التخطي إلى المحتوى الرئيسي

انتِقَامَاتُ نِيل - نص جديد

 

انتِقَامَاتُ نِيل



 

 

إلى أُفَّه

 

 



(1)

كيف يَنتَقِمُ النيل؟

بالتعرِّي:

الاحتضانِ والانقسام،

بالقَتلِ والحَرق والحب،

بالاجتثاث:

 

"نيلان يَتَدحرَجَان إلى أبدِ الهاوية،

مُستحيلان يلتقيان بلا هدف".

 

لكنَّ زاويةً يذهبانِ إليها تُعلنُ وَتَراً جديداً من الأرض

تعزفُ به،

طيورٌ تقترحُ دروباً لهما،

بحيراتٌ قديمةٌ تُسرِّبُ الجنونَ عبرهما؛

شهادته ممهورةً بيد الأشجار العملاقةِ في المنابع،

والبذرة في النموِّ مُستمرّة:

النباتُ يتسلَّقُ أشباحها

ينتقي جذورها،

إنها الأرض تستجدي بناتها:

كيف ينتقمُ النيل؟

 

بالحياة؛

بتهديمِ قلبِ الحياةِ لتحيا.

 

(2)

 

الدوائر المُحكَمَةُ الدوَّارة

تستغرقُ أشلاءنا

تصنعُ عالماً إيقاعيَّاً منها؛

مَلحَمَةً نقتاتُ على أعيننا خلالها،

 لندرك ألمَ العدوِّ القريب، ومدى الحرب في البعيد:

قارَّةً قارّة،

كيف اقتادَتْنَا عَبرَ أخدودٍ عليم؟

عطاياها فرَّقتنا،

جنَّتُها قَسَّمَتنَا،

حبُّها كُلَّهُ فاضَ،

فاستسلم الطوفان لهديرِ روحه،

وأغضبَ قلبَهُ.

 

(3)

الغيومُ الصغيرةُ تجتاحُ نصلَ السكينِ القَاتِلة،

الجثّةُ تُمطِرُ، تحرثُ قبرها بمياهها، وتُبرزُ الشاهد:

 

"قلَّ أن يصرخ الصبيُّ الحفَّار خلال دموعه،

والسلام المُلقى من المودّعين يُنسى في زحمة الفرح العادي بحياةٍ أخرى، قادمةٌ وحالمة".

 

نرى جمال الشجرة المُراقِبَةِ بظلالها خطواتَ من غادروا،

نشعرُ -بإيقاع هاويةٍ- شهقاتٍ داخليّةٍ لقلوب المفقودين في حرب العالم المُستمرّ بألسنته الممتدّة الساخرة.

هناك،

في مُفتَرقِ الطُرق،

نحنِّنُ عيوننا بوجهٍ لن نراه،

وعندما نُديرُ ظهورنا عنهُ مَقبوراً،

ينبعُ نهرٌ من سلاسلنا الفقرية،

يتسامى حدَّ يُصبحُ أعيننا،

يتدنَّى، حدَّ يُصبح مجرفةً لنحت الأرض

وتثوير التراب وحَضِّه على الدفن.

 

مقابرنا يا مقابرنا

يا أحلامنا القادمة،

أسرّتنا الجميلة،

وحياتنا المستحيلة.

 

(4)

 

كيفَ ينتقمُ النيلُ من عَظمِهِ؟

بتحطيم أحلام أبنائِه؟

بتسيير العروسات ضحايا في ليالِيهِ المُهلِكة؟

بارتفاع أعماقه بالصراخ، هناك، في ميادين قلوبنا المُستنجدةِ به؟

بل النيلُ ينتقمُ بأهلهِ،

بسحلِهِم أمام مُلكِ العالم المُتهتِّك بتوتٍ مُعدمٍ بأوامر مُصنَّعة؛

بدفعهم "إلى التهلكة"،

نيلٌ في نهاية عالمٍ

-عمَّده أسطورةً-

لن يَقدِرَ أبداً على تذوّقه؛

عالمٌ لن يستحقَّ جريانه بين يديه.

 

أُطلق الطوفان ضدَّ حياة عالمنا القديم،

وآخرُ يدٍ تَخرُجُ بوداعٍ،

مَرِحَةً،

كانت من دماء النيل،

من انتقاماته:

هذه الجثثُ أمامكِ يا عيدتنا الضحيَّة،

آخر ثوراتُكِ يا إلهتي.

 ـــــــــــــ

 ­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­مأمون التلب

أغسطس – نوفمبر 2021م

 لوحة: عبد الله محمد الطيب (أبسفة)


 

تعليقات

  1. ‘براهيم جعفر26 ديسمبر 2021 في 5:38 ص

    "نرى جمال الشجرة المُراقِبَةِ بظلالها خطواتَ من غادروا،

    نشعرُ -بإيقاع هاويةٍ- شهقاتٍ داخليّةٍ لقلوب المفقودين في حرب العالم المُستمرّ بألسنته الممتدّة الساخرة." أينُكَ يا صاحب الكتابة الأحشائيَّة visceral؟!

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

The Beauty of the Silly - نجلاء عثمان التوم

 The Beauty of the Silly  نجلاء عثمان التوم إلى عثمان حامد سليمان   هل يمكن تشريح الأصالة؟ هل يمكن الكشف عن شعوبها الداخلية دون مجزرة؟ أنا مدفوعة هنا بالحجب الأصيلة التي يغزلها الغناء السوداني حول نفسه فيبدو لنا أحياناً شيئاً محيراً، لامع الحيرة . عندما نتجرد من العصاب الذي نسميه الفهم، وننطلق في رحلة متحللة من كل غاية، ونستمع إلى الأغاني السودانية بأرجلنا ومصاريننا، نشعر أن الطاقة التي تتهدج في الجو هي، ولا شيء خلافها، الهوية. لكن تظل أصالة هذا الغناء شيئاً غامضاً جداً وعصياً على التعيين. ثمة إستراتيجيات، أعتقد، أيّدت هذه الجذوة التحتية. أولاً تحتجب الأصالة، في معظم الأحيان، في تمويهات هزلية تنتجها قوالب شبه ثابتة محكومة بشهوة الرجز، والطلاقة الشعبية، والنبرة العادية في الكلام. فالغناء في الأساس هو مكان التغزل في اليومي والعادي في أقرب نسخه إلى الواقع. وكلما تشبثت الأغنية بسوقيتها المعروقة، كلما تصير إلى درجة من أصالتها الصحيحة. لكن الفن هو دائماً تدخل معقَّد، فلا نجاة من سطوته، لكن التحايل عليه ممكن. فعندما تبدأ أغنية ابتهالية، فيها تسجيل لمغامرة البلا...