التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هذه لَيسَت مُظَاهَرَتُنا: شهادة حول انتفاضة سبتمبر 2013م

هذه لَيسَت مُظَاهَرَتُنا
شهادة حول انتفاضة سبتمبر 2013م
مأمون التلب
 مجموعة من شهداء مجزرة سبتمبر 2013 الأماجد

يَعمل الشاعر والكاتب، الصديق العزيز محمد بابكر، على كتابٍ بحثيّ دراسي، حول تكوينات وأثر المجموعات التي أطلقت على نفسها "مجموعات النيقرز"، والتي بدأت تشغل الإعلام المحلّي، باستخدامات سياسيَّة واجتماعيَّة مُعيّنة، في السنوات الماضية. وقد برزت لهم أدوار واتهامات متواصلة إلى يومنا هذا. كنتُ قد حكيتُ له عن أحداث ذلك اليوم التي شاهدتها من حيث أسكن، وبسبب تواجد هذه المجموعات بصورةٍ ما في ما جرى، كتبت له هذه الشهادة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
أيقظني صاحب البيت في الصباح الباكر، على غير عادته، وسمعته يهتف أمام باب البلكونة يراقبُ أفقاً بعيداً، قال بطريقةٍ مسرحيّة: "قوم يا مامون، الشعب انتَفَض، أرح ننضمَّ لجموع الشعب الثائر!"، وقبضةُ يده مرفوعة إشارةً.
كنتُ قد أجَّرتُ غرفةً في شقّته، الفنان التشكيلي المعروف عبد الله محمد الطيب (أبسفّة)، وهي تقعُ في مكانٍ يُعتبرُ مميزاً للنظر إلى الأحداث الدامية التي جرت يوم 13 من سبتمبر 2013م، والأيام التي تلته في مدينة الخرطوم. زاوية شقّته يُمكن أن تُفسِّر ما ترتّب على انتفاضة الشعب السوداني في الخرطوم من نتائج وخيمة، إذ استندت الحكومة في قمعها، أخلاقيَّاً، وبلا خجلٍ تقريباً، على عنصر "الفوضى" الذي انطلق تحديداً من المنطقة التي نسكنُ فيها، وما جاورها من أحياءٍ غامضةٍ لا تحمل اسماً حتَّى.
(2)
تقع شقّة الأستاذ عبد الله شرق الميناء البرّي، حيثُ تنطلق الباصات إلى أغلب أجزاء السودان المختلفة. يقولون إن السلطات أَسمَته بالـ"المربَّع الذهبي"، وعندما طلبتُ تفسيراً أُخبِرتُ أنه بسبب كثرة الجرائم والمجرمين الذين يعيشون بين أزقّته المليئة بالقاذورات والمياه الراكدة، جثث لا تُعد لباصات قضى عليها السفر ومزّقها الزمن؛ تغطسُ هياكلها الصدئة أحياناً إلى نصفها في الوحل المتراكم من عشرات الخريفات الممطرة، وتتوزّع الفنادق الرخيصة في عماراته المبنيّة بإهمالٍ معماريّ يحاول بقدر الإمكان أن يستفيد من المساحات المبنيّة الضيّقة لآخرها، بغض النظر عن استخدامات البشر الذين سيسكنون تلك الغرف البائسة ليومٍ أو يومين إلى حين مغادرةٍ إلى أراضٍ أخرى عبر الباصات، أو لزيارة العاصمة لأجل علاجٍ وما شابه ذلك من أزمات إقليميّة. عشرات المطاعم ومحال الإسبيرات وخيم مصنوعة من شوالات الخيش تُقدّم الشيشة على ترابٍ نظيفٍ مرشوش تقدّمه سيّدات نظيفات، وشاشات عرض كبيرة تُسلّي الجمهور بمباريات المصارعة والمسلسلات الهنديّة التي يتّفق الشعب كلّه في أحيانٍ كثيرة على متابعتها، للدرجة التي تزحف صور وملصقات شخصيّاتها إلى المحال وخلفيات الباصات والركشات.
(3)
ذلك المكان، يعيش الفقر والتشرّد بهدوءٍ وسَكِينة، العديد من البيوت المبنيّة بشوالات الخيش، والجالوص، عشوائيّاً حول مقابر الصحافة الكُبرى الواقعة جنوب منطقتنا مباشرةً، وتنقسمُ إلى مقبرتين شاسعتين؛ الأولى مُسوَّرة ومعتنى بها بدرجة لا بأس بها، وهي التي تمتلك الاسم بوضع اليد "مقابر الصحافة". الأخرى مُهملة بصورةٍ بائسة، ما عدا بعض القبور الرصينة، تلك هي مقابر المسيحيين. حول المقبرتين ترتص البيوت العشوائيّة الفقيرة المُعرَّضة لمداهمة الشرطة في أي وقتٍ وفي كلّ لحظة، بحثاً عن ممنوعات تتراوح ما بين العرقي البلدي والبنقو، ومن العادي جدّاً أن يتم تفتيشك آخر الليل إن كنت من سكّان ذلك المربّع، والذين تسكن أغلبيّتهم عشوائيّاً، بينما يظلّ سكّان العمارات المُظلمة أقليّة إن استثنينا السُكّان الطارئين.
(4)
في حادثةٍ ألقت بي في حراسة القسم الذي يُديرُ أحوال تلك المناطق، تعرّفت على الكثير جدّاً من مُعتادي الإجرام: نشّالون، حراميّة بيوت أو محال تجاريّة، مروجو البنقو الصغار، من ينهبون أجزاء السيارات وغير ذلك من القَتَلة ومُحتجزي الشيكات الطائرة بالتأكيد. بالاقتراب منهم يتضح لك أن التسمية –معتادي إجرام- خاطئة تماماً؛ لقد وُلِدوا، وعاشوا في عراء الشوارع، لا يعرفون من أيّ مدينةٍ أتوا وإلى أيّ مكانٍ يتّجهون، حياتهم هكذا تسير: رزق اليوم باليوم. وكلّما مارسوا "إجراماً" قُبض عليهم في أغلب الأحوال؛ لا تتركهم السلطات لحالهم حتّى يُصبح الإجرام عاديّاً. إن "معتادي" الإجرام بالنسبة لي، بكل وضوح، هم من يخرجون من بيوتهم الفارهة، بحراسةٍ وعرباتٍ وحشمٍ وخدم وسلاح وغير ذلك، يمارسون إجرامهم باعتيادٍ ويعودون، آخر اليوم، إلى بيوتهم مبتسمين بهدوء، محمّلين بجزاء إجرامهم ثروةً.
(5)
عندما وقفت خلفُ الأستاذ في البلكونة رأيت الدخان يملأ الأفق، متصاعد من ثلاث نقاطٍ تقريباً، والبلكونة تفتح على الاتجاهين الشمالي، باتجاه المدينة، والشرقي؛ ثلاث طرمبات بنزين حُرقت على الأقل، وأصوات صياح تصل من بعيد. بعد عشر دقائق كنّا نسير باتجاه الشارع الرئيسي خلال أزقة المربّع الذهبي باتجاه حيّ الصحافة، وعندما اقتربنا من جمعٍ سدَّ الشوارع بإطارات العربات، لاحظ الأستاذ مباشرةً أننا كنّا مُفارقين للمشهد: ما بين 40 إلى 50 من الشباب والأطفال بملابس رثّة يحملون هراوات ويُغلقون الشارع بابتسامات مرحة، يقذفون الحجارة باتجاه سدّ الشرطة الواقف بعيداً دون فعل، كانت مكنات الصرافات الآليّة قد حُطّمت، نُهبت وأحرقت، منذ مدّةٍ من الزمن، عقب حرق محطّات الوقود الثلاث، وردّ فعل القوات كان سلبيّاً. علّق الأستاذ بهدوء وحسرة متفكّراً، بينما نقف ونراقب: "هذه ليست مظاهرتنا". بعد لحظات سمعنا صوتاً عميقاً من خلفنا: "يا أساتذة"، التفتنا بحركةٍ آلية، فإذا برجل ضخم الجثّة، بملابس مدنية، يقف خلفنا. وخلفه هو، ما بين ساقين، تتدلَّى عكّازةٌ غليظةٌ بجديّة. سأل: "واقفين هنا مالكم؟:، فردّ الأستاذ: "أبداً بس جينا نشوف الحاصل شنو"، قال: "أرجعوا بيوتكم إذا ساكنين قريب أحسن ليكم". فردَّ الأستاذ بمسرحيّة: "جدّاً يا سعادتك"، وبدأنا في السير ببطء ونتلفّت. أذكرُ أن أحدهم اتصل وهو يقول: "يقولون إن منطقتكم مشتعلة؟" ومع بداية رد الأستاذ كانت موجة ضخمة من الشباب، الذين كانوا يسدّون الشارع، تنحدر نحونا بسرعةٍ هائجة، كان ردّه: "نعم مشتعلة، لدرجة أنني سأنهي المكالمة الآن"، فركضنا مع الراكضين.
كان التخريب مقصوداً ومصنوعاً بكل وضوح: أن تُغريهم بتحطيم الصرافات الآلية ومحطات الوقود ونهب محتوياتها بلا سؤال، أي أن تمنح معتادي الفقر والبؤس والعبث هؤلاء برزق أيامٍ ستمضي في حيواتهم بهدوءٍ يميّز حياة معتادي الإجرام الطبيعيّة، يوازي في أعينهم جنّة، حتّى وإن كانت محدودة.
(6)
لم تنتبه لذلك الحركة السياسيّة التي لاحقت الحراك الثوري الذي سبقها –كالعادة- في الأحياء العريقة والمؤثرة في الخرطوم، كالبراري والديم وشمبات والجريف كأعلى الأصوات حينها، بل جاهدت في إنكاره، بينما استغلَّ النظام فجوته الأخلاقيّة البائسة هذه، والتي دفع قيمتها نقداً، بصورةٍ لم يتوقّع وقاحتها سكّان مدينة الخرطوم، لم يتوقعوا إجرامه وتماديه في الكذب الوقح في الإعلام والتلفزيون لتبرير القتل والتنكيل الذي أصابهم مباشرةً من النظام، وبصورةٍ واسعة، حتّى أنهم -بتعبير مواطنٍ أعرفه- بدأوا يصدقّون أن ما حدث في دارفور "قد حدَثَ بالفعل"!

ــــــــ
الخرطوم - الديم 
فبراير 2020م







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول مقدّمة طينيّة: سيَّارة الثورة التكنولوجيّة (1) كم من الوقت انتظرت لأكتب عن هذا النص العجيب، والذي لم يُعرَف كاتبه إلى الآن، وربما يتعلَّق الأمر بالظروف والملابسات التي نُشر فيها هذا النص الطريف جداً والتراجيدي بهاويةٍ سوداويَّةٍ مُضحكة. أفهم، كما كتبت كثيراً من قبل، والكثيرون من قبلي، أن اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان اندلع مع ثورة التكنولوجيا. ولكن لننظر إلى الثورة التكنولوجيّة الرابطة لأجزاء العالم بطريقةٍ أخرى، فبينما كان الرابط في الماضي عن طريق الحروب والاستعمار، رست السفن قبلهما، وأطلّ القطار مؤخراً، ثمَّ طارت الطائرة. لننظر لانطلاقة الثورة من بدايات القرن العشرين كـ(غِيْر) السيارة، وهو ما سأصل به لما ميَّز جيل مواليد الثمانينات. على الأقل في السودان. تنطلق السيارة في الغير رقم 4 بلا كابح وبسلاسة لانهائيّة، وهي المرحلة التي دخلت فيها الثورة التكنولوجيّة سوق التنافس الرأسمالي العابر للقارات. ففي العصر الذي يسمع به الناس بالتلفاز ويصلهم بعد مُختَرِعيه بعشرات السنوات، ولفئةٍ محددة جداً من البشر.

Life weapon’s dictatorship - By: Mamoun ElTilib

Life weapon’s dictatorship By: Mamoun ElTilib Translated By: Ibrahim Jaffar Introductions: ( Tayfara was a military slave of the Cavalry Divisions (the Divisions of Knights) which was relegated to the Sheiks-ministers of Hamaj .   He presumably has been enslaved during one of the sieges of Rajab to the Nuba Mountains within the course of his campaign against Kordofan, for he reached the age of reason in the era of Nasser wad Idris .   Imaginatively, we would correlate Tayfara’s memories of childhood with those of Dogalo Doguendan Ari ; a Nuba boy of the next generation who, like Tayfara, has been, as a young boy, enslaved and taken from his native land.   Dogalo , as a young man in his far-off exile, has vividly lived the memory of his homeland that has been sustained within his soul as a minute world of landscapes, distant and diminutive shapes; young kings wearing jewels and straddling horsebacks; steppes of azure color of bubbly plant under the pur