّى، هذا الطفل الجَّموح!!، شاعرٌ وَلَدٌ يتهوَّل ـ لِيتَهَوَّل ـ من
أحاديثِ شيْخٍ يَسْكُنُه. على الأقل كنتم أكرمتموه بوصفه (فُصَامياً) يعي
سُكَّانَه ويحاورهم، بل ويرتدع بتقريعاتهم من أجلكم!.
·
(لستُ صوفياً)،
(لستُ صوفياً)، (لستُ صوفياً)؛ أعادها مراراً وتكراراً فما أغنتكم
عنها إلى الشعر، هل ينبغي على هذه الضراوة أن تُوْدِي بواحد منكم قبراً حتى تطلقوا
سراح الشِّعْر من بين يدي ماشطة الأحكام المدرَّبة؟، ولا عليكم، شِعْر طليق لا
ينال منه التجاهل ولا تخنقه العناية، (ثأريَ قادمٌ
فانتظروا قيامتي تَمْحُوكمُ من الوجود*. أتحدث إلى المستنيرين
الحداثيين الفرحانين بستَّينياتهم وسبعينياتهم وثمانينياتهم وتسعينياتهم الطَّروب؛
وحتى ألْفِينِيِّين جاست خلال عقولهم الرطبة المفراكة الآسِفَة ذاتها، هل
تعاميتم؟، قولوا، لم نكن نعلم!، لقد
تُعْذَرون. ولكن هَبُوا عُذرتم بما جهلتم من المجذوب، هل تُعْذَرون بما جهلتم
منكم؛ إذ تعاميتم حتى عن كتابتكم؟، اسمعوا المجذوب يعرِّفكم: (أَحْرَاشُنَا تنمو على اتِّفَاق)*، يقول عاذركم إنكم قد كنتم غارقين في فوران حركات التحرر وأفكار المقاومة
السياسية التي اندلعت في عقل تلك السنوات وغذته بلوثة التغيير السياسي!، فهل كانت
لكم في التغاريد السياسية الكفاية عن إشعال ناركم تلك كلها على رأس الطلب؟، ألم يكن الفن
الثورةَ الكبرى تدور صاعقةً دائمةَ النار في كل زمان، ألم تكن الكتابة آيديولوجيا
بما فيه الغناء؟؛ وقوداً محركاً، بما يجعل من التماعاتكم الشبابية الخاطفة تلك
شرارةً تنقدح في كابوس العمل الثقافي الكسيح في السودان منذكم؟!، هذا عار!!.
·
لأقرأ المجذوب لم
ألتزم غير غريزتي؛ طَرَبِي الشخصي بما يزأرُ، حتى في الحجر. لتكن انتقائيةً، ولتكن
انحشاراً في الجيب الذي لا نَوَال ولا مخرج، ولتكن اللمعانَ الممكنَ استيراداً عن
الظلمة الإرث، ولتكن... لتكن احتياطاً هضمياً على قلعة التَّلّ الذي، (يريدُ أن
ينقَضّ)، فلا تقيموه مجدَّداً يا قوم، افتحوا الكنْز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لوحة شرف
إعداد: صلاح عبد
الحفيظ
من مواليد العام
1919م، الدامر، نشأ في بيت آل المجذوب المعروف بالصلاح والتقوى والعلم. أصغر من
تعلَّم القراءة والكتابة في تاريخ السودان، وكان ذلك وعمره حوالي الثلاث سنوات،
حفظ القرآن على يد والده الشيخ. اشتهر وهو صغير بكتابة وعمل الشرافة (ألواح
القرآن)، وهو العمل الذي كان يقوم به شيخ الحيران. التحق بكلية غردون التذكارية
وهو لم يبلغ بعد السن القانونية للالتحاق بها، وكان ذلك لقدرته غير المحدودة في
اللغتين العربية والانجليزية.
فور تخرجه من قسم
المحاسبين عام 1936م، تم تعيينه محاسباً لخدمة الدولة. في كلية غردون كان له الفضل
في عمل الخلفية المسرحية من خياله الدَّفاق، أراد له والده الشيخ أن يصبح قاضٍ
شرعياً، غير أنه سلك طريق العمل الوظيفي، أسس ومعه عشرة من المثقفين (الحزب
الجمهوري) مع المرحوم الأستاذ محمود محمد طه، في العام 1949م.
إلى جانب معرفته
الجيدة للغة العربية، فهو من أبرع وأشهر من تحدثوا بالانجليزية، صدرت له الدواوين
الشعرية التالية: الشرافة والهجرة، نار المجاذيب، البشارة – الخروج – القربان،
القسوة في الحليب، أصوات ودخان، منابر، شحاذ في الخرطوم.
بدأ كتابة الشعر وهو
في سن الثالثة عشر، ووصل لمرحلة الفرادة والتميز في كل الأعمال التي قام بها في
حياته، بدءاً من انضباطه في مواعيد خروجه ودخوله بمواضع عمله وسكناه، ونظمه للشعر،
ووفائه لأصدقائه، وإصراره على مواقفه التي كان يقول أنه كان من الممكن أن يموت دونها،
ومدَّ يد العون لكل محتاج من معارفه وغيرهم.
التحق بكلية الفنون
الجميلة لوقتٍ قصير رغبةً منه في تعلم الرسم الذي أحبه، ولكن انقطع عن الدراسة
لانتقاله للعمل بسلك المحاسبين الحكوميين بجنوب السودان.
مثل السودان في عدد
من المحافل العربية والعالمية الثقافية بوصفه أميناً لاتحاد أدباء السودان، انضم
للندوة الأدبية بأمدرمان، وكان ممثلاً لها في مؤتمر الأدباء العرب بالقاهرة،
ومؤتمر بغداد. نال عدد من الجوائز، منها: وسام الحبيب بورقيبة، وجائزة تقديرية من
الكويت، وجائزة الدولة التشجيعية والوسام الفضي ووسام الآداب والفنون.
توفي في ظهيرة الثالث
من مارس 1982م عن عمر بلغ ثلاثة وستون عاماً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كُتَّاب على طاولة
المجذوب
رأينا أن نُجلسهم على
طاولة افتراضية، الشعراء: جابر حسين رئيس اتحاد الكتاب السودانيين فرع ود مدني،
محجوب كبلو، وعبد الله الزين؛ من أزمنة مختلفة، نريد أن نرى وجهة نظرهم في: كيف
استطاعت أعمال المجذوب أن تظل طازجة دائماً، نريد أن نرى وجهات نظرٍ واختلاف ونقاش
على هذه الطاولة، فكانت هذه الإفادات.
إعداد: تخوم
جابر حسين: مبتدع
الصور الشعرية والبراعة الفنية
أوائل الأربعينيات من
القرن الماضى، حدث صراع مكشوف بين الرؤى المحافظة للقصيدة التقليدية العربية، وبين
الرؤى الجديدة التى تستلهم الأصول المحلية التى تأخذ من الثقافة الغربية الوافدة
على بلادنا وقتذاك، وشكلت –عملياً –تعديلاً ملحوظاً فى مسار القصيدة وتطورها، وهذا
ماجعل شاعراً ولغوياً محافظاً مثل د. عبدالله الطيب ينظم شعره على شتى الضروب من
الأوزان المألوفة وغير المألوفة، ثم عاد إلى أوزان الخليل مطالعها ومقاطعها !
ولكنه – تماماً وكما فعل من بعد معاصره المجذوب – لم يستطع أبداً أن يتجاوز تلك
التقليدية التى تمسك قصائدهم من أعناقها، فلم يلبث أن جدد الدعوة (حارةً وجياشة)
للعودة إلى أصول الثقافة العربية فى الشعر السوداني!! ونرى – فى ذات السياق –
ناقداً مرموقاً مثل إحسان عباس يقول عن الشعر السوداني فى تلك الفترة: (الجانب
التصويرى فيه قد تغلب على الجانب التقديرى، ويتمثل هذا فى إتاحة التفرد الذاتي
وإستبطان البراعة الفنية واللغوية الموجودة فى البيئة الشعبية) . ( 1 )
المجذوب فى تقديرى
مبتدع صور شعرية لا يبارى، ونقول بضميرٍ مطمئن أن أسهامه الكبير يكمن فى هذه
النقطة بالذات، وإنها بمثابة الجوهرة المشعة فى مسيرته الشعرية، لقد جعل من الصورة
– فى تجلياتها المبدعة كلها – فى مكان القلب من جسد قصيدته الحديثة .
لقد أجرى "
الصورة " فى مجرى الدم السيال من قصيدته ثم علقها على عنق شعرنا الحديث، فعل
ذلك وهو الشاعر الكبير الذى أعتنى أيما عناية باللغة فى قصيدته، بل أنه عالجها
بحذقٍ وذكاء موهوب حين زواج بينها كفصحى، وبين لغة الحياة اليومية لدى الناس
البسطاء فى أطوار حياتهم العادية، فألبسها ثوب الواقعية العفى، وإبتعد بها –
بيقينٍ ووعى عميق – عن الفصحى التى لا تصاحب الناس فى معاشهم، بل تبتعد عن لسانهم
ومعاشهم ! نقول ذلك ونحن نعرف أنه قد قال يوماً (ليس لى مذهب شعرى، فقد حاولت
التعبير عن نفسى بصدق، ولم ألتفت إلى مذهب نقدى، ولم أجعل اللغة غاية، وأخشاها،
وأشتهى الخروج على قوانينها الصارمة، ولا أعرف تقطيع البيت على التفاعيل، ومازلت
أتعجب ممن يطبق هذا التركيب وأشهد له بالبراعة) . (2)
قال بذلك، لكنه أهتم
وكثيراً جداً ليزاوج بين جزالة الفصحى وبساطة العامية وواقعيتها، وبدأ فعلياً يجرى
فى قصيدته تلك التجارب اللغوية منذ أواخر الخمسينيات وحتى أخر ماكتب من شعر ! لقد
أخذ من القصيدة التقليدية " زمانها " الذى هو أحد ملامح كلاسكيتها،
ونعنى به ذلك " الزمان " التقليدى نفسه التى ظلت القصيدة تدور حوله
وتحاوره ماإستطاعت إلى ذلك سبيلاً دون أن تتجاوزه أبداً ! أدرك المجذوب أن دوران
قصيدته حول ذلك "الزمان" يقعِد بها، ويفقدها حرارة الواقع ووهجه الذي هو
– وقتذاك – كان سبيل القصيدة الوحيد للإنطلاق نحو الرؤى الحديثة فى سماتها
الواقعية التى تكتنز بها بيئة الشاعر من حوله، وبجرأةٍ وكبرياء الشاعر الكبير أخذ
ينشئ شعره مستلهماً "الزمن" الواقعى الجديد، والحال كذلك، كان من
الطبيعي أن يُدخل فى تضاعيف قصيدته التعابير الجديدة والتراكيب المبتدعة، أصبح
يتناول حياة الناس البسطاء من حوله مستخدماً تلك اللغة التي ماعرفتها أبداً
القصيدة الكلاسيكية التي حفظ الكثير منها وأنشأ على منوالها قصائده الباكرة كلها!
الإنتقال
"بزمانية" القصيدة إلى واقع الحياة وبلبالها، هو أسهام المجذوب الكبير،
حين طرق على هذا الطريق وأضاء جوانبه مما أتاح للتجارب الشعرية من بعده أن تسير
بثقةٍ كبيرة فى دروب شتى، شكلت فى مجملها التطور الباهر للقصيدة الحديثة فى
إتجاهاتها وسماتها،هذا الإسهام هو الذى جعل عبدالهادى الصديق يقول عنه: (...ثم نجد
شاعراً مثل محمد المهدى مجذوب يطرح هذه الأصول جميعاً فى سطور شعره، فتجد فيه
المكان السودانى بكل تفاصيله وملامحه المتفردة، وتجد عنده النغم الصوفى العذب
واللفظة العربية الضخمة بكل زخمها وخشونتها، إلى جانب التعبير الشعبى بكل سذاجته
وبساطته )) . ( 3 )
ولقد كان إستخدامه
لهذه المؤثرات الفنية، فى زمانها الواقعى، هو مفتاح النجاح فى شعره،وأصبح شعره
يصور ببراعة كل أبعاد الحياة السودانية ... فأنظر إليه كيف يصور المرأة السودانية
في "حفرة الدخان " فى قصيدته "غمائم الطلح" :
(( وحفرة بدخان الطلح
فاغمة..
تندي الروادف تلويناً
وتعطيرا
لمحت فيه – وما أمعنت
– عاريةً...
تخفي وتظهر مثل النجم
مذعوراً !
مدت بناناً به الحناء
يانعةً..
ترد ثوباً إلى
النهدين محسورا
لقد لفها العطر لف
الغيم منتشراً
بدر الدجى وروى عن
نورها نورا !
يزيد صفرتها لمعاً
وجدتها..
صقلاً وناهدها
المشدود تدويرا!
أرخى الدخان ستراً
فبعدهُا
كدُرةٍ في ضمير البحر
مجسورا!))
ويمضي عبدالهادي
ليقول أن مثل هذه الصور هى التي كرست المجذوب كأول من أرتاد هذا الأفق من الواقعية
التى تهتم بتفاصيل الحياة السودانية الدقيقة، حتى إذا أهلت الخمسينيات بالشعر
الواقعى سار الشعراء الشباب فى هذا النحو من التعبير، والذى يبدو أكثر وضوحاً عند
صلاح أحمدإبراهيم وجيلى عبدالرحمن وسيد أحمد الحردلو وأخيراً محمد المكى إبراهيم
من شعراء الستينيات . ( 4 )
وظل المجذوب متأرجحاً
ومتجاذباً فى صيرورته الشعرية العجيبة، بين صوفيته التى هى مجاله الحيوى فى
قصيدته، وبين توقه للتمرد والتجاوز، ذلك التمرد والتجاوز الذى كان يتمناه ويخشاه
فى ذات الوقت! وحتى فى صوفيته نجده قد ألبس قصيدته لبوسها كلها، ولكنه – أيضاً
ماإستطاع أبداً أن يصعد بها إلى ذراها العالية كما نجدها عند أبن عربى أو الحلاج
أو السهر وردى المقتول، لم يأخذ قصيدته إلى تخوم تجلياتها ذات الإشراق الذى يجعل
القصيدة تشف وترق لتبلغ المعانى والقيم الشفيفة للتصوف، لقد (قعد) بها حيث تكون
الناس البسطاء من مريدى الصوفية وحيرانها الكثار ! نجد ذلك واضحاً فى قصيدته
الشهيرة (الموُلد) التى أزدحمت بالصور الجميلة للتصوف الشعبى، فى المكان الذى
سماته كلها هى ملامحه القديمة ذاتها ولكنه أسقطها – كصور شعرية بديعة – فى الزمان
الراهن لحياة الناس ! وظل – أيضاً – فى مظاهر تمرده الشخصى غير مستطيع أن يمضى
بتمرده إلى مبتغاه، إلى حيث تنطلق القصيدة – فى الصورة الشعرية وفى تراكيب القصيدة
ولغتها – إلى حيث يكون التجديد الشعرى هو الهم الوجودى للشاعر الذى ينشد لقصيدته
الإكتمال !
أنظر إليه كيف إستطاع
أن يجلب إلى صورة القصيدة الزمان الواقعى – ثم كيف هو قد أدخل – ببطءٍ – وخشية
ملامح التطور الذى سعى إليه فى قصيدته :-
... (( مِلْ بي إلى
الحانةِ فى سُلافِها كاهِنهُ ورَوْحُ كِبرياءْ
وريشُ خُيَلاءْ
وقطعةُ من السّماءْ
نَقْذفُ من كُوَّنَها
الأسماءَ لا نُحبُّهَا قُيُودَا
ونَلْبَسُ الأوجُهَ
لا الأقنِعَةُ المُخَصَّرَهْ
تبرَّجََتْ فى
عِطْرِهَا وأيْنعَتْ،
وقصَّرتْ فُسْتَانَها
وشَعْرَها
وسَكرَتْ بِسحْرِها
وشَفَتِى عالقةُ بنَحْرِها
شُعاعُها يلَثغُ
طِفلُ عاثِرُ يُضاحكُ العِثار لاعباً يخلعُ
ظلّهُ ويرتديه
عيونُه تبحثُ فى
عينىَّ عن وسادةٍ وإطرَقَتْ عيناىَ فى سُهَادى !)) (5)
المجذوب أيضاً، كان
متصالحاً مع نفسه، مطمئناً إلى رؤاه، ونقصد بالتحديد أنه كان لا يريد لشعره أن
ينطلق بإتجاه القصيدة الحديثة، من حيث رؤاها وزمانها واحداثها المعاصرة ..، بذرة
التمرد فى دواخله تريد أن تنطلق، وتعدو وتركض، ولكنه كان يكبح إنطلاقها ويحد من
حركيتها ..، حتى فى تلك اللحظات الكابية التى تمرّ به، وهو يشهد العناكب "
رقاصة الصمت " تنسج أحلامها من السكون، وتحول بينه وبين حلمه وتوقه
للحياة،وهو فى وسط ذلك الخضم من الحيرة والشك والظنون، فإننا نجده ينشد تفاؤلاً
قليلاً يحتفل به :-
... (( وقامت
العناكبُ المنتظرهَ
رقاصةَ الصمتِ بعرسها
الخفى
تدقُّ لا تمل !
ناسجةً أحلامها من
السكون فى الخفاء
تصعد للقمةِ أو تحطُ
حُلماً تنقّا
تشهدها عينى فأشهد
الرعبَ قد إحتفل
أشهد هذا الموت يعرف
الجذّل !
وما بكيتُ بل ضحكت
حينما رأيتُ ضحكة الردِّى ! )) ( 6 )
أننا لا نستطيع أن
نقرأ التجربة الشعرية للمجذوب ثم نعده مجدداً فى القصيدة السودانية ..، تلك مغالاة
لا نحبذها، ولكننا على التأكيد نقول بأنه أحد أهم المطورين لقصيدتنا التقليدية فى
وجهتها الحديثة،ذلك هو أسهام المجذوب الكبير وريادته،وتطوافه محلقاً حول ذرى وآفاق
الحداثة، التى كان يتمنى لو عاشها، في الحياة والشعر معاً !
هــوامش :
(1)أحسان عباس –
الشعر السودانى، نظرة تقومية .
مجلة الدراسات
السودانية – إكتوبر 1971م ص ( 20 ) .
(2) من مقدمته
لديوانه " نار المجاذيب " .
مطبعة التمدن 1968م .
الخرطوم .
(3)عبد الوهادى
الصديق – أصول الشعر السودانى – دار جامعة الخرطوم للنشر – الطبعة الثانية 1989م –
ص ( 149) .
(4) أنظر عبدالهادى
الصديق – أصول الشعر السودانى – ص ( 150 ) .
(5) من قصيدته "
الخروج " – ديوان : " البشارة، القربان، الخروج " دار جامعة
الخرطوم للنشر ط أ / 1976م – ص ( 35).
(6)القربان – ديوان
" البشارة، القربان، الخروج " – ص ( 25 ) .
محجوب كبلو: دأبهم
طحنُ الطَّحين ومضغُ الماء
إلامَ نظلُّ في
أبديةٍ من الاستعادات؟ ويصير السؤال مُمِضَّاً وبأعلى درجات المرارة إذا كان
ارتداديَّاً ومصوَّباً باحكامٍ نحو الذات، أو ما نظنُّ أنه الذات. ذلك أن
الاستعادة ليست بهذه الفداحة لو أتت من المركز الاحتضاري الأبدي، فتلك خصيصته
الأساسية وآليته العتيدة، ولا يتنفَّسُ خارجها. ولا يضارع هذه الآلية المتعددة
القياسات من يوميةٍ إلى حوليةٍ ومختلف درجات المعادن اليوبيليَّة، سوى ملاط المناهج
المدرسية اللازب، والحجريّ تماماً، في تثبيت دوران الأرض.
بهذا الثقل أستروحُ
هواء هذه الاستعادة للشاعر محمد المهدي المجذوب، وأربأُ بالقائمين عليها، في هذه
المساحة بالذات، من منطلق حبيهم، أن يلفهم دوران هذه الآلية الماضوية، والتي حتماً
ستصبغُ عطائهم المتميز، إذا لم ينسلوا ثيابهم _بل أعضائهم_ عنها، ويدلفوا من باب
التهدين الواسع. والهدنةُ بلا شكّ هزيمةٌ للجديد.
وأكادُ ألمح خلال هذا
الفعل المحدود، بوادر ذلك النزوع الارتكاسي _لا قدَّر الله_ المتمثل في ضرورة
البحث عن أبٍ. الأب هو، بكل تأكيدٍ، الخطوة الأولى نحو الماضي. إن مثل هذا البحث
يَنتُجُ عنه أبٌ زائف دائماً.
إن الموقف الأخلاقيّ
لرواد الجديد، وطلائعه في صراعه مع القديم، هو الخصومةُ بكل أدواتها، وإعلانِ حربٍ
مباركة ومقدَّسة وضروريَّة تجاهه، والنأي عن أي إغراءٍ بالمهادنة، مهما كان جلاء
هذا القديم؛ فتلك المهادنةُ مهمةُ آخرين، دأبهم طحنُ الطَّحين ومضغ الماء _
(ياللحمق!). إن هذه الأبوُّات وهميِّة، ترقى إلى مقولات النقاء العرقيّ وسخفه.
ثم نأتي إلى المجذوب؛
هذا الشاعر الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس، منذ أوانٍ بعيدٍ، ليس سوى شاعرٍ طريفٍ
من طبقةِ الشعراء الطريفين؛ أمثال عبد الله الطيب وخليل عجب الدور وعبد الرحمن علي
طه وأضرابهم شعراء الكتيبة، وإن كان على القمةِ منهم. والشاعر الطريف ذلك الذي
يُحيلُ الحياة إلى نَظم:
(الله الله على
الكِسْرة
بيضاءَ تهيجُ لها
الحضرة).
ولم يخرج إلا قريباً
من هذا الإطار. ليس هو الشاعر الباحث عن المجاز، الذي يُهرْمِن الموجودات. ص
عبد الله الزين:
فلنقل جِدَّةٌ والله عجيبة
كسْر المجذوب للتقليد
أيّاً كان – منذ الإجتماعي لغاية الإبداعي لا يعوزه التبيين، إذ أنه أي المجذوب قد
أعلنه بياناً، بالمعني الإشهاري الجهير:
ليتني في الجنوب ولي
ربابٌ تميل به خطايا وتستقيم
وفي حقويَّ من خرزٍ
حزامٌ وفي صدغَيَّ من ودعٍ نظيم
وأجترع المريسة في
الحواني ثم أهذر لا أُلام ولا ألوم
وأُصرع في الطريق وفي
عيوني ضباب السُّكْر والطرب الغشيم
طليق لا تقيدني قريشٌ
بأنساب الكرام ولا تميم
اسم القصيدة نفسه
(انطلاق)، والاسم في سمته الفصيح هذا، يفي الغرض ويزيد، لكنك إن نظرت إلى أطيافه
في لغتنا المحكية، فهو (الانطلاقَة) العديلة ديك، وَرَدَتْ هذه القصيدة في ديوانه
الأول، فلنستمع إذا إلى المجذوب وهو يقول: (ديواني اسمه (خرائب الليل)، أميل إلى
تغيير الاسم إلى (نار المجاذيب) وهي نار القرآن، نار ثقافة، وعلى ضوئها رأيت
العالم، وفي الديوان شعرٌ مكشوفٌ سأنشره وليخلعني المشايخ في الدامر، يا حليلك)
هذا اقتطاعٌ مخلٌّ استللته هنا من رسالةٍ أرسلها الشاعر إلى صديقه علي أبوسن،
المقيم في لندن حينها، في يوم 28/7/1966م من الخرطوم، ونشرها الأخير في كتابه
(المجذوب والذكريات) الجزء الأول ص 168، واقتطاع آخر _خشية التطويل_ ليس أقل
إخلالاً (زارني المشايخ من الدامر، على وجوههم نور، مال قلبي إليهم، أحضرت لهم
العشاء، ثم أويت إلى حجرتي ساهماً، أسمعهم الفينة بعد الفينة يسبِّحون، امتلأت
عينايَ بالدموع، ليس دموع توبةٍ أو ندم، إنما هي دموع ذكرى، لصباي الغابر، لقد
غسلت لهم أيديهم قبل الطعام وبعده، وهم يدعون لي بالدعاء الصالح، أثَّر فيَّ، أن
تمنياتهم لن تنفعني لأني أردتُ أن أكون. الخرطوم 11/11/1966 م) وهي رسالة إلى
(عَلِيّ) أيضاً.
لكن لماذا طازجٌ هو
المجذوب وحداثيّ؟!.
بهمَّةٍ أقولُ: لأنه
شاعر، وأنه كلما شاعرٍ لا بدَّ طازجٌ وحديثٌ منذ هوميروس، وليس نهايةً بآخر شاعرٍ
يسود الآن روحَه شعراً؛ فالمجذوب طازجٌ في رائجِ شعرهِ وغميسهِ، سيرة، المولد
..إلخ، وفي ديوانه (تلك الأشياء) ص 154 قصيدة اسمها (أرق) في 30/11/1943م:
الطلحُ ينفحُ غيمه
متعلقاً يهوي بِكَشْفٍ عن قباب العاجِ
في معصميكِ أساورٌ
بسَّامةٌ وقلائدٌ في خلوةٍ مِغْنَاجِ
تُذكِّر بأجواء قصيد:
(غمائم الطلح) في ديوان نار المجاذيب، والتي كلها وصفٌ طازجٌ لـ(مُتَدَخِّنَة)،
فطزاجة الوصف هي ديدنٌ عند المجذوب، أنظره في (شحاذ في الخرطوم) _ديوانه الصادر في
العام 1984م عن دار الثقافة للنشر والإعلان_ نقرأ:
(..وينشطُ بالنداءِ
تارةً متلفتاً: كأنما يبصره أتوه بالغداء، حُلْمٌ يَنْسَلُّ في نهارهِ الكفيف،
دجاجٌ محمَّرٌ، ما هذه الأشياءُ الْمُتَحَرِّشَةُ الصارخةُ الرائحة، وَجَدتُ ريقي
كما الصَّحَن، الكَتْلَة؟!).
ومجلة الآداب جامعة
الخرطوم نشرت للمجذوب قصائد، أشارت إلى أنها تُنْشَر لأول مرة، هي قصائد إنحلَّت
من القافية، شعرٌ حرٌّ أو قصائد التفعيلة، وكان ذلك في خمسينيات القرن الماضي،
أذكر وصفه الحريف لموظَّفٍ طَاوٍ جريدته، كما لم ينس (حُقَّتَهُ الظَّريفَة).
والمحيِّر في المجذوب ليس طزاجته النوعية، بل غزارة إنتاجه، وهو غير المتفرغ للفن
كما يعبِّر هو في رسالته للشاعرة الإنجليزية روزماري _ هي رسائل باللغة
الإنجليزية، تعدُّ من النثر الرفيع (أؤكد لكِ أنه لاتوجد علاقة، إطلاقاً، بين
الأرقام والفن، والأمر الغامض هو كوني محاسباً). أول نوفمبر 1966 م الخرطوم –
المجذوب والذكريات ص 196. تلك طزاجةٌ وحداثةٌ، فلنقل جِدَّةٌ والله عجيبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=====
مَنْ يَلْحَمُ أَبْعَادِي
محمد المهدي المجذوب (1919م ـ 1984م)
مختارات من إعداد: محمد الصادق الحاج
شذرات من كتاب (القَسْوَةُ في الحَلِيب، 1968م ـ 1969م):
*
(قنبلةٌ حبيبتي أحْمِلُها بلا حذر. انفَجِرِي إذا اشتهيتِ في خَرَابِيَ
القديم).
*
(يَلِدُ النسيانُ طفلاً ضاحكَ العيون).
*
(وشَعْرَةُ السراطِ هل تُرَى وحَولَها أصابعُ النارِ وفرحةُ الجحيم؟).
*
(ما كنتُ أبداً، لكنَّنِي بِمِيتَتِي أكُون).
*
(وليسَ شيءٌ باطلاً؛ فكلُّ يأسٍ وَطَرٌ جديد. الموتُ وَطَرٌ جديد).
*
(مَعِي يَدِي يابسةٌ في جانِبِي تبحثُ عن يدٍ في كأسِيَ المظلِمَةِ
القرار).
*
(هل عرفَتْ أحلامَها سيدةُ الأبد؟).
*
(وضاقتِ الذرَّةُ بالكتمان).
*
(إرادتي فوقَ إرادةِ الرياحِ والمطر. أكادُ أنتحر).
*
(القطرَةُ من ظَهْرِي قمرٌ يتولَّد في بستان).
*
(معلَّبات!، تُقَشِّرُ الفستانَ، تُشْعِلُ الوردةَ في الحليب).
*
(بِعْتُ حبيبتِي لأنَّني.. لأنَّها لأنَّني).
*
(أمِنْتُ حينما انْتَفَتْ ضرورتي. يا لهفةَ الحياةِ، دمعتي أطفأها
اتِّقادُها).
*
(أرنو بعينَيَّ إلى لَذَاذَةِ الإنسانِ في العدم. أنَا الصَّنَم. ورحلتي
باقيةٌ، وعجزيَ البقيَّة).
*
(الضوءُ والظلُّ تلاشَيَا في ذاتيَ الكافرةِ العليَّة).
*
(ما في الإمكانِ أمان).
*
(تكوينُ الليلِ، صَوْنٌ وبَهَاءٌ لا يُحْسِنُهُ سِحْرُ الضوءِ الماهر).
*
(ماذا في الأكمامِ إذا ما هَاجَ الصبحُ وشَاع؟. هل فيها عذراء؟).
*
(يَتَغَيَّرُ ما يُمْلِيهِ الضَّوْء).
*
(أتَفَرَّسُ في وجهي، يتغيَّر بَعْدَ الزمنِ الواحدِ، في الكاساتِ، إلى
أزمان).
*
(الصمتُ كهفٌ طَارَ من أعماقِنا ودار).
*
(منذا يُصَادِمُ الوُجُودَ مِنْ جُنُودِهِ العَدَم).
*
(أَحْرَاشُنَا تنمو على اتِّفَاق).
*
(ثأريَ قادمٌ فانتظروا قيامتي تَمْحُوكمُ من الوجود).
*
(صديقيَ المجدورُ في صباهُ أفقٌ حُطَامُهُ صفَاء. محبسه نافذةٌ مفتوحةٌ على
رَحِم. الموتُ أمُّه من رَحِمِه؛ لا تعرف الأرضَ ولا السماء).
*
(يصرخُ وَحْدَهُ في غابةِ المساء).
*
(أخافُ من عواقبِ الرَّغْبَةِ والعِبَادَة. أخافُ أن تقتلَنِي الوِلادَة).
*
(وحَبَسَتْ طَائِرَ شعْرِها وحَبَسَتْ، في ليلتي، عاصفةَ السَّرِير).
*
(وَجْهُكِ في عواصفِ الرغبةِ أَوْجُهٌ ناظرةٌ بلا عيون).
*
(الصُّبْحُ في يَدِي برقيَّةٌ مكرورةٌ العبارة. والضحكُ الجامدُ أسنانٌ على
إطار).
*
(وحَسْبِي حُطَامُ اللَّبَن).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البَحْر *
محمد المهدي المجذوب
صيَّادٌ شَيْخ
يتوثَّبُ مَدَّ الموجةِ فوقَ الرَّملِ إليهِ يدورُ عليهِ ويَلْحَسُ
راحَتَهُ
وينامُ على قَدَمَيْهِ
كلبٌ شبعانٌ شاكِر.
***
البحرُ غضونٌ ملءَ جبينِكَ يا صيَّاد
تتعثَّرُ فيها الذكرى، ماضيك يعودُ إليكَ مع الصَّدَفِ المكنون..
أطيافُ جَمَالٍ تُوْلَدُ في الظلماء تُرَجِّع صَفْوَ اللؤلؤِ من ينبوعِ
اللَّبَنِ الأوَّل
يا صيَّادُ سألتُكَ عن مَاضِي النَّاسِي كيفَ يعود
أدُمُوعُ السَّلْوَةِ في أغوارِ النَّفْسِ تُصَاد؟
يا صيادْ
تَسَأَلُنِي عن صُرَّةِ أصدافي
لا تسخَرْ منِّي أو منها فيها سُهْدُ جُفُون
أطلالٌ يبكي فيها الشَّيْبُ ويَهْذِي الغَيْب.
***
الكلبُ النَّائمُ يُصْغِي والأسماكُ تَحُومُ وتُصْغِي
وتصيح شباكٌ: يا صيَّاد!
وتشابكَتِ الأبعادُ على بَرْقٍ سَكَّابٍ يَعْوِي ملءَ شِبَاكِ الصَّيْد
الشَّيْخُ أسيرٌ آسِر
الشَّيْخُ يَشُدُّ سواعدَهُ يَطَّايَرُ فيها البَحْر
كلبٌ جوعانٌ كَشَّرَ في الآفاقِ وعادَ ولَمْ تَعُدِ الآفاقُ بِوَجْهِ
حبيبِي
مَنْ يَلْحَمُ أَبْعَادِي.
***
البَرْدُ يَهُزُّ اللَّيل
الكلبُ النَّائمُ قَاسَمَهُ الصَّيَّادُ حنانَ الدِّفْءِ الزَّائر
يَتَلَفَّتُ وَمْضُ النَّارِ يُصَرِّحُ عن أشياءٍ
ويُسَمِّيها يَصَّفَّحُ وَجْهِي ماجَتْ فيه غُصُونُ خُوَاء
شِبَاكٌ تحلمُ بالأعماقِ المجهولة
يا صيَّاد!
هَذَا البَحْرُ صَدِيقُكَ
سَائِلْ قُمْقُمَهُ الوَهَّابَ عن الأحباب
أو كُلْ من زاديَ هذا الخبزَ الغَادِر
نَنْسَى الماضي نَنْسَى الحاضر.
الشَّيْخُ ينام
الكلبُ ينامُ على قَدَمَيه.
وجَلَسْتُ هناك على صخرة
وَحْدي يتجمَّعُ ظِلِّي تحتي يَحْبِسُنِي، أخشاهُ يَزُولُ ويتركني عندَ
المجهول
النَّارُ الواحدةُ القُصْوَى تجتازُ إلَيَّ اللَّيلَ تَزُورُ عيوني تنظرُ
في أعماقي
أوتارٌ ضائعةُ الألحانِ بلا إصْغَاء
وتَعُودُ النَّارُ إلى الآفاقِ مع الإخفاقِ ولَسْتُ أعود
وبَكَيْتُ ولَمْ أَعْبُرْ ظِلِّي وفؤادي
نَجْمٌ في قاعِ الرُّوحِ يَتُوقُ إلى نَجْمٍ راحل
مَنْ يَلْحَمُ أَبْعَادِي
الطَّيْرُ تَلاشَى في الآفاقِ وذاكَ الدَّمْعُ طَوَاهُ وِسَادِي
وفَقَدْتُ حبيبِي
وذَكَرْتُ صِبَاي.
***
النَّارُ تَلَفَّتُ تَلْتَمِسُ الأشياءَ تُسَمِّيها وتَغِيبُ فتنحسرُ
الأسماء
وفَقَدْتُ حبيبِي
ونظرتُ إلى الصيَّاد يغيبُ، يَرَانِي ثمَّ يغيب.
***
النَّارُ تَلَفَّتُ تَلْتَمِسُ الأشياءَ فَتَزْجُرُها الظلماءْ
وعُيُونُ حبيبِي
غاباتُ ظُنُون
هل يُسْفِرُ نجمٌ يعرفُ أينَ أكون؟.
***
وصراعُ البَحْرِ هناكَ مع الآفاقِ تَهَوَّرَ تحتَ جِدَار..
يِبْنِيهِ عَمَى الإبصار
وفؤادي والأسرار
وأنا المشتاق
البحرُ هنالكَ يمسكُهُ الصيَّادُ من الآفاقِ ولَمْ تَعُدِ الآفاقُ بِوَجْهِ
حبيبِي.
***
النَّارُ تَلَفَّتُ تُفْصِحُ عن أشياءٍ ـ وتُسَمِّيها
ما فيها عَنْقَاءٌ تَبْعَثُنِي
وجبينِي ماجَتْ فيه غُضُون
شِبَاكٌ تحلم بالأعماقِ المجهولةِ يا صيَّاد.
***
الكَلْبُ على قَدَمَيْهِِ ينام
ويَلُمُّ الضَّوْءَ بوجهي
وأمِيلُ على الصيَّاد: هَاتِ الشَّبَكة.
ويقولُ، ويَطْرُدُ عن عينيهِ حديثَ النَّار:
هَذا بَحْرٌ آخر.
***
الكلبُ ينامُ على قَدَمَيْه
البحرُ سَجَا ينسى في نومِكَ يا صيَّاد
وتغوصُ مع الأدْهَارِ وتُمْسِكُ في أعماقِكَ أنفاسَ التيَّار
هل باحَ بهِ الصَّدَفُ المكنون؟
وأنا المُشْتَاقُ فؤادي سِرٌّ آخَر
***
ظِلِّي بَحْرٌ مقتول
يَمْتَدُّ وَرَائِي يُطْفِئُ تلكَ النَّار.
28/6/1968م
* من كتاب (القسوة في الحليب)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجتزآت من مقدمتي المجذوب لـ(نار
المجاذيب) و(الشَّرَافة والهجرة)
(...وكنت
أصنعُ هذا الشعر على أحوالٍ مختلفات، ولقد عَلِمْتُ بعد الممارسة والتجربة أن
الشعر أصعب الفنون، وتؤهلني طاقتي إلى بلوغ غايتي فيه. وقد آذاني الشعر؛ فقد رسخ
هنا في أذهان الناس أن الشاعر من كوكب آخر، وهو لا يأكل الطعام ولا يسعى في الأسواق.
وأذكر؛ أول التحاقي بالوظيفة، أن رئيسي في الديوان ـ مصريّ ـ رآني اختلس النظر إلى
ديوان العقاد كنت خبأته في أحد أدراجي، وأصْلَحَ الرجل الطيب شاربه الملكي، وابتدأ
بوظيفته؛ رئاسة المكتب، ونظر وعبس وبسر وقال في إشفاق واستخفاف: (يا ابني الشعر ما
يسقيش ميه)، وأعترف هنا أنني لم أنتفع بنصيحته قط، وما انتهت نفسي عن غيرها وليس
لها سابق. وتذكرت نصيحة الرجل الطيب، وقد حسبني مداحاً، وقد فطن إلى ضعف الشاعر في
هذا الزمان، والحقيقة الناس ينظرون إلى عمل الإنسان؛ هل هو مدير، هل هو. ولقد كان
الشاعر في السودان مذبوحاً...).
***
(...
كان لوحي المرهف من خشب العُشَر الخفيف، حفظته وعرضته على شيخي ذات صباح ثم ذهبت فمحوته وطليته بجيرة بيضاء لبنية صافية، وجف كأنه ورقة صقيله. وضعت اللوح مبتهجاً بين يدي شيخ الفقراء. كان طالب القرآن، كلما أتم حفظ جزء من الكتاب المبين، شرَّف شيخُ الفقراء لوحَه، تحيةً للطالب على حفظه وتبريكاً وجائزةً معنوية ذات قدر وأثر في أولئك الملأ الطيبين، يتقربون فيها إلى الله سبحانه بالكرامة. والشرافة والتشريف كانت بشارةً وفألاً حسناً وشارةً على استقامة الطالب والتزامه.
الشيخ الصالح يجلس مطمئناً على فروته، يمسك اللوح وفي يده قلم من القصب أجاد بَرْيَه، ويرسم، بيد طيعة ثابتة، خطوطاً بالعَمَار الأسود الناعم على حواشي اللوح طولاً وعرضاً حتى يستقيم من كل الخطوط إطار مشدود، ثم يرسم إطاراً داخلياً، ويقسم المساحة بين الإطارين إلى مربعات متساويات، ويصل زوايا المربعات بخطوط متقاطعات فتصير مثلثات، ثم يرسم قبةً هَرِيمَةً أو مدوَّرة فوق سقف الإطار الأعلى، ويضع فيها دوائر أو مربعات، يملأ الشيخ العابد الفنان هذه المثلثات نسقاً متتالياً بالألوان من الأخضر اليانع، والأحمر الصارخ، والأصفر الفاقع يسر الناظرين. والألوان يعين بعضها بعضاً على الانسجام والإشراق. ويحيط هذا الإطار الشفاف المزخرف برقعة بيضاء في اللوح نقية كالمرآة، يخط الشيخ فيها بالثُّلُث آياتٍ محكمات، وخَطُّ الشيخِ ثلثاً ونسخاً واضحٌ جميلٌ كثير البركة، والخط لا يخل بوزن الإطار، وحركات الشكل وهذه النمنمة لها إيقاع بهي في بياض اللوح، وبهذا التشكيل تكتمل الشرافة.
و يجيء العيد. فيعلق الشيخ ألواح تلاميذه جميعاً على جدران الخلوة القرآنية الظليلة، فإذا نظرتَ فأنت لا ترى الجدران والألواح، وإنما ترى المصابيح الملونات الموقدات معلقات في ظل مديد.
كان لذلك المعرض الموسيقي الملون أثر في نفسي لا يزول، كان فرحي المتأمل وشغفي العذري بالحياة النقية الخيرة والألوان والأضواء الموحيات، وكان الشيخ يجود عمله ويتقنه، وكان يعرف أثر عمله الطيب في نفس تلاميذه، كان صبوراً شكوراً، يخرج فيزرع مع تلاميذه إذا فاض النيل أو شرب الوادي...).
***
(... وخرجت مع
الحيران الى الفزعة لنحتطب، وهي نار توقد من الحطب، وفي قبضتي الصغيرة فَرَّار
وماء من بحر النيل في زجاجة خضراء. وتغوص أقدامنا في كثبان الرمال وتتعلق عيوننا
بزرقة النيل وبالدوم والنخيل، ونريح طفولتنا في السدر الظليل ونعود إلى النار
بالعشر والسلم، ونوقد النار مغرب كل أربعاء كرامة، وتطعمنا الأربعاء كرامة من
بليلة اللوبيا المبارك وعيش الريف الحلال، ولا زال كل يوم أربعاء كرامة في الدامر،
وأحياناً هنالك من يتبرع بعَتُود أو عَمْبَلُوق، يتم تقطيعه مع عيش الريف ويأتي
الحيران ويقسمون هذه الكرامة بينهم، وفي الليل الساكن الهامس بالنجوم وهي البيئة
التي خلقت هذا الشعر، هي الفزعة والخلوة والحطب والنيل ومن ليل الدامر الساكن
الهامس بالنجوم...).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجتزءات من حوار عبد
الرحيم أبو ذكرى والمجذوب (أغسطس 1976م):
*
(لست صوفياً، إلا إذا كان تعلُّقِي بالأشياء واستغراقي فيها، حتى أنسى نفسي
أحياناً؛ تصوفاً).
*
(نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت
من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة
تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ
امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري
سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي
ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس
الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا
فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة
للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً
وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من
الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكان
هجاءً في أحد الناس، فذكر المعلم غاضباً أن "الشعر موهبة، والموهبة أمانة
وليست أهواءً لا تنفع، والشعر خلاصة الحكمة، وخيرُهُ أشْرَفُه؛ ما كان في الشمائل
النبوية، وشرطه السهولة، ونقاء الحروف، وخفته على اللسان والسمع، والصدق الدالّ
على الحب، والتغني به مع الجماعة"، فهالني هذا كله وخامرني في تقديس الشعر).
*
(ولكن الشيخ الذي فيَّ ذهب معي إلى المدرسة. (...)، ولم أدرِ أين أضع نفسي
من هذا كله، واستمر شيخي الداخليُّ في تعليمه لي. واستمرَّ التلميذ الجديد فيَّ مع
المدرسة).
*
(لا يستطيع شاعر، في تقديري، أن يرفض شيئاً؛ فالشاعر جهاز يجمع ويرتِّب
بلاوعي، ويختزن كل شيء من مشاهداته لحركة الناس والأعمال الفنية غير الشعر، وقد
تَعْلُقُ بنفسه الأشياء العادية، ثم تتحرك هذه الموهبة؛ أو هذا العقل الخفي، إلى
تشكيل شيء نستطيع تأمله وقد نتذكر فيه شيئاً يعود بطريقة غريبة. وأحسب أن الذين
طلبوا الكيمياء كانوا شعراء ضلوا الطريق. أما الذي يرفض بوعي كامل فهذا نَظْمٌ لا
يعرف علاقة الكلمات، قصائدهُ كالقمصان البلدية، فقماشه وخيوطه من اللغةِ الموفورة،
ولا يجدُ فِكاكاً من حركةِ يديه، هذا لم يخلعُ أستاراً ليستقبل الريح والمطر
والصواعق والسكوت والفرح. إن الذي يرفض لا يعرف الموت والميلاد. أغلب الذين يرفضون
هم من أهل النصوص والحفظ والخوف أيضاً؛ فهم لا يستطيعون مفارقة ما ألِفُوا. ومن
حسن حظي أنني لا أحفظ، ولذلك فأنا حرّ؛ أي أنني لا أتقيَّد، ولا أعرف بالضبط من
أين جائتني القدرةُ على التفلُّت من الكُتُب، أم هو ضعف الذاكرة، إنني أقرأ الكتب
فعلاً قراءةً خاصَّة، مؤثِّرة، ثمَّ أنساها من غير أن أتعمَّد هذا النسيان، أم
مَردُّ هذا إني أنتقل من حالةٍ إلى حالة؛ فالكتب والمَشاهد معابر).
*
(أنا في حريتي هذه مقيَّدٌ بشيءٍ أُعبِّرُ عنه بلغته، ثم أتخطَّاه، وليس لي
في ذلك اختيار (...) كلُّ همي أن أجد ما أعبِّر لأشعر بوجودي).
*
(وهي ليست في الواقع رفضاً، إنما هي شيءٌ آخر، جديد؛ إنسانٌ جديد).
*
(إن الصراع بين قوى النفس المختلفة، وما يعقبه من إرهاقٍ للروح والجسد؛
يُمْلِي الشعر. والشَّاعر في زعمي يعيشُ مع البراكين والعواصف، كما يعيش مع السكون
والإصغاء لصوتِ نفسه وهذه الأشياء. ولا أحسبك ينطلي عليك ما ترى من وداعةٍ على
وجوه شعرائنا المبدعين؛ فهم وحشيُّون، وفي هذا جمالٌ طليق، وقد يخاصم الشاعر نفسه،
ويهاجر منها إلى نفوس الآخرين لعله يجد نفسه، وقد يعود بالإرهاق المفحم أو البوح
الغريب، وقد يمرض إذا لم يجد المشاركةَ وينهدم داخله.
*
(ليس هناك إنسان أفضل من إنسان، إلا بمقدار ما يعطي مِنْ صِدْقِ نفسِهِ
للآخرين).
*
(إنني أحلم بجيل يجعل الكتابةَ جزءاً من العيش؛ كشُرْبِ الماء).
*
(الشعر ليس بهرجاً، وإنما هو مفتاح لكثير من الحقائق الإنسانية، وقد يجد
أصحاب هذه التصنيفات في الشعر ما لم يخطر في ذهن الشاعر الذي كتبه، ومن حق النقاد
وأصحاب اللغة أن يقولوا ما يرون، وأجسب أنني كنت أفتش لنفسي عن مخرج في الشعر، فما
كنت واقفاً في نقطة واحدة، وقد أطرق الأبواب فلا تستجيب، وقد أتحيَّر طويلاً ثم
أتحرَّك. كنت أحاول أن أتجاوز حتى نفسي. لقد طال توقفي أخيراً، كأنني أبحث عن شيء؛
كأنني ما عرفت نفسي قَطّ).
*
(إنني أُحِبُّ مَن يتعاطون الآداب والفنون؛ فهم قبيلتي).
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من داخل منزل المجذوب
عوض الكريم: تجاهُل
المجذوب من قبل "الخرطوم عــاصمـــة للثقــــــافة"
(في هذا الصالون كان جثمانه ممدداً وتم غسله
فيه، كنا وقتها أطفالاً نحاول التسلل إلى هذا المشهد المهيب، لمحَتْنا أمه الحاجة
القوية آمنة التي أشرفت على غسل ابنها بلا جزع، فانتهرتنا)؛ هكذا تحدث ابن المجذوب
الصحفي والباحث المختص في تراثه الشعري عوض الكريم محمد المهدي المجذوب، وهو يصف
المكان الذي كنا جالسين فيه بين كتب المجذوب وحياته ومشهد موته وأبنائه وأحفاده.
استنطقنا ذاكرة الباحث فيه، والابن، عن المجذوب.
حوار: النشادر/التلب/
صلاح عبد الحفيظ
منزل المجذوب
لم ينظر أي منا إلى
السماء، لم يتبق لنا من النظر إلا الكثافة التي تشكل ترقبنا لما يمكن أن تكون عليه
زياراتنا لمنزل المجذوب، بتلك النبرة الضيقة التي تشرق فيها الأسماء الصماء، نبرة
النهار، طرقنا الباب إستقبلنا رجل بنظارات وإبتسامة وشبه أكد لي (أن هذا هو
المنزل) قبل أن نفتعل نبرة تشكك (هل هذا منزل المجذوب؟) السؤال الذي بدأنا به
حوارنا مع هذا المنزل بالحديث والنظرات وإستنطاق الصور والحوائط والكتب وأهل
المجذوب، كان هذا عاصم إبنه الكبير الذي إقتادنا إلى الداخل وسط تطلع صاخب لأحفاد
المجذوب الصغار زينب ومحمد، أدخلنا إلى الصالون لتواجهنا صورة المجذوب الشهيرة
الجانبية حيث يوجه بصره حسب وضع الصورة بإتجاه مكتبته التي تكدست فيها فيها الكتب
إلتقطنا بعض العناوين (أحمد محمد صالح، أبو نواس،الحطيئة، جرير، مقدمة إبن خلدون،
تاريخ الرواية الحديثة، شرح إبن عقيل، أيام في الإتحاد السوفيتي، في ظلال القرآن،
سيرة إبن هشام، الأذكار، مهرجان المدرسة القديمة، أعداد من مجلة شعر، نهر الرماد
وبيادر الجوع لخليل حاوي، تهافت الفلاسفة، الفرح ليس مهنتي لمحمد الماغوط، فرجيل،
محاكمة في نيسابور للبياتي، رسالة الغفران). المكتبة التي تمثل الجزء الأقل من
مكتبته، هذا هو المكان الذي عاش فيه ومات فيه وغسل فيه جثمانه. لنتفاجأ عند لقاءنا
بإبنه الذي يعد رسالة الماجستيرعن حياته وسيرته وأعماله الأستاذ عوض الكريم ،
بأننا أول صحيفة تزور منزله منذ وفاته.
الرجل الذي إستقبلنا
مندهشاً وأستقبلنا ما قاله مندهشين، أسعفنا ترحيبه وترحيب زوجته الصحفية سوزان
شلبي عبد الرحمن.
كان فضولنا إصغاءاً
متفحصاً، ونحن نقلب كل شئ بنظراتنا وأسماعنا وأسئلتنا وكاميرتنا.
حكايات من حياة
المجذوب
في البداية حدثنا عوض
الكريم عن دراسته التي قال إنها جزئين جزء يبحث في حياته وجزء يبحث في أعماله
وتصفح معنا فصول دراسته وكيف جمعها من معاصريه منذ الخلوة مروراً بكلية غردون
مروراً بتنقلاته العديدة وصداقاته الأدبية. خلال هذا الإستعراض المنظم من عوض
الكريم كان فضولنا يتحرك تجاه معرفة تفاصيل عن علاقة المجذوب بالحياة كيف كان
يتحرك كبشر في الشارع والمجتمع علاقته بالقراءة وعلاقته بالموسيقى والفن عموماً،
من خلال ماجمَّعه من حكايات وماعايشه منها. يقول عوض الكريم (كان قارئاً نهماً،
ويميل إلى قراءة الأدب الإنجليزي، ومكتبته الإنجيزية مهولة تبدو أمامها المكتبة
التي ترونها قليلة ، ولم تكن قرائته مجرد قراءة، بل كانت قراءة وتعليق وحواشي
كثيرة يضيفها) وعندما سألنا عن ما كانت تحتويه هذه الحواشي قال (أغلبها تصويبات،
وبعضها إستحسانات، وفي بعض الأحيان لن تجد فراغاً في الصفحة من إزدحام حواشيه). ثم
أضاف (عبد الله الطيب نفسه إعترف بمقدرة التصويب هذه للمجذوب فأوكل له تصحيح ديوان،
ونجد ذلك مدرجاً في مقدمة الكتاب). ثم أنتقل إلى حكايات حول طبع المجذوب حيث كان
سمته التي أجمع عليها أغلب معاصريه هي البساطة وحكى لنا قائلاً( قد يقضي المجذوب
وقتاً طويلاً مع بائع اللبن يؤانسه ويسأل عن حاله، ومما يحكيه خالنا البروفسير
أحمد بابكر الطاهر عنه أنه في زوج إبنته الكبرى عام 77م التي تزوجت مبكراً رغم
أفكار المجذوب المُتقدمة يبدو أنه جذب في ذلك بأهله المجاذيب،ذهبوا إلى السوق
ليشتروا بهائم لهذه المناسبة وأبتدأوا مفاصلتهم في الأسعار مع التجار، والمجذوب
رحمة بالرجل وبشقائه على بهائمه، كان يريد أن يعطي الراعي مايريده من سعر، فلم يكن
لديه روح للمفاصلة، أما جماعته فقد حاولوا إبعاده حتى لا يفسد خططهم وسير أمورهم،
وبعد أن إنتهوا من مفاصلتهم وجدوا حوله عدداً كبيراً من الرعاة وأصحاب البهائم
والسماسرة،وهو جالس بينهم في بساطة يضحك. وهنالك حكاية أخرى عنه تبين أنه رجل يحب
الحكاية ويمتلك روحاً طريفة، أنه كان قادماً من الدامر إلى الخرطوم ولم يكن لديه
حجز في القطار فأستأذنوا الناس في القمرة أن يجلسوه بينهم، تأفف الركاب في البداية
من هذه الإضافة مما جعل خالنا يتصل به بعد نهاية الرحلة ليستفسره كيف كانت فقال إن
هؤلاء الناس رحبوا به وأحتفوا به جداً ووسعوا لي فقد ونستهم حتى لم يرد بعضهم أن
تنتهي الرحلة). وتحدث عوض الكريم عن تواضعه وعدم حبه للأضواء والإعلام بواقعة
حكاها له رجل عاصر المجذوب في الجنوب قائلاً (كنت صديقه نقضي أمسياتنا سوياً ولم
أكن أدري شيئاً عن كونه شاعر كبير له مكانته، كما أنه لم يخبرني هذا عن نفسه
أبداً، فحدث أن جئت للخرطوم في إجازة وتركته في الجنوب، فتفاجأت أن الصحف كلها
تتحدث عن هذا الرجل وعن قصائده وعن تزعمه لندوة أدبية فذهلت وبدأت هل هو هو أم أنه
شخص آخر، فأصبحت متشوقاً لإنتهاء اجازتي، وأول ما رجعت سألته: ياود الناس إنت
الزول دا ذاتو؟ فقال : آي بالحيل).
تجاهل
ثم أجتر عوض الكريم
مرارة لا يمكن تفاديها، عن تضييع المبدعين في هذا البلد بمثال حامض يبين فيه تجاهل
إنتاجات ثقافية مهمة كإنتاج المجذوب سارداً واقعتهم مع ديوان (القسوة الحليب) وما
تجلى فيه من إهمال الخرطوم عاصمة ثقافية موضحا (هذه العاصمة الثقافية التي طبعت
كتباً لاقيمة لها وهي دون المجذوب، وهذا إحقاقاً للحق،فقد كان تجاهل العاصمة
الثقافية للمجذوب موجعاً، فقد وصلنا خطاب من الأمانة العامة للخرطوم عاصمة للثقافة
لطباعة أعمال المجذوب، فأعددنا كشفاً بإسم الدواوين وذهبنا،فتجاهلونا بطريقة مؤلمة
ومريرة وبين أمشوا وتعالوا حمنا مسافةً حتى قالوا لنا: خلاص حنطبع ليكم في الربع
الثاني، وبعد تماطل كثير حُلت المشكلة نصفياً وقيل لنا أذهبوا لسكرتيرة مسؤول
أمانة النشر بالخرطوم عاصمة للثقافة عثمان جمال الدين أجتهد الرجل معنا ولكن صدمنا
بتصرفات سكرتيرته معنا، فتخيل ما قالته أنها تريد أن تجعل 9 دواوين للمجذوب في عقد
واحد،ولكننا أصررنا على أن يكون كل ديوان منفصلاً لأن المجذوب علمنا أن لانضيع
حقنا، وفي النهاية قيل لنا أنهم سيتصلون بنا الإتصال الي لم يأت حتى هذه اللحظة،
وطبعنا ديوان القسوة في الحليب بجهد الأسرة الذاتي).
منشور يصيح: الدم،
الدم
حديث عوض الكريم عن
الإهمال الذي عايشه للمجذوب من قبل العاصمة الثقافية كان مقطعا بشفرات مرة جعلت
إنتقالنا إلى سؤال آخر عسيراً لكنناإتبعنا (لذة الفضول) كما يقول المجذوب ودفعنا
عوض الكريم ليحدثناعن حياته الفكرية وعلاقته بالحزب الجمهوري فقال (أما عن فكره
التقدمي، فمحمد المهدي المجذوب من أوائل الذين أسسوا الحزب الجمهوري، وأستمرت
الدعوة إلى حزب جمهوري ينادي بقيام الجمهورية السودانية وقتها،وبعضهم يقول أن
المجذوب كان يكتب خطابات الحزب للأستاذ محمود في ذلك الوقت مع أنني أشك في ذلك
وأنسحب المجذوب عندما بدأت أفكار محمود الجديدة حول الإسلام، لنشؤ تعارضات بين
فكره وفكر محمود محمد طه، هنالك من يقول أن المجذوب شيوعي، وهذه كما يقال حقيقة
أريد بها باطل فهو لم يكن شيوعياً، بل كانت بعض الأفكار التي ينادي بها تتقاطع مع
فكر الشيوعين فحسب على أهل اليسار، وهو لم ينفي ذلك، بحكم تهذيبه، فهو رجل شاعر،
وشاعر مجيد).واثرنا نقطة أخرى عن ما يحكى عن عمق إطلاع المجذوب حيث يرد عنه أنه
أطلع على أعمال معاصره الكاتب الفرنسي المعروف جان جنيه التي كانت لتوها مترجمة
للغة الإنجليزية، وبلا إندهاش يذكر رد قائلاً ( كان المجذوب عميقاً جداً وله ملكة
التنبؤ بأحداث قبل حدوثها بزمن بعيد،لأنه يرى الأشياء حتى أعماقها ويقرأ علاقاتها
وماتترتب عليه من نتائج، فعندما نشرت صحيفة الأمة بعد الإستقلال قصيدته التي يقول
فيها: (منشوراً يصيح: الدم، الدم.)، فكانت أشبه بالتنبؤ بإنقلاب عبود. والذي كان
رافضاً له بصرامة، وقد كتب عن ذلك عدة قصائد لم يفصح عنها إنما رمز لها في قصيدة
العنان بقوله:في حيِّنا حصان منطلق ويعدو بلا عنان).
هذه البلد مُحبِطة:
نقلتنا أجواء الأهمال
إلى خوفنا على ماتبقى من المجذوب مالم ينشر من أعماله ومشروع أعماله الكاملة
فحدثنا عبد الكريم قائلاً (بالنسبة لهذا الأمر نحن نأمل أن نجتهد ولكن هذه البلد
مُحبِطة، لأننا طبعنا كتابين للمجذوب وكنا نتوقع أن يتم توزيعهما بسرعة حتى ننجز
ماتبقَّى من كُتبِه، حتى أننا قمنا بتأسيس شركة صغيرة، أسميناها نار المجاذيب وكنا
نتخيل أنها ستكون نواة لدار نشر تتخصص في أعمال المجذوب، ولكن للأسف لم نوزع ربع
الكمية التي لدينا). بالنسبة للأشعار التي لم تنشر قال( هنالك أشعار كثيرة غير
مضمنة في الدواوين، بعضها نشر في الصحف وبعضها لم ينشر، وبعض شعره أُحرق، أحرقه
والده الشيخ المجذوب الذي إعتبره(قلة أدب)، فهو كان يريد أن يوجه دراسة امجذوب في
إتجاه ديني وكان يريده في مجال القضاء والمحاكم الشرعية وهذا ما جرى مع أعمامي،
إلا أن المجذوب تمرَّد وصار مُحاسباً، حيث قال(تركت القيد عند أبي لغيري وقيَّدني
التجاربُ والهمومُ). وتمرد المجذوب كان في سبيل أن يكون شاعراً كما أحب، فأغضب ذلك
والده وحرق عدداً من أشعاره، حتى أنني وجدت إشارات لذلك في قصيدة الشعر والنار(
أحرقت شعرك قرباناً لآلهةٍ إن القصيدة لاترضى بآلهةٍ وقربان).
المجذوب رساماً
سريّاً:
من النار التي تأكل
الشعر في سؤالنا السابق ذهبنا بعبد الكريم نحو علاقة المجذوب بالرسم وقصته مع كلية
الفنون فحدثنا( المجذوب كان مُحباً للرسم وإذا تأملنا مُقدمة ديوان الشرافة
والهجرة، نجد تفاصيل مُذهلة لعملية الشرافة في اللوح، عندما بحثت هذا الأمر وأتصلت
بمن زاملوه في الخلوة، فقالوا أن المجذوب هو الذي كان يُشرِّف اللوح وليس
الشيخ،وهذا مايجعلني أفهم الدقة المتناهية التي يصف بها تفاصيل عملية الرسم على
اللوح،كما أنه أنضم لجمعية الفنون في كلية غردون ومايقوله المجذوب عن الرسم أن
شخصاً ما كان يرسم الوجوه الحسان بقلم الرصاص أماهو فقد كان يميل إلى رسم البيوت
والكنائس، من زامل المجذوب في الكلية يحكي أنه عندما يكون هنالك نشاط في أو إحتفال
في الكلية فإن الطلبة كانوا يجمعون على ترشيح المجذوب ليرسم خلفية المسرح مع العلم
ان والده كان استاذاً في ذات الكلية، وكان يأتي ويشيد بمن رسم الخلفيات الجميلة
للمسرح واصفاً إياه بالفنان الكبير، ولم يكتشف أمر إبنه إلا في زمن لاحق. كما
ألتحق المجذوب بكلية الفنون وكان يصف نفسه بأنه أسنَّ تلميذ وقد درسته جريزالدا
الطيب، ثم لم يستمر بحكم أنه نقل إلى الجنوب في وظيفته، ففاته أقرانه، أما في شعره
فيظهر تأثره بفلسفة الألوان وبمعرفتها فأشتغل على دلالات الألوان مثلاً في القوقعة
الفارغة(الموج أخضر، الموج أصفر)، فهو يعرف دلالات الألوان ولايضعها عبثاً وليس
بعيداً تأثره بالموناليزا التي يضع قصيدة بإسمها في أول ديوانه رغم وجود قصائد
أقوى منها).
إنتقلنا إلى الدراسات
اتي تناولت شعر المجذوب حيث إستعرضها عوض الكريم وعلَّق على بعضها قائلاً(قمت
بتجميع كل الدراسات حوله ، لنبدأ بدراسة الدكتور عبد الرؤوف الخانجي والتي نال بها
درجة الماجستير تحت إشراف عبد الله الطيب، بعنوان درس وتحليل ديوان نار المجاذيب
ما أعيبه عليه كمعاصر بل إنه راجع بحثه مع المجذوب نفسه أنه لم يهتم بالتوثيق
لحياة المجذوب، حيث أتخذ منحىً علمياً نقدياً أكثر أعزوه لبداية ظهور مثل تلك
الدراسات في ذلك الزمان، وفي كتاب تيارات الشعر العربي أفسح الدكتور محمد مصطفى
هدَّارة باباً للمجذوب وكان منصفاً، هنالك من يجامل المجذوب عن محبة د حسن أبشر
الطيب، وهنالك ددراسة جيدة أنجزها الأستاذ عبد الهادي الصديق وهو واحد من تلاميذ
المجذوب جاءت بعنوان (حداثة الموروث)، ومحمد عبد الحي كتب عنه (بين البراءة
والخطيئة)، وكتب عنه مجذوب عيدروس وعبده بدوي وإحسان عباس وعبد المجيد عابدين،
وكتب لبان حديثين أيضاً مثل كتاب (محمد المهدي المجذوب والصورة الفنية في شعره)
لعثمان كُنَّة وهنالك العديد من الشباب يعدون الآن دراسات كثية حوله، وهذا جيد لأن
المجذوب لم ينل حظه من النقد ولم يكتشف بعد كما يجب).
كنا نتمنى أن ننقل
لكم حذافير الهواء والجدران والصمت والصور لكن كيف وحذافير المرارة تفرض علينا ألسنتنا،
لكننا نأمل أن يستقبل سؤال المجذوب أسئلتنا الصغيرة، (ما أشبهنا بهذه الضفادع التي
تتنادى في ليل مستنقعاتها الفقير، ولا يرى بعضها بعضاً مطوعةً لصراخها العاشق كل
حتمية هذا الكون) كما يقول رينيه شار. نتنادى قائلين: اطبعوا أعماله الكاملة
ياقوم!.
ـــــــــــــ
غاليري الصور:
تعليقات
إرسال تعليق