التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مقبرةٌ جَمَاعيَّة: نص جديد - مأمون التلب


مقبرةٌ جَمَاعيَّة
مأمون التلب
أكتوبر 2007- 15 أكتوبر 2017م




(1)
نجري في حَقلِ الأنغام.
تنفجرُ الألحان ونرضى أن نستلمَ حقيبةَ حُزنِكَ بدلاً عنك،
ونجري:
الوردةُ تَرفعُ قَدَمَاً عن أرضٍ قد تطأُ اللّغم،
والنهرُ يراقبُ مُلتذَّاً هذي الحرب.

كيف لحيوانات تُشرقُ بالأحلامِ وتَرشُقُ قلب الأصنام بماءٍ؛
كيف لها أن تَلتذَّ بنَاءٍ عن كلِّ خطاياه،
وتشتدُّ جمالاً بلذائذ لا تُوجدُ إلا بالذاتِ؟،
غنائمَ قلبٍ نامَ وحامت حولَهُ الأنغام بلا تَرَفٍ
وتجمّعت الأنواء بما نابت عنه خطايا جمَّلها الحزنُ الطيِّب؟.

(2)
ها الألحان هي العليا،
والألغام هيَ الدُنيا:
ألغام الحب، ولمِّ الشمل وجمعُ الأهل برئةٍ كسَّرها الخوف ونالت من أنحاءِ جَنَابَتِهَا أرضٌ لم تعرف عن خالقها اسماً.

(3)
بل كانت من ناءَ بصمتِ جلاله،
وفي الأثناء تماثلت الآلاء لهول جماله،
قالت النارُ :
إن كان من صوتٍ يَخرجُ من صَلَفِ اللهبِ ونالَ حلالَه،
فما من بركانٍ نالَ من القدرِ وضوحاً،
بقدرِ جلاءِ رِضائِه.


(4)
ما الجنّة إن لم يكُن ما نعيشه اليوم؟
ما الأغنيةُ إن لم نكن ما قلناه بالأمس، والغدِ، وقبل ثوانٍ؟
ما السلامُ سوى لمسةِ السلام الهائمة في الأهواءِ لأجل ذاتها تُغنّي؟
ما الأحلامُ سوى انغراس أنيابِ الغد المُستَحقِّ في مقبضِ بابِ المُستقبل الواقعي؟.

(5)
بينما يمتطي أحدنا صوتَهُ
تنبتُ الأشجارُ من تَحتِه،
تحمِلُه،
وتُفرِّع جمالَهُ وتمنحه الحب.

هذا الوعد كان صادقاً منذ الأزل،
ورغم عدم تصديق الأغلبيّة له،
لكنّه،
ها هوَ،
يُؤتَى أُكلَه.

(6)
إذاً، تسيرُ مسيرةُ الأشجار ولا حادَّاً لمقاطعتها؛ تنتبه الظلال لقوِّةِ جمال إظلامها، وتستثيرُ الأزهارُ موادّ أخرى في اللغة: تخرج بها، إلى الأبد، من مملكة الخير. يا لِـ شارل بودلير.
جمالٌ جديدٌ نستنشقُ هواءَه الخانق لممالك الماضي، والتصاميم البديعة للأغلال الخارجةِ إلينا من أعين أزهار الخير.
يا ويل من استدلَّ ونام،
مُستغرقاً،
في غِلالِ الغَير.

(7)
نامت ظلالُ النيل عن أحبابها،
وخَبَت تُخبِّؤهم ونالت من رضا أرجائها.

كالَ الكونُ من دُنيا حنَايَاهَا دماً
وسَقى الشفاهَ
دنيا لا تنم،
صالت وجالت في أرجاء آدَمِهِم،
وأخرَجَتِ المَحبَّةُ بعضَها من بعضِهم؛
صنواً لكلِّ ملازمٍ ليلاً طويلاً أجملِ:
أخرجَ آدمَ من جنةٍ
ورمى به في حضن كلّ جهنَّمِ.

(8)
عليك أن تضرب الأرض، أن تستغرق في الضرب وأنت معفَّرٌ بترابٍ أموميٍّ، أن تحرث التراب بأسنانك الأمامية حتى تُدمى لثتك، أن تحتكَّ بظهرك وبطنك وتتقلَّب مثيراً فضول الباطن الشيطاني، أن تتخوزق بالحشائش وتسمع صريرها في الأمعاء واشتباكات خضرتها بألوانك الداكنة بالداخل؛ عليك أن تعترف بكمون حياتك في الاحتكاك والتضرّع والذلّ لأجل قطرةٍ تدلُّ على بابٍ مغلق.

بصفةٍ أخرى ليست بعيدة عن ما سبق، عليك أن تكون عاشقاً، وباذلاً ثيابك للعدم...
أن تحذفَ قَلبَاً من سطرٍ ميتٍ
وتشارك في تنظيف بقاياه مع أخوتك الذاهلين
تقويم خلايا القبر لتسع ابتسامةَ نبضه
وتشويك الشاهدة لتمويه نظرات الحداد.

(9)
كنتُ أقف على رياحٍ، ليست على بالِ قلقٍ، أحرقُ كفَّاً بكفٍّ وأثورُ على ورعِ المنطقة الجَّافة المسماة مقبرة؛ مقبرةٌ جماعية لسربٍ من العشاق الذي نُحتوا، أو غاصت بهم أشواقهم في التراب.
والغربان الصديقة تشيِّدُ شجرةً واحدةً لضيافة الأحلام الهاربة من ليالي معشوقيهم. كان في قائمة المعشوقين: حركة النار المُخَمَّنة، ورتابة الأوساخ في مكانس المساجين وهم ينظِّفون الشوارع صباحاً، تهويمُ القاني من قبلةِ القهوة للشفاه، المكسور من لهجةِ السباق الناخر عظام المدن، الباخع معادن الأسلحة وهي تُصانُ في رحلةِ تطوّراتها الداروينيَّة بيدِ المُلكِ وأشجار العوائل الذابلة؟.

 (10) 
كنتُ أقفُ في رياحٍ
أصبُّ قوالب بركانيةً لأحزان المودِّعين في المقابر،
أصطادها بعد ذهابهم بلصوصيَّةٍ أُحسد عليها
وأهاجم أعينهم مُقتَلِعاً لمعات الدمع الخافتة؛
وأضفُرُها
يراقبني الصقر لوحدهِ؛
أنام عنه وأصحو في جشعي،
ينام عني ويصحو في فَلَكِهِ الساخر؛
كلانا نجمان في فضاءٍ سيِّدٍ،
يخنقه الفراغ.



ــــــــــــــ
بدأت في  2007م، مقاطعها النهائية، واكتملت في 13 أكتوبر 2017م.

اللوحة من أعمال إيقور مايزكيوتش

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول مقدّمة طينيّة: سيَّارة الثورة التكنولوجيّة (1) كم من الوقت انتظرت لأكتب عن هذا النص العجيب، والذي لم يُعرَف كاتبه إلى الآن، وربما يتعلَّق الأمر بالظروف والملابسات التي نُشر فيها هذا النص الطريف جداً والتراجيدي بهاويةٍ سوداويَّةٍ مُضحكة. أفهم، كما كتبت كثيراً من قبل، والكثيرون من قبلي، أن اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان اندلع مع ثورة التكنولوجيا. ولكن لننظر إلى الثورة التكنولوجيّة الرابطة لأجزاء العالم بطريقةٍ أخرى، فبينما كان الرابط في الماضي عن طريق الحروب والاستعمار، رست السفن قبلهما، وأطلّ القطار مؤخراً، ثمَّ طارت الطائرة. لننظر لانطلاقة الثورة من بدايات القرن العشرين كـ(غِيْر) السيارة، وهو ما سأصل به لما ميَّز جيل مواليد الثمانينات. على الأقل في السودان. تنطلق السيارة في الغير رقم 4 بلا كابح وبسلاسة لانهائيّة، وهي المرحلة التي دخلت فيها الثورة التكنولوجيّة سوق التنافس الرأسمالي العابر للقارات. ففي العصر الذي يسمع به الناس بالتلفاز ويصلهم بعد مُختَرِعيه بعشرات السنوات، ولفئةٍ محددة جداً من البشر.

Life weapon’s dictatorship - By: Mamoun ElTilib

Life weapon’s dictatorship By: Mamoun ElTilib Translated By: Ibrahim Jaffar Introductions: ( Tayfara was a military slave of the Cavalry Divisions (the Divisions of Knights) which was relegated to the Sheiks-ministers of Hamaj .   He presumably has been enslaved during one of the sieges of Rajab to the Nuba Mountains within the course of his campaign against Kordofan, for he reached the age of reason in the era of Nasser wad Idris .   Imaginatively, we would correlate Tayfara’s memories of childhood with those of Dogalo Doguendan Ari ; a Nuba boy of the next generation who, like Tayfara, has been, as a young boy, enslaved and taken from his native land.   Dogalo , as a young man in his far-off exile, has vividly lived the memory of his homeland that has been sustained within his soul as a minute world of landscapes, distant and diminutive shapes; young kings wearing jewels and straddling horsebacks; steppes of azure color of bubbly plant under the pur