التخطي إلى المحتوى الرئيسي

في اشتباك الموسيقى مع التحول السياسي - نجلاء عثمان التوم


في اشتباك الموسيقى مع التحول السياسي
نجلاء عثمان التوم



إلى ناجي البدوي
الإشارة هنا للموسيقى في عبورها المحض، الموسيقى المخلصة لمنطقها الفني وليس الموسيقى المستخدمة سياسياً. هذه الموسيقى الغافلة الآبقة المنغمسة في ذاتها هي التي تفعل، وهي وحدها المؤهلة للفعل السياسي وليس أي موسيقى أخرى. الإصغاء لمغامرة الفن، للموهبة وأشواق ما هو غير معين بسياق تاريخي يخلص العمل الموسيقي من لحظته ويحوله إلى مارد فضيلته الأساسية التخريب. تخرب الموسيقى الحقيقية، والتي بمثابة قناص، اللحظة الخربة التي تحتاج وتستجدي التخريب. تغتال الموسيقى الحرة الذوق المستعبد، تعيد النظرة الهاربة إلى جحيمها المتفاقم، تحول الجحيم الشخصي المحتمل إلى جحيم غير شخصي وغير محتمل، وتخرب الأكاذيب التي يتعيش عليها الأمل الرخيص والرضا. ما الذي يحرك الجموع ؟ ليس الجوع  ولا الغبن ولا الأمل، ما يحركها هو الاحراج، ذلك النزف المكتوم الذي لم يعد من الممكن الهرب من التحديق فيه وهذا هو بالضبط ما يخلقه الفن العظيم. يتجاوز المغني لحظته التاريخية، وجمهوره و حنجرته ، وموسيقاه وعازفيه، وفيزياء تتماهى مع وتخدم الخنوع والقانون والعرف، إلى لحظة مصيرية معلقة في فضاء حر لا يقبل  ولا يستجيب إلا لإدماء الحرية. في هذا الفضاء يحمل المغني جثته وجثة جمهوره ويختبر متوحداً فيهم صواعق وأهوال الصدق. غير عابىء بروحه ولا حريص على لقيته. ما أن يتذوق الجمهور تلك التفاحة المحرمة لا يعود قادراً على البقاء في جنة الطاعة، لا يعود الأمل كافياً، ولا السلامة المطلب. لا تعود الصداقة ولا العائلة ملجأ كافياً، ولا الغياب في الجنس، أو الحب أو الأمومة غياباً. يتحول كل جميل ومحبوب وعزيز إلى ململة اشواق تحققه في كماله الأقصى. يستيقظ الممكن والإمكان. يتحول الهمس إلى فراشة تبحث بدأب عن نارها، والحذر إلى شهوة تحتضر. عندما يتوحد الفن، ينفصل وينقطع ويتصل مع تخوم حرائقه خادماً فقط ملذاته وشكوكه في جدارته وصدقيته عندها فقط يكون الفن سياسياً. نحن بحاجة إلى فن عظيم يجعل من الحياة، والتي هي كل ما نملك، لحظة مشكوك فيها، كذبة، جحيم من الاحراج الروحي لا يمكن تفاديه و لا التعاطي معه، هذه اللحظة المنتحرة هي اللحظة الصحيحة والصحية لولادة الغد، عندها فقط يمكن أن يبدأ التفكير، منهكاً وضعيفاً وقوياً مثل جنين، في كيف يستعيد الفرد روحه من الابتذال والوضاعة، أي البداية الحقيقية للتحول السياسي. هذا هو بالضبط ما فعلته اريثا فرانكلين و بيلي هوليداي في امريكا الفصل التعسفي، وهو ما جعل حركة الحقوق المدنية مارد حالم تحركه اصوات المغنيات السود.

تعليقات

  1. نجلاء ..
    فقط ياسلام عليك .. يا سلام

    ردحذف
  2. الكتابة العظيمة تزاحم كتفاً بكتف، الغناء العظيم، وتجعلنا كاتبة مثلك نرى سوءاتنا فنطفق إلى خيباتنا الأزلية علنا نشفى من الإحراج الفخم الذي يعترينا مثل حمى الضنك الروحي التي لا تكاد تفارق أذهاننا التي لا تعرف الإرهاق إذ أنها لم تعد تعمل. الكتابة مثل هذه تماماً، هي ما يقدم لنا بسهولة صاعقة الصدمة التي نحتاج لنفق من صدمة قديمة بعثت بنا دون أجل إلى سبات فكري، وحياة- بالكاد- نعتصرها من أجسادنا المدفونة في التراب..إذ أنها الآن تعمل أكثر من رؤوسنا فلا جدوى من إخفاء الأخيرة لخائف..
    حسناً لك التحيات في غربتك ولك من التمنيات أجملها.
    أميمة

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول مقدّمة طينيّة: سيَّارة الثورة التكنولوجيّة (1) كم من الوقت انتظرت لأكتب عن هذا النص العجيب، والذي لم يُعرَف كاتبه إلى الآن، وربما يتعلَّق الأمر بالظروف والملابسات التي نُشر فيها هذا النص الطريف جداً والتراجيدي بهاويةٍ سوداويَّةٍ مُضحكة. أفهم، كما كتبت كثيراً من قبل، والكثيرون من قبلي، أن اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان اندلع مع ثورة التكنولوجيا. ولكن لننظر إلى الثورة التكنولوجيّة الرابطة لأجزاء العالم بطريقةٍ أخرى، فبينما كان الرابط في الماضي عن طريق الحروب والاستعمار، رست السفن قبلهما، وأطلّ القطار مؤخراً، ثمَّ طارت الطائرة. لننظر لانطلاقة الثورة من بدايات القرن العشرين كـ(غِيْر) السيارة، وهو ما سأصل به لما ميَّز جيل مواليد الثمانينات. على الأقل في السودان. تنطلق السيارة في الغير رقم 4 بلا كابح وبسلاسة لانهائيّة، وهي المرحلة التي دخلت فيها الثورة التكنولوجيّة سوق التنافس الرأسمالي العابر للقارات. ففي العصر الذي يسمع به الناس بالتلفاز ويصلهم بعد مُختَرِعيه بعشرات السنوات، ولفئةٍ محددة جداً من البشر.

Life weapon’s dictatorship - By: Mamoun ElTilib

Life weapon’s dictatorship By: Mamoun ElTilib Translated By: Ibrahim Jaffar Introductions: ( Tayfara was a military slave of the Cavalry Divisions (the Divisions of Knights) which was relegated to the Sheiks-ministers of Hamaj .   He presumably has been enslaved during one of the sieges of Rajab to the Nuba Mountains within the course of his campaign against Kordofan, for he reached the age of reason in the era of Nasser wad Idris .   Imaginatively, we would correlate Tayfara’s memories of childhood with those of Dogalo Doguendan Ari ; a Nuba boy of the next generation who, like Tayfara, has been, as a young boy, enslaved and taken from his native land.   Dogalo , as a young man in his far-off exile, has vividly lived the memory of his homeland that has been sustained within his soul as a minute world of landscapes, distant and diminutive shapes; young kings wearing jewels and straddling horsebacks; steppes of azure color of bubbly plant under the pur