التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تنقيب الظلام: سوق الثورة - مأمون التلب

تنقيب الظلام
سُوق الثّورة
مأمون التّلب





إننا لا نتحدث عن سوقٍ اعتيادي، حيث تجدُ "الأخلاق" عذراً مُقنعاً للتمرّغ في الوحل، الانتحال والكذب والاحتيال، بل إن الأخلاق فيه ليست مطالبة باعتذار؛ جميع المُثُل والقوانين الاجتماعيَّة داخل حيّز أديان البشر التجاريَّة، أو ما نُحب أن نُسميه الاقتصاد وعلاقاته؛ جميعها تَقِفُ في صفّك: بدايةً بـ(أُكلوا أخوان واتحاسبوا تُجَّار)، نهايةً بصراع الأخوة والأخوات داخل العائلة الواحدة، يتفتَّتُ الأمر ليصل الإنسان في أصالته أمام نفسه ذاتها، ولكن دون تأثيرٍ يُذكر. لا شعور بالذنب، حتَّى في المحاكمات السياسيَّة تبدو تُهمة الفساد تافهة مُقارنةً بما يؤدّي إليه الفساد نفسه: الحرب.
نحن لن نتحدث عن سوقٍ اعتيادي، ففي هذه الأنواع من الأسواق المريبة، والتي تنبت من العدم كتلك المُصاحبة لمباريات كرة القدم الكُبرى: تُباع أعلام منتخب الجزائر في الشوارع وكذلك الأعلام المصريَّة، فجأة يتلوّن الشارع بالأحمر والأخضر والأبيض! أقول، في هذه الأنوع من الأسواق، يجب على الجشع أن يتخفَّى في ثيابٍ جديدة، على أعضاء السوق الممحوق في ما فنى من حقبةٍ تاريخيّة ما، أن تبدّل جنسها وجِلدَها، حتّى تصل بها الوقاحة أحياناً حدَّ تبديل حدقات عيونها شخصيَّاً مقابل أن تُواصل حياتها في السوق الجديد.
نتحدث عن "سوق الثورة"، وعلينا أن لا نجزع من وقاحة التسمية إن كنَّا من يتقبلون حقائق الطبائع البشريّة في سلوكياتها الاعتياديّة، إن كلمة سوق لا تستطيع أن تعيش لوحدها أبداً، عليها أن تَجِد جسداً حيّاً طازجاً تلتصق فيه، وتمتصّ منه حياتها الجديدة؛ يحدث هذا التحوّل مع كلّ انقلاب، تغيير أوضاع، ثورة، معاهدات سلام، حتَّى في علاقات الحب والعائلة. هنا، التصقت بكلمة (ثورة)، وبما أن الأخيرة تنتمي للجميع، غير شخصيَّة ولا صفويَّة حتَّى، فإن هذا الشمول الأخير يمنحني الشجاعة الكافية (انتوا الشجاعة دي بتجيبوها من وين؟) لأُدخل نفسي مع من يهمهم الأمر هؤلاء. أعني، بما أنهم (الجميع).

نماذج معاصرة:
في السوق علامة النصر هي الأسهل، وكلما كانت السلعة سهلة الترويج ومأمونة المخاطر (أي لا تُلزم مُستخدمها بمقابلٍ أو حوار حتَّى) كلما بانت أكثر في التعاملات التجاريّة في أوضح صورها: الإعلانات التجاريّة في الشوارع. انكشحت علامة النصر على إعلانات مشروبٍ غازيّ، شركة اتصال، بقالات، متاجر، قناة فضائيّة..إلخ. وكلما زاد الرمز تعقيداً كلّما تعقّد تكوين المؤسسات التي تُتَجار به.
النموذج الآخر بعد علامة النصر هو الأيقونة آلاء صلاح، والتي تَرَشَّحت مؤخراً لنيل جائزة نوبل. ما يميّز هذا النموذج أنه ليس مُبسَّطاً كعلامة النصر، إنّ استخداماته في السوق تأتي بطريقة مُعقَّدة، إذ أن العائد من هذه السوق ليس مالياً. أعني نَقدِيَّاً بصورة مباشرة، وهنا يكمن خطره؛ فبينما لم تُغيّر الشركات الكُبرى من جوهر عملها لتدخل سوق الثورة، بل اهتمت بالمظهر والرتوش؛ فإن سوق الثورة المَعنوي له قوانين أخرى؛ إن التغيير يجب أن يكونَ جوهريّاً. وجدت آلاء نفسها فجأةً وقد تحوَّلت أيقونةً "عالميَّة" للثورة السودانيّة، ولم يجد مصوّر اللقطة المسكين مكاناً في هذا المُولد. أُدرِكُ مدى غضب الكثيرين وشعورهم بالظلم وهم يُعدّدون بقيّة الأيقونات الثوريّة الصادقة، ومقارنتها بآلاء مُستندين على فقر تاريخها النضالي والسياسي، إلا أن آلاء، وبإدراكها لمدى تمدّد أثر الصورة الباسلة إلى أن شمل العالم، وأصبحت بذلك من الشخصيات النسائيّة الأشد تأثيراً في العالم أجمع، فإن حياتها بذلك تغيّرت جوهريّاً، وبذلك تغيّرت هي ذاتها.
لا يمكننا أن نقارن رصيد ونضال آلاء برصيفتها في الترشُّح لجائزة نوبل للسلام السعوديّة لجين الهذلول التي انتشر خبر ترشّحها في صدارة الأخبار، وهي المعتقلة –إلى اليوم- من قبل سلطات بلادها قبل عامين، كما تعرضت للتعذيب القاسي بسبب دفاعها عن حقوق المرأة، ووفقاً للينا الهذلول، شقيقة لجين، التي تعيش في بلجيكا كلاجئة سياسية، فإن "لجين مسجونة في حبس انفرادي وتُعامل بشكل سيء وتتعرض للتعذيب بالصعق الكهربائي والجلد والاعتداء الجنسي".* والهذلول تحاكم بتهمة الخيانة، وتقول منظمات حقوقية إن اعتقالها يأتي ضمن حملة قمعية شرسة ضد حرية التعبير بدأت في العام 2015.
رغم الفرق الشاسع في التضحيات بين المُرشَّحتين إلا أن الأمر لا يتعلَّق أبداً بذلك، علينا أن ندرك أن ترشّح آلاء لا علاقة له بها كشخص، وإنما بالصورة ومدى إلهامها وتأثيرها، تماماً كما تفعل لوحة فنيّة! الفرق فقط أنه، وفي سوق الثورة، كل شيءٍ مُتوقَّع، وفي حالتنا يحدث أن يُنفى الفنان –مصوّر آلاء- وتبقى زهرة عبّاد الشمس هي البطلة المُتوّجة للوحة فان جوخ!. أضف إلى ذلك أن سوق جائزة نوبل، وتحديداً بتاعت السلام دي، غير بريء البتَّة؛ فهو يدور، كما كلّ سوقٍ من أسواق هذا العالم، من أصغرها إلى أكبرها، في مدار المجرَّة الرأسماليّة التي نرفض أن نحتضن جاذبيّتها إلى أن يتمّ إكراهنا على ذلك. لا تنزعجوا يا شباب، الثورة مُستمرّة، وديناميت السيّد نوبل مستمرٌّ في تفجيراته بعد أن عَهِدَ بجائزته لتجار السلاح، كذلك فعلينا أن نُقرَّ ونرضى دون غضبٍ شديد وتلف أعصاب بأن "الأيقنة –في النهاية- قسمة ونصيب!". ها هي آلاء تُمثّل خريطة وأيقونة ما يريده منّا السوق الدولي أن نكونه. أما ما كُنَّاه فقد صمَّمه باقتدار الفنان محمد حسن هارون في مجسَّمه البديع "صائدة البنبان". حلاً للنزاع –كاقتراح- أعتقد أن علينا اقتناص نوبل ودعم ترشيح آلاء، وإنني أجزم أن التكريم بنوبل لن يتعدَّى تأثيرهُ عالمياً عاماً على أقصى تقدير، ولكنه تأثيرٌ مُهم ومُفيد. وما علينا سوى أن نبني مجسّم صائدة البنبان في صينيّة مركزيّة من صينيّات شوارع العاصمة المثلّثة، وأعتقد أن الفنان والمصوّر عصام عبد الحفيظ قد قطع شوطاً في هذا الاتجاه.


وضعت هذين النموذجين -علامة النصر وآلاء- كقِمّتي جبل جليد بريئتين من أية محاكمةٍ أخلاقيّةٍ أو إدانةٍ حتّى؛ إذ أن طبيعتهما صارمة وصَلدة؛ ولكن للقارئ أن يُفتّت اللوحة ليحصل على كمٍّ هائلٍ من النماذج العجيبة لتجار السوق، وإن كان لي من نصيحة، فعلى من يجد في نفسه القدرة على المراقبة المرحة للأحداث دون أوجاع قلب أن يفعل ذلك. وبالمناسبة، لا بأس بالتسالي وما شابه. 

أقول، علينا أن لا نجزع من التصاق السوق بالثورة، علينا أن نتقبّل الأمر كجزءٍ من طبيعة تكويننا كمجتمعات رأسماليّة بدائيّة عابدة للمال والشهرة وكلّ ما تحثّ عليه ميديا السوق بكلّ أشكالها. إنه الجزء الحيواني الأصيل فينا كبشر.
أتذكر الآن أن ناشيونال جيوغرافيك قد وثَّقت طريقة الضبع في اصطياد الجمال، حيث يُحدّد الناقة الحامل، ويتبعها بدقّة لأيام وربما أسابيع، إنه يعرف بأنها ستبتعد عن القطيع عندما يحين موعد الولادة، يَعلم أنّ من عادتها أن تتوارى خلف التلال، ويُدركُ أنها لم تعد وحدها فقد كَبُر الصيد؛ سيهجمُ قطيع الضباع عليها في أضعف حالتها وهي تُسُلِّمهم ضحيّتهم الإضافيّة مباشرةً من الرحم. أَلَم يُصمِّم الإنسانُ ضبعاً من المادّة الضبعيّة المُكوّنة لجزءٍ منه؟ حقيقةً، لا أستطيع إبعاد صورة الضبع الجانبيّة المُتسلّلة إلى مخبأ الناقة بينما أفكّر في النظام المصرفي!
هل أبدو مثالياً؟ نعم، نحن لم نهزم الرأسماليَّة كمجتمعات ودول مربوطة بحذاقة إلى دولاب السوق العالمي، لكنَّنا نتشبّث، في ذات الوقت، بآيدولوجيَّات خارج دائرة التأثير والتأثُّر؛ فمن ناحية فإنه من الواضح أن الأدوات القديمة في محاربتها قد باءَت بالفَشل، دليلُ ذلك أن أدواتٍ جديدة قد بدأت بالبروز، ومواقع قتال جديدة؛ إنها "حرب العصابات" والتي لا يُمكن أن تُواجه الرأسماليَّة المتوحشة ذات الرؤوس المتعددة إلا بها، ولكن، أليست حروب العصابات ذاتها قد تطوَّرت مع بروز الشبكة الأرضيّة، في كلّ يوم، من قاع البشري ومن أعماق الطبيعة؟ صحيح أننا (كشعراء مثلاً، وبتعبير حسام الكتيابي، والذي بَصَم عليه عصام جبر الله  بالعشرة)، لن نرضى إلا بالحديقة كلّها؛ ولكن علينا أن لا نكون قُساة في حكمنا على انسياق الأغلبيّة، في خضمّ مرحلة ما بعد "الثورة"، إلى سوقها الذي يحتلّ، في ما نرى، المساحة كلّها إلا قليلا! نحن بطبيعتنا ثوريّون بصورة جذريّة، وليس لدينا ما نكسبه أو نخسره، أعتقد أن ذلك هو أفضل ما يمكن أن تكون عليه حالتك، أثناء "التقدّم على الجبهة".
المشكلة تكمن في هذه التحديدات الزمانية والمكانيّة التي تُحاصر الثورة: (قبل، أثناء، ما بعد) الثورة. وتدخل الأمكنة والأحداث كملحق: (ما بعد فض الاعتصام، قبل الثلاثين من يوليو..إلخ)، وهكذا. إن هذا التحديد بالذات يسجن الثورة وروحها ولا يدع لها مجالاً سوى التحوّل إلى سوق، والعودة إلى "الحياة الطبيعيّة" التي يتباكى الجميع على فقدانها إلى اليوم. صحيح أنها نقاط تحوّلٍ عظيمة، ولكنها، بعظمتها، تُمثّل القاعدة الصلدة التي تُورثنا طمأنينة السير في طريقٍ طويل لا ينتهي على فكرة، لقد وضعتنا ثورة السودان في كابينةٍ قياديّة مُدرّعة للتعاون مع من حولنا من بلدان وشعوب إفريقيَّة، وعالمية في ذات الاتجاه الذي أحرزت فيه الثورة مرتبةً متقدّمة بين الشعوب. يجب على الحرب أن تكون شاملة ومستمرّة، والتضحية كذلك، وهنالك مجالٌ دائماً لاستراحة المحربين. على الثورة السودانية أن تضع نفسها في الموضع الصحيح من ثورات العالم التي ما هي إلا جزءً مُميّزاً ببصمةٍ ساحرة وفاتنة.
يقول هنري ميللر: (إن المحلل النفساني، أينما كان، يخوض قتالاً يائساً؛ فمقابل كل فردٍ يُعيدهُ إلى مجرى الحياة، أو "يكيّفه"، كما يُقال، ثمة درزينة من اللامتكيّفين. ولن يكون هنالك أبداً ما يكفي من المحللين بالمهمّة، مهما أسرعنا في تحضيرهم. تكفي حربٌ قصيرةٌ واحدة لتحطّم عمل قرون، وطبعاً ستحقِّق الجراحة تقدّماً جديداً، مع أنه من الصعب التنبؤ بمبلغ فائدة هذا التقدّم. يجب تغيير طريقة حياتنا كلّها. لا نريد تطبيقات جراحيّة أفضل، نريد حياةً أفضل. لو أن كل الجراحين، كل المحللين، كل الأطباء ينسحبون عن نشاطهم ويجتمعون مرةً معاً لفترةٍ قصيرة ليستريحوا على مدرَّج أبيدوروس، لو أمكنهم أن يُناقشوا بهدوءٍ وسكينةٍ الحاجة الملحّة، المتطرفة للإنسانيّة بمجملها، لانبثق الجواب بسرعة، ولكان إجماعيّاً: ثورة، ثورة تشمل أطراف العالم من أعلاه إلى أدناه، في كل بلد، في كل طبقةٍ اجتماعيّة، في كلّ مجالٍ للوعي. الصراع ليس ضدّ المرض: المرض نتيجة ثانويّة. وعدو الإنسان ليس الجراثيم، بل الإنسان نفسه، غروره، تحاملاته، غباؤه، غطرسته. لا طبقة اجتماعية منيعة، لا نظاماً يحوي الدواء العام. على كلّ فردٍ وحده أن يثور ضدّ طريقة الحياة التي ليست له. ولكي تكون الثورة فعّالة يجب أن تكون مستمرّة ولا تعرف الرحمة. ولا يكفي الإطاحة بالحكومات، والسادة والطغاة: على المرء أن يُطيح بأفكاره المتوارثة حول الخطأ والصواب، حول الخير والشر، والعدل والظلم. علينا أن نتخلّى عن خنادق القتال الضاري التي غرزنا أنفسنا فيها ونخرج إلى الهواء الطلق، نسلّم أسلحتنا وممتلكاتنا، وحقوقنا كأفراد، وطبقاتنا الاجتماعية، ودولنا وشعوبنا. ولا يمكن لبليون إنسان يفتشّون عن السلام أن يُستَعبدوا. لقد استعبدنا أنفسنا بنظرتنا الحقيرة المحددة للحياة. جليلٌ أن نُقدّم حياتنا من أجل هدف، أما الموتى فلا ينجزون أي شيء. الحياة تتطلب منا أن نقدّم المزيد ـ الروح، النفس، الذكاء والنيّة الطيبة. الطبيعة دائماً على استعدادٍ لترميم الثغرة التي سبّبها الموت، لكن الطبيعة لا يمكنها أن تزوّدنا بالذكاء، والإرادة، وقوّة الخيال لنقهر قوى الموت. الطبيعة تُخزّن وترمم، لا أكثر)*.

رأس المال:
ربّما اشتمَّ الناس مناخاً غريباً يبدو فيه أن المُطالبة بـ"مقابل" عن: ما ضاع من العمر والجهد والنضال والتعب والتشتت، الحرمان من الحقوق وأساسيّات الحياة، مراقبة الحياة تمضي وتدور بعيداً كـ"الطاحونة البعيدة" –بتعبير أمل دنقل- تبدو المُطالبة طبيعيّة! تثور الأسئلة بعد ذلك عن من هو الأحق بالـ"مقابل"؟ هنا ندخل في سرداب الأمتعة المعنويَّة، وأمامنا في المسرح يكشفُ رأس المال عن طبيعته المُتخفّية في الرمز، التاريخ، العنف، القتل، التشريد، التمزّقات المريعة التي حدثت في الماضي، ودخول جميع البشر المسحوقين إلى الساحة، تصرعهم الخيالات وما واجهوه من أقسى حدٍّ في الحرب، إلى ضفاف المنافي، مروراً بالسائرين في أزقة الدرك الأسفل من الجحيم لأكثر من 50 عاماً.
علينا أن نوضّح أمراً من وجهة نظرٍ شعريّةٍ بحتة: لم يسقط نظامٌ بل سَقَطت حكومة، ورغم أن تغيير الأنظمة، بالنسبة للثورات الثقافيّة الفكريّة المستمرّة منذ الأزل، لا يتعدَّى تغييراً في الخلفيات ومستويات الإضاءة، أو، بتعبير هيسّه، "تغييراً في المِلكِيَّة"، فإن تغييراً عالميَّاً نادراً يحدث؛ لم ولن تذهب ثورة ديسمبر عَبَثاً في خرائط التغييرات والصراعات العالميَّة التي يُمثِّل السودان فيها رقعةً مركزيَّةً تكاد أطرافها الباقيّة منها تتمزَّق من كثرةِ الأيدي المتنازعة على مكاسبه. أقول، هذا التغيير هو انتقالٌ كاملٌ من عالمٍ ماضٍ إلى عالمٍ جديدٍ كليَّاً، عالمٌ ثوريٌّ يؤمنُ، بما ملَكَت يداه من أسلحة السلطة الفرديَّة الفتَّاكة، بالتعرية المُستمرة لجلد ولحم العالم الماضي، يوميَّاً، بهدوءٍ صاخبٍ، واحتفالات شواء أحياناً، علينا، والحال كذلك، أن لا نقيس "الأمل" بمعطيات العالم البائد، أي أن التغيير من المستحيل أن يُشبه، في جوهره، التغييرات الماضية، فبدخول الأفراد الحرب، وامتلاكهم لأسلحةٍ شخصيّةٍ وحادَّة تحمل النزق والغضب والآلام المُحدثة من كمّ الأكاذيب الهائل الذي كنَّا نعيشه في عالمٍ كافر بشدّة، فإن المُطالبة والبحث عن انتصارات ضخمة إعلاميَّة وعالميَّة زائفة، باختصار: انتصارات سياسيَّة، وحشد قطيعي للأعضاء، فهي ستكون وستظل مرحليَّة بقدر مرحليّة تغيير نظام الحكم، أما الثورة المستمرّة، الثقافيّة والفكريّة، فأمامها فرصة نادرة ولحظة ثوريَّة عظيمة لتخرج أدواتها الجديدة إلى العلَن، فليُصدَم من يُريد، فالأفراد، بتهوّر وركوب راس، سوف يُعبّرون، جوَّ عين أيّ زول، عن كلّ ما يَمور بداخلهم، كلّ فردٍ على حدة، كلٌّ باختلافاته، سيُعرَّى القطيع أمام ذواته المُتناقضة، ستخرجُ أحلامُ الحالمين إلى الهواء الطلق.
نحن، هنا، لا نواجه نظاماً حاكماً بالحديد والنار، بل نظاماً داخليَّاً في تركيبة المُجتمع المعجونة منذ الاستقلال، مروراً بقصديّة تشويهها خلال ثلاثين عاماً من آيديولوجيا إعادة صياغة الإنسان السوداني، وصولاً لمحاربة نظامٍ عالميٍّ من الداخل السلمي الديموقراطي؛ أي إن علينا، بدايةً، أن نُصبح دولةً على الأقل، ولتكن فاشلة، لا بأس، لكن علينا المُساهمة في طريق الثورة العالميَّة. أعتقد أن التخلّص من بهرجة المجد الذي حققته الثورة السودانية، بسلميّتها وتميّزها على الصعيد الإقليمي والعالمي، والاستفادة منه، في ذات الوقت، للتوازي مع بقية العالم في المُطالبة بالحقوق البسيطة، المسكينة. علينا الانطلاق إلى الأمام في الطريق الأطوال، هذه الثورة سُتحارب من سلطة المجتمع التي تواطأت مع سلطة الإنقاذ في خنق الحياة وقَتلها: لم يعترض المُجتمع على محاربة الدولة للحب والضحك والفرح، لم يعترض –إلا في حالاتٍ نضاليّة، فرديّة وجماعيّة، محدودة- على القهر والقيود التي فُرضت على المرأة، والأخطر أنه لم يعترض حتَّى على الحرب. لم تتبرّم المجتمعات التي حظيت بحماية معقولة من السلطة، وتحتاز على كم هائل من الثروات، إلا بفقدانها لكليهما؛ انحازت لثورة الشباب لأول مرة بعد أن تخاذلت مراتٍ عدّة في نُصرة الانتفاضات الشبابيّة العديدة خلال حقبةٍ عبرتها ثلاثةُ أجيالٍ شابّةٍ، قضت حياتها نحبها، واقعاً ومجازاً، بين نيرانها. ولكنها، بعد أن تحققت الثورة، بدأت بالتبرّم مرةً أخرى، وتستدعي ذات المتاريس، ولكنها لا تدرك أن القصّة قد تغيرت هذه المرّة، وقواعد اللعبة جديدة، والسلطة الحقيقيّة لا علاقة لها بالمؤسسات القائمة اليوم: الإعلام، القوات النظاميّة، الرمزيات التشريفيّة، مراتب الوظائف، الرئيس والمرؤوس، النظام الهَرمي بأكمله الذي دائماً ما يُعتمد عليه في تفطيس أحلام الثورة الكامنة في أجساد البشر أبداً.
إن [الروح الحقيقيّة ستبرز من المعرفة التي يملكها الأفراد المنفصلون كلٌّ منهم عن الآخر. وبعد حينٍ من الزمن سوف تحوّل العالم. أما روح التجمّع الآن فما هي إلا من تجليّات غريزة القطيع]*.

لقد لَمِسنا، من خلال حفلات الشواء اليوميَّة في فضاء الشبكة الأرضيّة (الانترنت)، الكيفيّة التي يبهت بها كلّ ما هو غير أصيل، زائف، ومسُتَهبل؛ فالأسلحة التي تحدثت عنها قبل قليل، في يدِ الأفراد، فهي أسلحةٌ ذوات حدود لا حَدَّين فقط؛ فمن الممكن، استناداً لرؤوس الأموال في حلّتها الجديدة في سوق الثورة، أن تَحصد الثَرَوات الماديّة والرمزيَّة وتنهال على صاحبها بالأوسمة والجوائز العالميَّة والمِنح ومحبّة الناس كذلك، لا حدود للمكاسب في هذا السوق الفريد من نوعه، ولكنّ سوقاً كهذا، إن كنتَ زائفاً، فإن هواءَه معطّرٌ بأرواح شهداء، فبعد أن قاوم العطرُ التلوّث الهائل بالحزن والألم والغضب بعد مجزرة فضّ الاعتصام، واندلاعه في شوارع البلاد وأزقتها في الثلاثين من يونيو، انتقلت السلطة بسلاسةٍ إلى مكانها الطبيعي: في يدِ الشعب. حسنٌ، هذا ليس كلّ شيءٍ يا سادة، إنها بداية الطريق فقط، وخلال هذه الرحلة لن يكون هنالك وحشٌ لنحاربه بأسلحةٍ قادرةٍ على صدّه، بل علينا أن نُبدع أسلحةً تُناسبُ كلّ فردٍ منا، وعلى كلّ من يبرع في أمرٍ أن ينخرط فيه. إن "القيامة" التي يأتي الناس فيها فُرادى تتفرهد، وكل شاةً مُعلَّقة من رقبتها.
عودة لطبيعة البزنس مان، فإنني ببقيّة التصوّر الذي كتبته في المقال السابق ذكره في العام 2009م: (هذه الحضارة الزائفة التي تُغطّي وجه مدننا، الحضارة المقصورة على اللبس والتكنولوجيا القادمة من شركات لا تؤمن، حقيقةً، بكل الأيقونات التي تستفيد منها في إعلاناتها التجارية (الشركات عابرة القارات التي تمتدح الديانة والعادات والتقاليد على حسب أغلبيتها السكّانية في البلد الذي تبيع فيه منتجاتها، أو القضايا التي تدعمها على حسب الموضة _مثل موضة التعددية في السودان_ حتى لتعتقد أنك في مواجهة كائنٍ يظنّ، جازماً، بسذاجة الشعوب)، كذلك تقوم هذه الشركات بدعم الفعاليات الاجتماعية المشحونة بشراً، بغض النظر عن الفائدة الفعلية التي تتلقاها الجماهير (لا ننسى طبعاً فِرَق النِكات التي ستنتصب أمام العلامة التجارية للشركة).
تراجع الحيوان على حساب التّاجر، واستخدم التاجر في حربه ضدّ الحيوان جميع السبل والقوانين والأسلحة بلا هوادة، ذات الأدوات استخدمها التاجر لتضخيم مساحته داخل الضمير والجسد والفعل الإنساني، كان فعل حربٍ وتغذيّة (كما هو حال الحروب دائماً، تبيد وتغذّي مستفيدين مجهولين يبيعون سِلَعَ الحرب)، واستند هذا الصراع في الأساس إلى تكوين قاعدةٍ أخلاقيّةٍ صلبةٍ لما يُعرف بـ(تكويم الثروات)، على حساب أن يكون المُكوّم (ظاهرياً على الأقل) بعيداً عن الحيوانيّة التي جعلها المجتمع البشري أدنى أشكال التردّي الأخلاقي، حتّى أصبحت أسماء بعض الحيوانات سبّةً يمكن أن ينتج عنها اشتباكٌ في الشوارع العامّة.
لم يقتصر الأمر على الثروات فقط؛ وإنما طال الصراع الحيواني التجاري حدود الفقراء، حتّى جعلهم متمسّكين بفقرهم بصورةٍ مريبة، وهي صورة التغاضي الأعمى عن عجائب الثروات الأسطورية التي يحظى بها البعض، (مشكّلةً أجساداً أسمنتيّةً هائلة الطول)، مقابل شعاراتٍ تملأ الطرقات (أحياناً تحت شعار "تهذيب الذوق العام") القناعة كنزٌ لا يفنى!. _بينما لا نرى شعارات من قبيل (كلمة حقٍّ في وجه حاكمٍ ظالم) ملصقة في الطرقات!_. يقنع الفقير بفقره طالما أنه بعيدٌ عن الحيوان، فإن اقترب منها أحدهم، دهسوه بكل ما يملكون من قوّة، لأنه يمثّل النموذج الأفظع والأسوء من التّاجر مكوّم الثروات (المادية والمعنوية والقيميّة)، فقوة المجتمع لا تظهر إلا في مواجهة الحيوان، بينما كسب التّاجر الجولة، وارتفعت أفاعيله إلى المستوى المطلوب من الإعفاء الأخلاقي) انتهى.

أخيراً، وجب أن نقول بأن طريق التغيير واضح المعالم، وبعدين، من أين نأتي بسياسيين وقياديين لهذه المرحلة غير الذين هم في القيادة اليوم؟ هل سنخترع سياسيين جدد؟ أم سيُمحى تاريخ الصراع المرير الذي خاضته هذه الأجيال التي تعيش اليوم، بمختلف توجّهاتها وأعمارها، تاريخٌ ينتمي لعالمٍ مضى، وسيَعود صَدى.
خاتمة:
في كتابه عن الأستاذ محمود محمد طه، يُعلّق الدكتور عبد الله الفكي البشير على كتاب الأستاذ (الثورة الثقافيّة) ويقتبس منه، قائلاً: [دعا الأستاذ محمود إلى الثورة والتحرير وإحداث التغيير. ورفضَ الثورة العنيفة، وقدَّم بشأنها تنظيراً واسعاً ومفصلاً تضمنه كتابه: (الثورة الثقافيَّة)، الذي صدرَ عام 1972م. كتبَ الأستاذ محمود قائلاً: [إن الثورة حينَ تكونُ عنيفة، إنما تحملُ عناصر فنائها في عُنفها لأنها لا تملك، مع العنف، أن تعتدل. إنّ التحوّل، والتغيير، والثورة، التي تتم عن طريق الإقناع، والفكر، هي التغيير المأمون العواقب، الثابت، الذي يطرد كلّ حينٍ ولا يَنتكس. ولكن محاولة مثل هذه الثورة الفكريّة السلمية، إنما هي محاولة مكتوبٌ عليها الفشل، إذا جاءت في غير أوانها]. وعندما طَرَح الثورة الثقافيَّة، بيّن المقصود منها بتفصيلٍ وافٍ، فهو إلتقاء الفكر بالواقع. والمقصود هنا بالطبع هو الفكر "الثائر". فإذا التقى الفكر الثائر بالواقع فإن التغيير هو دائماً النتيجة. ولا يمكن إلا أن يكونَ تغييراً سريعاً بغير عنف. فـ"الثورة الثقافيّة"، على هذا هي التغيير السريع للأحسن، من غير عنف. هي تملك "سرعة" الثورة، وتبرأ من "عنف" الثورة. [فالثورة الثقافيّة بإيجاز هي علم، وعَمل بمقتضى العلم. وهذا ما به يحصل التغيير]. وعن الفكر الثائر وتغيير الواقع ومن أينَ يبدأ؟ كَتَب الأستاذ محمود قائلاً: [ولما كان الفكر الثائر هو الذي يُحدِث الثورة الثقافيَّة. يُحدث تغيير الواقع بصورة سلميّة، وثوريّة في آنٍ معاً. ولما كان الفكر الثوري فكراً دقيقاً، وأصيلاً، ونفّاذاً وسليماً، فإن تغييره للواقع لا بدَّ أن يبدأ من داخل النفس البشريَّة]. ثم ينتقل الأفراد المدعوين وتتسع الدائرة حتى تبعث القاعدة (قاعدة الشعب، أي شعب) لتتحرك لتُحدث هذا التغيير. ثمَّ علل لماذا تكون بداية التغيير من الداخل؟ قائلاً: [ذلك بأن أيّ تغيير يقتصر على الخارج. على البيئة البشريَّة، والبيئة الطبيعيّة ـ أعني: المجتمع، الطبيعة، لا يكون تغييراً سليماً، ولا مستقيماً، ذلك بأن التغيير الخارجي إنما هو صورة الداخل، أعني النفس البشريَّة، فإذا كانت النفس خَرِبَة بالأحقاد، والضغائن، والعداوات الرعناء، في كلمة واحدة: بالجهل، فإن الخراب يطبع بطابعه التغيير الذي يجري في المجتمع وفي البيئة].
ــــــــــــــــــــــــــــ
البوستر: خالد البيه

مراجع:
(رامبو وزمن القتلة): صدر الكتاب عن دار الجمل، الطبعة الأولى 2012م، ترجمة سعدي يوسف
د.عبد الله الفكي البشير
عن كتاب (محمود محمد طه والمثقفون، قراءة في المواقف وتزوير التاريخ). دار (رؤية) للنشر.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول مقدّمة طينيّة: سيَّارة الثورة التكنولوجيّة (1) كم من الوقت انتظرت لأكتب عن هذا النص العجيب، والذي لم يُعرَف كاتبه إلى الآن، وربما يتعلَّق الأمر بالظروف والملابسات التي نُشر فيها هذا النص الطريف جداً والتراجيدي بهاويةٍ سوداويَّةٍ مُضحكة. أفهم، كما كتبت كثيراً من قبل، والكثيرون من قبلي، أن اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان اندلع مع ثورة التكنولوجيا. ولكن لننظر إلى الثورة التكنولوجيّة الرابطة لأجزاء العالم بطريقةٍ أخرى، فبينما كان الرابط في الماضي عن طريق الحروب والاستعمار، رست السفن قبلهما، وأطلّ القطار مؤخراً، ثمَّ طارت الطائرة. لننظر لانطلاقة الثورة من بدايات القرن العشرين كـ(غِيْر) السيارة، وهو ما سأصل به لما ميَّز جيل مواليد الثمانينات. على الأقل في السودان. تنطلق السيارة في الغير رقم 4 بلا كابح وبسلاسة لانهائيّة، وهي المرحلة التي دخلت فيها الثورة التكنولوجيّة سوق التنافس الرأسمالي العابر للقارات. ففي العصر الذي يسمع به الناس بالتلفاز ويصلهم بعد مُختَرِعيه بعشرات السنوات، ولفئةٍ محددة جداً من البشر.

Life weapon’s dictatorship - By: Mamoun ElTilib

Life weapon’s dictatorship By: Mamoun ElTilib Translated By: Ibrahim Jaffar Introductions: ( Tayfara was a military slave of the Cavalry Divisions (the Divisions of Knights) which was relegated to the Sheiks-ministers of Hamaj .   He presumably has been enslaved during one of the sieges of Rajab to the Nuba Mountains within the course of his campaign against Kordofan, for he reached the age of reason in the era of Nasser wad Idris .   Imaginatively, we would correlate Tayfara’s memories of childhood with those of Dogalo Doguendan Ari ; a Nuba boy of the next generation who, like Tayfara, has been, as a young boy, enslaved and taken from his native land.   Dogalo , as a young man in his far-off exile, has vividly lived the memory of his homeland that has been sustained within his soul as a minute world of landscapes, distant and diminutive shapes; young kings wearing jewels and straddling horsebacks; steppes of azure color of bubbly plant under the pur