التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تنقيب الظلام: الكتابة.. هُويّة المُستقبل القاتلة



تنقيب الظلام
الكتابة: هُويّة المُستقبل القاتلة
مأمون التلب





[أعترف بأنني كنت مُتفائلاً، في اللحظة التي خَلَعَتنا بها معارض الكتب في الخرطوم بوجود كمٍّ هائلٍ من الكتاب الذين يتضوّرون جوعاً لحظر السلطات الحكوميّة لكتبهم، يلبسون كرفتات، وبِدل، ويوقعون كتبهم يوميّاً هناك. إنهم يرجون الله أن تُصادرَ كتبهم، بل يكتبون في خلفيّاتها –دعك من عناوينها- الكثير من الجمل المثيرة للتابوهات العظيمة: الجنس والدين والسياسة].
ـــــــــــــ
[ولا تظننَّ أنكَ جانبتَ الصواب إن أيقنتَ بدخول أرواحٍ جديدةٍ إلى (داخلك) أثناء عبورك أنفاق مَرَضٍ ما، فالأمراض كائنات أخرى، تدخل الجسد، ولها أرواح ـ وهو بديهي بحكم التأثير. و(الجسد) يمكن أن يتمثّل كلّ شيء: نجد أن كلّ مسارٍ من مسارات الحياة البشريّة معرضٌ لتشخيص أمراضٍ تخصّه: للتاريخ أمراض، وللسياسة والأدب والفن، للفلسفة والرياضة…إلخ. هذا إن آمنَّا بهذه التصنيفات. أو كرهنا المرض! من المعلوم، كذلك، أن الأمراض ليست بالأمر السيئ، على الإطلاق، بما فيها عزيزنا الموت. بل اتضح جليّاً أن الحرب ـ هذا المرض الأكبر ـ هي جزءٌ من التكوين السري لتحولات الكون والتاريخ، وما حدث خلال الأعوام الماضية وما انفجر مؤخراً من خبر رؤية الثقوب السوداء والقدرة ـ في المستقبل القريب ـ على رؤية الانفجار الكوني الذي حدثَ قبل مليارات من السنوات الضوئيّة، والذي خَلَقَ الكون، أي أن يُلقوا نظرةً على الماضي؟ بعد كل هذا أودّ الحديث عن مسارٍ آخرٍ سريٍّ بدأ في السريان، وأن تهيئة المستقبل لهي بين يديه].
ـــــــــــــــــ
(1)
كان همّنا الماضي أن يقرأ الناس، وأن يؤمنوا بالكتابة، لكن القرن الجديد فاجأ أرواحنا بأن جعل من الكتابة هدفاً للجميع، وهويّة محببة، ومن القراءة فعلاً يوميّاً لا يستطيع شخصٌ العيش من دونه. ولكن: أيةُ قراءةٍ وأية كتابة؟ هذا هو مبحثنا في هذا التنقيب.
تحمّست جداً في مجموعةٍ من الأعمال الكتابية حول الأمر، بل تفاءَلت، واعتقدت أن الواقع الأرضي يمرّ بمرحلةٍ جديدةٍ تماماً، وأن العالم، ربّما، بدأ لأول مرةٍ يُبشِّر بالخير، ولكن كيف تستبشر المستقبل مع البشر؟ إنهم يَخلعون فؤادك باستمرارٍ بحَرفِهِم لكلّ شيءٍ يؤدي إلى مستقبلٍ جميل، الأمر الذي يجعل من وجود الشيطان في العالم مقبولاً بصورةٍ علميّة لا جدال حولها. ففي اللحظة التي تحقَّق فيها حلم سيّدنا الشاعر العظيم محمد المهدي المجذوب حين قال: (أحلم بجيلٍ يجعل الكتابة جزءاً من العيش، كَشُرب الماء)، إلا أن حلمه تحوَّل كابوساً: لقد حلّ الظلام العظيم بواسطة ذات الحلم.
(2)
في القرن العشرين كانت الهويّة العظيمة هي هويّة السياسي الثوري، (الاشتراكي والإسلامي والديموقراطي والبرجماتي والرأسمالي وإلخ).. لكنها انقلبت، مع بدايات عصر السلطة الفرديّة، وبعد أن أصبحت الكتابة والقراءة مُلزِمة لكلّ فرد، إلى هويّة (الكاتب).
نعم، أصبحت القراءة مُلزِمة وأصبَحَ السَرَحان في المواصلات العامّة مستحيلاً: إن الجميع يحدّقون في الشاشات، إنهم يمارسون القراءة بشكلٍ يومي، والأفظع أنهم يكتبون، كلّ دقيقة، كشرب الماء. هل كنتُ متفائلاً؟ نعم، كنت ذلك الشخص الساذج عندما افترعنا حركتنا الشعريّة، في محاولةٍ للفت الانتباه أن الكتابة ليست وظيفة، بل هي لحمٌ ودم. نزف مستمر، وألمٌ لا يُسيطر عليه أي جحيم.
(3)
كنت قد كتبت، في محاولةٍ لصياغة فكرةٍ حول حركة التغيير المُستقبلية بعنوان (نحو حركة شعرية عالمية)، وتعليقاً على الجملة التي حَلم بها المجذوب: [عندما قرأت هذه الجملة اليوم تكشَّفت لي عن معنىً مُغاير، اكتشاف مُفرح ومخيف في ذات الوقت: أن هذا الجيل قد وُلِدَ فعلاً، وهو يعيش اليوم، ولكنه لا ينتبه أن ما يقوم به يوميّاً، كجزءٍ من العيش، كشرب الماء، هو في حقيقته كتابة! الجميع يكتب يوميّاً، وباستمرارٍ كشرب الماء، ولكنهم ـ وهو الأمر المخيف والمرعب ـ لا يُدرِكُون ذلك، بل هم لا يشعرون بتأثيره المدمّر، هم مثل أطفالٍ عثروا على قنبلة يدوية في الحقول، فلَهوا بها حتَّى انفجرت ومزّقتهم تمزيقاً. أما المُفرح فهو أنهم يقومون بفعل الكتابة، وأن تغيير هذا الوضع ممكن، بل وبدأ، وبذات السلاح: الكتابة.
هذا النوع من النضال الجديد، نسبةً لانوجاد سلاح الكتابة الجديد في يدِ كلّ شخصٍ يحمل هاتفاً ذكيّاً؛ هذا النوع من النضال قد بدأ فعليّاً، الكثير من كاتبات وكتاب اليوم، وأغلبهم من الشعراء "شعر هنا تشمل الفنون.. جميع الفنون"، ومن مستهلكي الأدب والشعر؛ يقدّمون نماذج باهرة للمهارة والحنكة في استخدام سلاح الكتابة، يدفعون يومياً بعشرات المقالات والنصوص الأدبيّة المؤثّرة، ويُثبتون أن ميقات اندلاع الكتابة قد حانَ تماماً؛ فبعد أن سيطر الغناء والموسيقى على التأثير العابر للحدود، والتأثير الكبير على الجماهير، فُتِحت الحدود أمام الكتابة من جديد بعد أن تراجعت خلال النصف الثاني من القرن العشرين؛ أفلس الكتّاب وانهار النشر وبارت المكتبات وقِيلَ كثيراً إن زمن الشعر انتهى! ولكن، ما الذي يُمكن أن يُحسّن من كتابة هذا الجيل غير الشعر؟ إنّه الفن الذي يستطيع أن يُغيّر، يمنح هذا السلاح حياةً وخيالاً ولغةً لا تَفنى. الشعر المذكور هنا يدخل في كلّ نصٍّ مفتوح؛ تدوين حالتك على "فيسبوك"، نص أدبي شعري، صورة أو لوحة، كاريكاتير مُتَعَمِّق،... أي كل ما يُكتب.
كتابة اليوم لا يمكن أن تنفصل عن الجذور التي وجدتها مُركَّزةً في الواقع، لذلك فهي كتابةٌ فَتَّاكة، قاتلة، مُحرِّضة على الحرب والتدمير والتَهلكة؛ فعندما رُبطَ البشر ببعضهم في السنوات القليلة الماضية، تبدَّت القسوة وتفجّر الإنهاك الذي يعانونه واقعيّاً، وهذا يخص الأجيال التي عبرت من عالمٍ قديمٍ إلى هذا العالم الجديد كليّاً وهي في كامل وعيها؛ أي منذ خمسينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا. ولكن، جميعنا يُلاحظ، وربما بافتتانٍ في أغلب الأحيان، الاختلاف الخلاق الذي تنتجه الأجيال المُتجرّدة من أحقاد الحروب والضراوة التي ميّزت مدّة الانتقال هذه، وإليهم يجب أن نتوجّه بحركتنا الشعريّة، فعمادها هُم، ونحن، المهاويس، نُحاول بشقّ الأنفس أن ننال من صفاء اختلافهم وأن نندمج فيهم ونصبح جميعنا، بلا أجيال ولا أعمار ولا حدود، قوّة واحدة ضاربة].
(4)
أعترف بأنني كنت مُتفائلاً، في اللحظة التي خَلَعَتنا بها معارض الكتب في الخرطوم بوجود كمٍّ هائلٍ من الكتاب الذين يتضوّرون جوعاً لحظر السلطات الحكوميّة لكتبهم، يلبسون كرفتات، وبِدل، ويوقعون كتبهم يوميّاً هناك. إنهم يرجون الله أن تُصادرَ كتبهم، بل يكتبون في خلفيّاتها –دعك من عناوينها- الكثير من الجمل المثيرة للتابوهات العظيمة: الجنس والدين والسياسة. كان أمراً محبطاً أن تتصاعد هذه الحملات في الوقت الذي يجب فيه أن تكون الكتابة مُوجَّهة للقلب، وللروح، واستشراف المستقبل. إنني اليوم في حيرةٍ من أمرِ تحليلي لوقائع العالم المتشابكة، والكيفيّة التي تُدار بها الحروب، والقيمة التي تُوضع لكل بشرٍ حيّ. الآن أتوجّه للتشاؤم المبذول في تفاكير الحركة الشعريّة: أن أجيال القرن العشرين تفضح أنفسها في معيّة أجيال المستقبل،و، يا للهول، باستخدام الكتابة!.
(5)
إبّان حياتي الجامعيّة كنت قد تقدّمت باستقالات مستمرّة من الأحزاب السياسيّة التي انتميتُ إليها، على قلّتها، بتسبيب واحد: لستُ بسياسي، لا يساري ولا يميني، إنني كاتب، وهذه الهويّة كافية للحياة. لكنهم كانوا يضحكون على هذه الهويّة في ظلّ الصراع المستمر بين المعارضة والحكومة. اليوم تواجهون ما كنتم تضحكون عليه، ولكن بطريقةٍ أكثر سخفاً وتفاهةً: لقد أصبح الكُتاب هم عماد هدم المستقبل، بل هم المتوحشون، القاتلون لشعريّة الحياة، إنهم مشنقة المستقبل. إنهم يؤكدون، باستمرار، أن الكتابة ليست سوى تجارة وربح أكبر عدد من القراء المفتونين بلمعات المحظورات السياسيّة! إن السلطة التي وُضعت في يدِ الأفراد –كتابةً- هي السلطة التي من الممكن أن تُدمِّر العالم. إن لم ننتبه لبشاعة ما يُمكِن أن يُوضَع -سلطةً- في يدِ الشعوب –ونعلم جميعنا ما الذي يعنيه الشعب؟ فالشعب عنصري وطبقي وعَمَلي وبيزنسي- إن لم ننتبه لهذه الفداحة الملقاة على كاهل الكتاب العُظماء المُتجرّدين من البحث عن الجوائز الأدبية والامتيازات المادية؟ إن لم ننتبه؟ فالعالم الأرضي هذا ذاهبٌ إلى زوالٍ قاتل.
(6)
إن حلول عالمٍ جديدٍ لا يزال عصيّاً على فهم المؤسسات التي لا تزال تؤمن بوجودها الواقعيّ، وتظل، باستمرار، تتجاهل ما يحدث في الفضاء وتستخفّ به. في كلِّ مرةٍ يحدث هذا من قبل مؤسسةٍ تكشّفت عن فسادٍ أو قمعٍ أو نفاقٍ فكريٍّ أو آيديولوجي (مثلاً)، نجد ما يقابلها من ردِّ فعلٍ متشفٍّ لمن في يدهم السلاح الأقوى تأثيراً، والذين يُخضعون ـ في أغلب الأحيان ـ الذين يؤمنون بسلطات ومؤسسات العالم القديم ـ المتلاشي ـ يخضعونهم إلى سلطتهم، بل ويتمّ تعذيبهم والتشهير بهم على الملأ. هذا الفاصل الذي سنسميه (الفاصل السياسي) كان واضحاً منذ أن انفتح الفضاء التكنولوجي، وذلك لسببٍ بسيط: لقد كانت موجودةً بالفعل على أرض الواقع! من الطبيعي أن أولَ انعكاسٍ للواقع على العالم الآخر سيكون مطابقاً في أشياءٍ كثيرة. الخصومة السياسيّة ستكون فاحشة جدّاً، في الحقيقة فإن (تايم لاين) فيسبوك في خيالي يأتي دائماً مع صور رؤساء الدول وأصحاب سلطات العالم القديم، ذات الحنق والغضب والآلام والمعاناة وصور الحروب والأيدي المقطوعة والرؤوس المبتورة وأجزاء طفلٍ تَبَعثرت في الخلاء! هذا هو الانعكاس الذي أتحدث عنه. وهذا ما سننظر إليه كماضٍ حزينٍ بعد أن بدأت عمليات استعادة السيطرة والتوازن للتحكم بهذا السلاح، واستخدامه بأفضل الطرق، وكالعادة تأتي هذه المحاولات بصورة فرديّة، كما يحدث عادةً في التاريخ.
(7)
إن كان لي أن ألقّب هذه الألفيّة باسمٍ فسيكون: (ألفيّة تدشين السلطة الفرديّة). وهو أمرٌ كان إشكالياً بشدّة في الماضي، وسيكونُ إشكالياً في الحاضر والمستقبل بصورةٍ أشدّ ضراوة، ولكن نبرة السخرية اللاذعة ستشوبها بجميع مراحلها. أتذكر الأفراد الحاصلين على الأسلحة الحقيقيّة الفتّاكة وقد سُحقوا تحت عجلات النظام البشريّ المتفسّخ، أعني مؤسسات الحداثة التي ملأت عفونتها ـ اليوم ـ الأجواء، وأصبحت محطّ سخرية متواصلةٍ وبإصرار.
هناك مساران واضحان بالنسبة لي في هذا الشأن: هناك من يتعامل مع (الكتابة) في وسائط التواصل الاجتماعي على أنها (Chat) أو (Status)، أو جميع التعريفات الإنجليزيّة المستمدّة من مؤسسي الموقع، على أنها كذلك، دون البحث فيها ومحاولة تعريف مكوّناتها وربطها، في النهاية، بالـ(الكتابة) كفعل وخلق إنساني. أي أنهم لا يكتبون، إنهم يفرّغون ما في دواخلهم، وهذا هدف من الأهداف الأساسيّة: التعبير عن النفس.
أما المسار الثاني، فهو ما سيخلق تغييراً فكريّاً كبيراً في العالم. في ظنّي أن ثورةً في الكتابة تلوح في الأفق، ليس لها أن تغيّر واقع العالم وتوقف الحروب، فـ(المارد الكبير قد انفكّ من سجنه) وانطلق–بتعبير هنري ميللر- لكنها حركة كانت كامنةً تتخلّق منذ قرونٍ بعيدة، وفي كلّ منحنىً من منحنيات التاريخ نرى الأفراد يتساقطون ويُطحنون تحت عجلات السيستم؛ العلماء والفلاسفة والشعراء… إلخ، من يعملون منفردين، لا سلطة في يدهم سوى أسلحةٍ خالقة، رأيناهم يُشنقون يُنفَون ويتم تقتيلهم بكل طريقةٍ ممكنة، جثث مبعثرة على خيوطِ الزمن. هذا لا يعني أن ذلك غير ممكن الحدوث اليوم، لكن اليوم لديكَ سلطة، بقدر ما كنتَ أصيلاً في ما تكتب، بقدر “ما ستحصل على مستمعين” جيّدين. لا تتوقع الكثير، لا تتوقّع أصلاً. اكتب فقط. واعلم أن الدولة لن تبحث عنك، هي لا تهتمّ بمثوّري الأفكار، بقدر اهتمامها بمثوّري الشعوب عليها. إنها خائفة، فهي تعلم أنها زائلة، ولكنها ـ بعنادٍ مسبوقٍ ـ تصرّ أن لا تكشف عن ما خلف قناع الإرهاب هذا من جَزَعٍ ويأس!
(8)
وأعود للحركة الشعريّة في الماضي القديم، وأقول أن من نماذج الحركة الشعريّة المُبهرة في تاريخ السودان القديم، حركة التغيير الاجتماعي التي قادها الشيخ "فرح ود تكتوك" إبّان انهيار مملكة سنّار، وجاءت سيرته كما يلي: "هو الشيخ فرح ود تكتوك البطحاني، درس العقائد على الفقيه أرباب ولازم الخطيب عمار، وقرأ عليه عِلْم العربية، وكان شاعراً ماهراً، وكلامه مطرباً جاذباً للقلوب، وله كلام في التفسير والتوحيد والأدب، وكان يرخص الدنيا (1)، ونعى فيها جميع العلماء والصالحين في قوله: وين أولاد جابر... الخ"(2). كتب عنه الشاعر والباحث ميرغني ديشاب: "يبرز الشيخ فرح ود تكتوك بلغته الخاصة وكأنه يخرج من اللّغة إلى اللغة التي يتعهّدها هو، ويغذيها بما يبتكر منها لها، مما يزيد من بهائها لدى المتلقّي، ولا تقولنَّ إنه أراد بلغته العامية قصد (إفهام العامة) كما قِيلَ في كتاب الطبقات؛ لكنّه أراد بها أن تُفهم العامية ثم تُرفع إلى مستوى إصلاحِه الاجتماعي، فلغته مقصودة لذاتها"(3). ثمّ إننا، عندما نُعاين إلى الواقع الذي نشأ فيه الشيخ فرح، وأعملَ فيه سلاحه الشعري، سنرى تطابقاً لا بأس به بينه وبين ما نعيشه اليوم، إلا أن الفرق الوحيد والجوهري هنا أن الحركة الشعريّة اليوم لم تنحصر بالممالك والدول والشعوب، وإنما أصبح الكلام "بالخيوت"* كما تنبأ الشيخ فرح نفسه في مقولةٍ له. فلننظر إلى واقعه مما كتب باحثٌ افتبس عنه ميرغني ديشاب في ذات الكتاب: "أدَّى امتلاكُ الفقهاء للثروة إلى نموِّ مفاهيم بعيدة عن الدين، وأصبح فيها الغِنَى والجاه محط الاهتمام، وسادت في المجتمع قيم مادية صرفة سعى فيها الفقيه إلى زيادة ثروته بكل السبل؛ فابتعد بسلوكه عن الدين، وأصبح سيداً له خَدَمه وأتباعه. وبمثل هذا السلوك، سادت قيم التبطّل في المجتمع، وصارت قيمة العمل في مجتمع زراعي قائم على الجهد قيمةً دنيا؛ فقد رأى الناس شيوخهم قاعدين يخدمهم الآخرون، ورأوا الشيخ الفقيه لا يُقَاس بمقدار علمه وتفقّهه بل بحجم من يخدمه من الحواريين والأتباع، وبما يملكه من أراضٍ وماشيةٍ ورقيق.
تلك هي الخلفية التي قامت عليها مؤسسة الشيخ فرح ود تكتوك الاجتماعية، التي حَرِصَ على أن تقوم على نقيض مؤسسات أولئك الفقهاء، على أن تكون مدرسةً اجتماعية ومؤسسة تربوية لكل أفراد المجتمع؛ خاصةً أتباع الشيوخ والفقهاء. وقد أدرك الشيخ فرح ود تكتوك بذكائه الفطري أن طريق مؤسسته إلى بثِّ القيم ونَشْرِ دعوته الإصلاحية لن يكون إلا بالاتصال المباشر القائم على ركيزتين: أولاهما تقديم النموذج سلوكاً وفعلاً، وثانيتهما دَعْم الفِعْل بالقول البليغ المؤثر"(4). قصدت بإيرادي لفرح هنا، أن أقول إن الركيزتين اللتين اعتمد عليهما تلعبان اليوم دوراً إعصاريّاً في عمليّة التغيير، وهما مبذولتان في الفضاء، والشعر هو المدخل. طبعاً، مع الاختلاف مع كلمة "إصلاح" هذه، إذ أنها باتت من الكلمات المُهتَّكة، المُنتَهَكة، وحركة اليوم الشعريّة تعمل، بقوّة، من متابعتي لها، على تفتيت جثث الكلمات وإعادة إحيائها بأشكالٍ مختلفةٍ من جديد. انبعاثٌ للغةٍ وتعابيرٍ جديدةٍ وإبادة كلمات العالم القديم المتفسّخة.
والآن، أنظر إلى ما يحدث للسودان وأرى أن حركته الشعريّة قد بدأت منذ أزمنةٍ بعيدة، ولكنها اشتدت جداً وبقوّة في العشر سنوات الأخيرة، نرى مجلة "إكسير" فنفهم الذي يحدث، نُطالع "البعيد الإلكترونية" اليوم والربط الذي تُحدثه بين كُتّاب العربية، بمختلف جنسياتهم، فنفهم الأمر! إن النضال قد بدأ، ولكنني، بهذه الكتابة، أدعو الناس، الكُتّاب، أن يُمارسوه بوعي، أن يعوا وجوده، الأهم: أن يفهموا القواعد التي قام ببنائها هو ذاته، وهي قواعد تتأسس على الشاعريّة أولاً وأخيراً، أي بالكيفيّة التي ينمو بها الشعر في ذهن الشاعر، أو ـ إن أردنا تمثيلها طبيعيّاً ـ بالكيفيّة التي تنمو بها الأشجار وتتوالد بها الطبيعة وتتطور كائناتها: بحُريَّة!
لقد رأينا، مثلاً، قدراً هائلاً من الاستقلالية التي يتمتع بها الأفراد داخل هذه الحركة الكونيّة، الانفصال عن بعضهم البعض كما قال هيرمان هيسّه، والمعرفة التي يمتلكونها، كتب على لسان "دميان" في العام 1914: [أكاد أُحس منذ الآن الصراع المقبل. صدقني إنه قادم، وسريعاً جدَّاً. لن "يحسّن" العالم بالطبع. وسواء قضى العمال على أصحاب المعامل، أو شنَّت ألمانيا الحرب على روسيا فإن هذا لن يعني سوى تغيير في الملكيّة. ولن يكون ذلك كله دون طائل؛ إنه سيكشفُ عن إفلاس المثل الحالية؛ ستحدث إزالة تامّة لآلهة العصر الحجري. العالم، في الحالة التي هو عليها الآن، يحتاج إلى أن يموت، يحتاج إلى أن يفنى؛ وسوف يحدث ذلك.
ـ وما الذي سيحدث لنا أثناء هذا النزاع؟
ـ لنا؟ ربما انتهينا فيه. نوعيتنا يمكن أن تُقتَلَ أيضاً. الفارق، فقط، هو أنه لا يمكن الانتهاء منَّا بسهولة. ولكن حول ما يتبقَّى منَّا، حول الذين سيتمكنون من البقاء أحياءً، سوف تتجمّع إرادة المستقبل، إرادة البشريّة، التي هتفت قارتنا الأوربيّة بسقوطها منذ زمن تحت وطأة سعار التكنولوجيا. سوف تتقدّم إلى المقدّمة من جديد. وعندها سيتبين أن إرادة البشرية ليست في أي مكان ـ ولم تكن من قبل أبداً ـ متطابقةً مع مجتمعات العصر الحاضر ودوله وشعوبه ونواديه وكنائسه. أبداً. إن ما تريده الطبيعة من الإنسان مكتوبٌ بشكلٍ راسخ في الفرد، فيكَ وفيَّ. إنه راسخ في يسوع وهو، أيضاً، راسخٌ في نيتشه. هذه التيارات ـ التي هيَ وحدها المهمّة والتي هي، بالطبع قادرةٌ على اتخاذ أشكالٍ مختلفة كل يوم ـ ستجد متنفساً لها حالما تنهار المؤسسات الحالية](5)، لقد قالها هيرمان: التيارات القادرة على اتخاذ أشكال مختلفة كل يوم!
ومن القواعد أيضاً عدم التنظيم، وإبادة الهياكل التنظيميّة القديمة التي كانت تتحكّم في العالم القديم؛ سواء أكانت هرميّات سياسيّة، جيليّة، أخلاقيّة، اجتماعية، دينية... الخ. كذلك لم تعد مهمّةً أسئلةٌ على شاكلة: أين بدأت هذه الحركة؟ ومن هو المؤسس؟ ما هي جنسيتها؟ ما هي لغتها الرسميّة؟ من هو الرئيس ونائب الرئيس وأركان حربهما، ما هي مخططات المستقبل؟... الخ. نرى كذلك أن هذا النضال سلمي إلى أبعد حدٍّ من الممكن للسلم أن يَصِلَهُ، ولكن استخداماتها الآن من أجل استمراريّة العالم القديم، بحروبه ودوله وأديانه ومآسيه، هو ما يجعلها فتّاكة، وهو ما يجب النضال ضدَّه.

(9)
أختم هذا التنقيب بكلمات من سيدنا الشاعر محمد المهدي المجذوب، من مختارات كان قد انتقاها الشاعر والكاتب الأعظم محمد الصادق الحاج، وهي مجتزآت من حواره مع شاعرٍ عظيمٍ آخر: عبد الرحيم أبو ذكرى:
مجتزءات من حوار عبد الرحيم أبو ذكرى والمجذوب (أغسطس 1976م):
*
(لست صوفياً، إلا إذا كان تعلُّقِي بالأشياء واستغراقي فيها، حتى أنسى نفسي أحياناً؛ تصوفاً).
*
(نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكان هجاءً في أحد الناس، فذكر المعلم غاضباً أن "الشعر موهبة، والموهبة أمانة وليست أهواءً لا تنفع، والشعر خلاصة الحكمة، وخيرُهُ أشْرَفُه؛ ما كان في الشمائل النبوية، وشرطه السهولة، ونقاء الحروف، وخفته على اللسان والسمع، والصدق الدالّ على الحب، والتغني به مع الجماعة"، فهالني هذا كله وخامرني في تقديس الشعر).
*
(ولكن الشيخ الذي فيَّ ذهب معي إلى المدرسة. (...)، ولم أدرِ أين أضع نفسي من هذا كله، واستمر شيخي الداخليُّ في تعليمه لي. واستمرَّ التلميذ الجديد فيَّ مع المدرسة).
*
(لا يستطيع شاعر، في تقديري، أن يرفض شيئاً؛ فالشاعر جهاز يجمع ويرتِّب بلاوعي، ويختزن كل شيء من مشاهداته لحركة الناس والأعمال الفنية غير الشعر، وقد تَعْلُقُ بنفسه الأشياء العادية، ثم تتحرك هذه الموهبة؛ أو هذا العقل الخفي، إلى تشكيل شيء نستطيع تأمله وقد نتذكر فيه شيئاً يعود بطريقة غريبة. وأحسب أن الذين طلبوا الكيمياء كانوا شعراء ضلوا الطريق. أما الذي يرفض بوعي كامل فهذا نَظْمٌ لا يعرف علاقة الكلمات، قصائدهُ كالقمصان البلدية، فقماشه وخيوطه من اللغةِ الموفورة، ولا يجدُ فِكاكاً من حركةِ يديه، هذا لم يخلعُ أستاراً ليستقبل الريح والمطر والصواعق والسكوت والفرح. إن الذي يرفض لا يعرف الموت والميلاد. أغلب الذين يرفضون هم من أهل النصوص والحفظ والخوف أيضاً؛ فهم لا يستطيعون مفارقة ما ألِفُوا. ومن حسن حظي أنني لا أحفظ، ولذلك فأنا حرّ؛ أي أنني لا أتقيَّد، ولا أعرف بالضبط من أين جائتني القدرةُ على التفلُّت من الكُتُب، أم هو ضعف الذاكرة، إنني أقرأ الكتب فعلاً قراءةً خاصَّة، مؤثِّرة، ثمَّ أنساها من غير أن أتعمَّد هذا النسيان، أم مَردُّ هذا إني أنتقل من حالةٍ إلى حالة؛ فالكتب والمَشاهد معابر).
*
(أنا في حريتي هذه مقيَّدٌ بشيءٍ أُعبِّرُ عنه بلغته، ثم أتخطَّاه، وليس لي في ذلك اختيار (...) كلُّ همي أن أجد ما أعبِّر لأشعر بوجودي).
*
(وهي ليست في الواقع رفضاً، إنما هي شيءٌ آخر، جديد؛ إنسانٌ جديد).
*
(إن الصراع بين قوى النفس المختلفة، وما يعقبه من إرهاقٍ للروح والجسد؛ يُمْلِي الشعر. والشَّاعر في زعمي يعيشُ مع البراكين والعواصف، كما يعيش مع السكون والإصغاء لصوتِ نفسه وهذه الأشياء. ولا أحسبك ينطلي عليك ما ترى من وداعةٍ على وجوه شعرائنا المبدعين؛ فهم وحشيُّون، وفي هذا جمالٌ طليق، وقد يخاصم الشاعر نفسه، ويهاجر منها إلى نفوس الآخرين لعله يجد نفسه، وقد يعود بالإرهاق المفحم أو البوح الغريب، وقد يمرض إذا لم يجد المشاركةَ وينهدم داخله.
*
(ليس هناك إنسان أفضل من إنسان، إلا بمقدار ما يعطي مِنْ صِدْقِ نفسِهِ للآخرين).
*
(إنني أحلم بجيل يجعل الكتابةَ جزءاً من العيش؛ كشُرْبِ الماء).
*
(الشعر ليس بهرجاً، وإنما هو مفتاح لكثير من الحقائق الإنسانية، وقد يجد أصحاب هذه التصنيفات في الشعر ما لم يخطر في ذهن الشاعر الذي كتبه، ومن حق النقاد وأصحاب اللغة أن يقولوا ما يرون، وأجسب أنني كنت أفتش لنفسي عن مخرج في الشعر، فما كنت واقفاً في نقطة واحدة، وقد أطرق الأبواب فلا تستجيب، وقد أتحيَّر طويلاً ثم أتحرَّك. كنت أحاول أن أتجاوز حتى نفسي. لقد طال توقفي أخيراً، كأنني أبحث عن شيء؛ كأنني ما عرفت نفسي قَطّ).
*
(إنني أُحِبُّ مَن يتعاطون الآداب والفنون؛ فهم قبيلتي).

هوامش:
(1) في (كتاب الطبقات) تعبير عامي في (رخّس الدنيا). وقد حولناه لفصيح. ص 312.
(2) من كتاب (البطاحين: تاريخهم، شِعرهم، شعراؤهم)، ميرغني ديشاب، عن الطيب محمد الطيب.
(3) نفس المرجع السابق
(4) مصطفى محمد أحمد الصافي ـ جريدة أجراس الحرية ـ 26/10/2010م.
(5) (دميان)، رواية لهيرمان هيسه، دار ورد، ترجمة ممدوح عدوان.

[نُشر المقال يوم الجمعة 1 ديسمبر - بـ(الممر)، صحيفة السوداني، الخرطوم]

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول مقدّمة طينيّة: سيَّارة الثورة التكنولوجيّة (1) كم من الوقت انتظرت لأكتب عن هذا النص العجيب، والذي لم يُعرَف كاتبه إلى الآن، وربما يتعلَّق الأمر بالظروف والملابسات التي نُشر فيها هذا النص الطريف جداً والتراجيدي بهاويةٍ سوداويَّةٍ مُضحكة. أفهم، كما كتبت كثيراً من قبل، والكثيرون من قبلي، أن اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان اندلع مع ثورة التكنولوجيا. ولكن لننظر إلى الثورة التكنولوجيّة الرابطة لأجزاء العالم بطريقةٍ أخرى، فبينما كان الرابط في الماضي عن طريق الحروب والاستعمار، رست السفن قبلهما، وأطلّ القطار مؤخراً، ثمَّ طارت الطائرة. لننظر لانطلاقة الثورة من بدايات القرن العشرين كـ(غِيْر) السيارة، وهو ما سأصل به لما ميَّز جيل مواليد الثمانينات. على الأقل في السودان. تنطلق السيارة في الغير رقم 4 بلا كابح وبسلاسة لانهائيّة، وهي المرحلة التي دخلت فيها الثورة التكنولوجيّة سوق التنافس الرأسمالي العابر للقارات. ففي العصر الذي يسمع به الناس بالتلفاز ويصلهم بعد مُختَرِعيه بعشرات السنوات، ولفئةٍ محددة جداً من البشر.

Life weapon’s dictatorship - By: Mamoun ElTilib

Life weapon’s dictatorship By: Mamoun ElTilib Translated By: Ibrahim Jaffar Introductions: ( Tayfara was a military slave of the Cavalry Divisions (the Divisions of Knights) which was relegated to the Sheiks-ministers of Hamaj .   He presumably has been enslaved during one of the sieges of Rajab to the Nuba Mountains within the course of his campaign against Kordofan, for he reached the age of reason in the era of Nasser wad Idris .   Imaginatively, we would correlate Tayfara’s memories of childhood with those of Dogalo Doguendan Ari ; a Nuba boy of the next generation who, like Tayfara, has been, as a young boy, enslaved and taken from his native land.   Dogalo , as a young man in his far-off exile, has vividly lived the memory of his homeland that has been sustained within his soul as a minute world of landscapes, distant and diminutive shapes; young kings wearing jewels and straddling horsebacks; steppes of azure color of bubbly plant under the pur