التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فيما ما يزال صوت زيدان يسري في شراييني - عادل القصاص



فيما ما يزال صوت زيدان يسري في شراييني    
عادل القصَّاص
(دمعنة)
هذا النّص عبارة عن اعادة انتاج كتابية لبعض وقائع وردت خلال حوارات، للدقة ونسات لي مع الصديق يوسف درع عن علاقته بزيدان ابراهيم. كان يوسف درع، المعروف أحيانا ب "يوسف القصيّر" أو "يوسف الصغيّر"، يعمل سبّاكا في السودان، ويمارس الغناء في نطاق جدّ محدود. عقب قدومه الى أستراليا، واصل امتهان السّباكة في مدينة ملبورن. كما عرف أيضا بمساهماته الغنائية في عدد من مناسبات الجالية السودانية في المدينة، أحيانا في غيرها من المدن الأسترالية. له منّي، لأجل زيدان، دمعة ودندنة.
ــــــــــ

سنّار، المبتدأ
بعد أن لفظت مؤخرتي مقاعد الدراسة باحدى مدارس سنّارالابتدائية، عملت "صبي محل" لدى صائغ مشهور بسوق سنّار. كان معلّمي الصائغ – الى جانب براعته في مهنته – حاذقا في العشق أيضا. وعلي الرغم من أنّ الحظّ بخل عليّ برؤية عشيقتة، الّا أنّني كنت أتعرّف على حضورها من خلال البهاء الفريد الذي كان يجلو وجهه اذ تعانق أذنيه، عبرالسمّاعة السوداء السميكة لهاتف المحل، صوت العشيقة. ياطالما شاركت معلّمي في حبّ تلك الحبيبة لا لشئ الّا لأنّ الصائغ كثيرا ما كان يهيئ وجدانه، بنوع خاص من الوضوء، يتمثّل في تشغيل شريط كاسيت لزيدان ابراهيم قبل المهامسة الهاتفية معها. ثمّ ما تلبث عقيرة زيدان أن تتحوّل الي خلفية رقراقة وخافتة قليلا أثناء المهامسة، فالى نسائم، عطور وأضواء راقصة بعدها.

كان من اللافت كذلك أن معلّمي الصائغ كثيرا ما أفسح السماعة لأذنيّ حبيبته كي تتمرّغا في صوت زيدان دونما اشراف من فمه أو مزاحمة من أذنيه.
لقد كان معلّمي عاشقا حاذقا، كما كان صائغا بارعا.

ألآن أفكّر في أنّه ما كان من الممكن أن يصير هكذا – في الحقلين – بغيرما معونة جليلة من أغاني زيدان.

الشّقلة، خبر أوّل
خلال احدى سنوات النصف الثاني من ثمانينيات القرن الفائت، ذهبت لزيارة أقرباء لي في الشّقلة، التي كانت وقتها ضمن الأحياء التي يطلق عليها مصطلح "السكن العشوائي". أمّونة، احدى قريباتي هناك، كانت ملمّة بأعجابي بزيدان ابراهيم. فأرادت أن تعطّر حفاوتها بزيارتي بمفاجأة – وقد كان لها ذلك:

- يوسف، انت عارف انّو زيدان ابراهيم حيجي يسكن جنبنا هنا؟
- زيدان منو؟!
- زيدان ابرهيم
- تقصدي زيدان ابراهيم الفنان؟
- أيوه زيدان ابراهيم الفنان
- ويسكن وين؟
- في البيت الجنبنا ده...يعني حيكون جارنا طوّالي
- انت خرّفتي ولا شنو يا أمونة؟ شنو البخلّي زيدان بجلالة قدرو يخلّي العباسية ويجي جنبكم بيجاي؟
- انت ما عارف انّو بيتو بتاع العباسية بيت ايجار..وصاحب البيت رافع فيهو قضية عشان يطلّعو؟
- أيوه عارف...لكن حتى لو طلع من البيت داك، شنو البخليهو يجي هنا؟
- ومالها "هنا"؟
- لا، العفو يا أمّونة...بس يعني الحتّة دي ما مخططة وما فيها مواسير مويه اتوصّلت وما فيها خدمات أساسية تانية كتيرة...يعني هسّه انتي ذاتك يا أمّونة كان لقيتي سكن في المايقوما أو الحاج يوسف المخططة ديك وبي مواسيرها – مع انها ناشفة من عدم الموية – مش أحسن ليك من "الحتة أم حجّا للصهريج دي"؟...ده شي، والشي التاني أنا البتقولي ده زاتو ماداخل لي في راسي وبفتكرو اشاعة ساكت أو في واحد تاني اسمو زيدان، أو زيدان ابرهيم تاني، باني البيت ده وحيجي يسكن فيهو...يعني مافي زول تاني اسمو زيدان ابرهيم الّا زيدان ابراهيم؟
- زيدان تاني شنو يا يوسف؟ يا هو زيدان ابراهيم الواحد ده... وأنا شفتو، وكمان قابلتو، أكتر من مرة لمّن كان بيجي يتفقّد بيتو ده! وكان مكضّبني أمشي أسأل محمد زيدان!
- محمّد منو؟
- محمّد زيدان، الزول الهسّه ساكن في بيت زيدان
- وده ولدو كمان؟
- ياخي ولدو شنو؟ دا واحد معجب بي زيدان ومقعّدو حارس ليهو البيت لحدّي ما يرحل
- واسمو محمّد زيدان... والله صدفة عجيبة!
- ولا صدفة ولاحاجة...نحنا ناس الحلة السمّيناه محمّد زيدان عشان ساكن في بيت زيدان...وكمان ما كنا عارفين اسم أبوه...وبيني بينك، ما كنا محتاجين نعرف ليهو اسم أبو...وحتى لو كنا عارفين أبوه، برضو حنقوليهو محمد زيدان
- والله تمام...كان كده حأمشي أزوره بعد شوّيتين...وأخش بيت زيدان للدنيا والزمان!

وبالطبع لم انتظر حتّى تمضي الشوّيتين ولا حتى شويّة واحدة. كان بيتا ذا مساحة واسعة (قلّصت فيما بعد، عقب مجئ التخطيط العمراني للمنطقة) وقد شيّدت جدرانه بالطوب الأحمر، بينما عرشت غرفه بالزنك، غير أن فتحات نوافذه كانت خالية من النوافذ وقد غطّت بقطع من الخيش. تلقّفني محمّد زيدان بحرارة. وبعد أن غمرني بآيات الترحيب، لم يستطع التحكّم في شغفه باسماعي بعضا من أدآته العنيدة لأغاني زيدان بالاضافة الى محاولاته المستميتة في العزف على العود. وفيما تواترت زياراتي اليه بعد ذلك – آملا طبعا في مصادفة تجمعني بزيدان – تحوّلت زياراتي الى بيت أمّونة الى شبه غشوات.

للاعراب
فيما كان الصادق المهدي مهموما بالتنقيب عن رفاة عمّه الهادي ونقلها الى ما ينبغي أن يكون محلّا لرد الاعتبار، كان الأمر القضائي المحتوم باخلاء منزل العباسيّة ينهش روح زيدان ابراهيم.

الشّقلة، خبر ثان
في المرة الوحيدة التي حاولت أن أحضّ قدميّ على شئ من الديموقراطية، بالذهاب الى بيت أمّونة أوّلا، هتفت الأخيرة في وجهي بوجه مفعم بالبشارة:

- زيدان رحل يايوسف...جاب أمّو، أمّ الحسين، وجاب عفشو وجا!

وبعد دقائق، بعثت أمّونة بابنها الى صالون زيدان حاملا اليّ طاقيّتي، حلقة من المفاتيح ونظّارتي الشمسية، كما لفت انتباهي الي مزقة في كم قميصي تسبّب فيها نتوء في الباب الخارجي لبيت أمّونة.

الشّقلة، خبر ثالث
خلال زيارة تالية اليه، سألني زيدان:

- انت شغّال شنو يايوسف؟
- سبّاك
- ياسلام! انت كان كدا ما وقعت لي في جرح!...تعرف، الخرطوش الأسود التخين بتاع ماسورة الحوش مقطوع أو ما موصّل كويس...ولمّا المويه تجي بالليل بنصبح نلقى الواطة كلها مبلولة...تقدر تعمل ليهو حاجة؟
- أيوه، طبعا ياأستاذ..ده خرطوش البوليسين..تصليحو ما صعب

وبعد أن عدّلت وأعدت احكام توصيلة خرطوش البوليسين، قلت لزيدان:

- بالمناسبة أنا عندي هواية الغنا ياأستاذ..وناوي استمر فيها..ممكن تنصحني بي حاجة تنفعني في المجال ده؟
- الغنا احساس يايوسف

لم يزد على ذلك أية جملة اضافية. أزعم أنّ تأمّلي المستمر في مقولته تلك أعانني كثيرا، ليس في تطوير علاقتي بالغناء فحسب، وانّما بأشياء أو ممارسات أخرى كقيادة السيارة، الطعام، ومهنة السّباكة التي ما أزال منخرطا فيها.

للاعراب
كان باب بيته بالشّقلة مفتوحا دائما. لم يكن يغلق الباب الخارجي ليلا حتى يتيح لعدد غير قليل من جيرانه، وغير جيرانه كذلك، ممن لم تكن شبكة المواسيرقد وصلتهم بعد، من المجيئ لأخذ مؤونتهم من الماء، الذي لم يكن يسري في مواسير بيت زيدان الّا ليلا.

ملبورن، خبر رابع
قبيل ستة أو سبعة شهور من وفاته، قالت لي أمّونة عبر الهاتف:
- زيدان قال لي: (أمّونة، انت وين قريبكم السبّاك، "يوسف الصغيّر" داك؟..لي سنين ودنين ما شفتو).
- قلت ليهو (يوسف ليهو زمن في استراليا).
-قال لي: (عليك الله أدّيني تلفونوه عشان أتصّل بيهو).

ملبورن، خبر خامس
في هاتف تال، علمت من أمّونة بأن زيدان سافر الى القاهرة، برفقة عبدالله الكردفاني، للعلاج. طلبت اليها أن تجيئني برقم هاتف له أو للكردفاني أو لأي مرافق آخر له في القاهرة لأنني أردت الاطمئنان على صحته كما كنت أرغب في أن ارسل اليه مبلغا متواضعا من المال. قبل أن تتمكّن أمّونة من الحصول على مثل ذلك الرقم، علمت بأنّ زيدان قد فارق "دنيا المحبّة" من وسائل الاعلام. فهاتفت أمّونة. وكان من بين أسئلتي الأخيرة لها:

- انت هسّه وين ياأمّونة؟
- في بيت البكا طبعا..البكا ما بكانا يايوسف.

للاعراب
أؤمن بأنّ العدّ التنازلي لحياة زيدان بدأ لحظة أن أرغم على انتزاع جسده من العبّاسية.

تعليقات

  1. رحم الله زيدان وكل قبية المبدعين السودانيين الذين لا يجدون في بلادنا ما يستحقون الا بعد رحيلهم .... ولكن يبقى ارثهم الابداعي خالدا مدى الدهر يلون وجداننا وهذا ما يستحقون وما نستحق

    ردحذف
  2. رحم الله زيدان الهرم الشامخ والذي سيظل في وجدان كل زول مرهف بالإنسانية والزوق الشفيف زيدان إبراهيم كنت مفوهاً بالصمت كان الصمت منك بياناً أسأل الله أن يدخلة فسيح جناتة ويتقمدة برحمتة

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول مقدّمة طينيّة: سيَّارة الثورة التكنولوجيّة (1) كم من الوقت انتظرت لأكتب عن هذا النص العجيب، والذي لم يُعرَف كاتبه إلى الآن، وربما يتعلَّق الأمر بالظروف والملابسات التي نُشر فيها هذا النص الطريف جداً والتراجيدي بهاويةٍ سوداويَّةٍ مُضحكة. أفهم، كما كتبت كثيراً من قبل، والكثيرون من قبلي، أن اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان اندلع مع ثورة التكنولوجيا. ولكن لننظر إلى الثورة التكنولوجيّة الرابطة لأجزاء العالم بطريقةٍ أخرى، فبينما كان الرابط في الماضي عن طريق الحروب والاستعمار، رست السفن قبلهما، وأطلّ القطار مؤخراً، ثمَّ طارت الطائرة. لننظر لانطلاقة الثورة من بدايات القرن العشرين كـ(غِيْر) السيارة، وهو ما سأصل به لما ميَّز جيل مواليد الثمانينات. على الأقل في السودان. تنطلق السيارة في الغير رقم 4 بلا كابح وبسلاسة لانهائيّة، وهي المرحلة التي دخلت فيها الثورة التكنولوجيّة سوق التنافس الرأسمالي العابر للقارات. ففي العصر الذي يسمع به الناس بالتلفاز ويصلهم بعد مُختَرِعيه بعشرات السنوات، ولفئةٍ محددة جداً من البشر.

Life weapon’s dictatorship - By: Mamoun ElTilib

Life weapon’s dictatorship By: Mamoun ElTilib Translated By: Ibrahim Jaffar Introductions: ( Tayfara was a military slave of the Cavalry Divisions (the Divisions of Knights) which was relegated to the Sheiks-ministers of Hamaj .   He presumably has been enslaved during one of the sieges of Rajab to the Nuba Mountains within the course of his campaign against Kordofan, for he reached the age of reason in the era of Nasser wad Idris .   Imaginatively, we would correlate Tayfara’s memories of childhood with those of Dogalo Doguendan Ari ; a Nuba boy of the next generation who, like Tayfara, has been, as a young boy, enslaved and taken from his native land.   Dogalo , as a young man in his far-off exile, has vividly lived the memory of his homeland that has been sustained within his soul as a minute world of landscapes, distant and diminutive shapes; young kings wearing jewels and straddling horsebacks; steppes of azure color of bubbly plant under the pur