تنقيب الظلام
هَدرُ الأرض(1)!
مأمون التِّلب
(1)
إنَّ عالمَ اليوم لا يبدو غريباً فقط، بل إنَّ غرابَته
تُلْمَس؛ إنّها قابلةٌ للتنفّس والتفحّص الدقيق، وربما مَثَّل ذلك الحسنة الوحيدة
التي غَنمناها من هذا الجنون المُزركَش. فكم هو ساحرٌ أن يكون كلّ هذا التغيير
والاقتلاع الدموي لجذور القيم؛ كلّ هذا التدمير الخالد لما تُشيرُ إليه اللغة من
معانٍ ـ كالعدالة والحريّة والمساواة ..إلخ ـ كم هو ساحرٌ أن يكون (طبيعيَّاً)!
بمعنى أن الطبيعة فيه قد تَبَدَّت، وانقَشَعت تلك الغشاوة العظيمة التي لا تزالُ
تعبثُ بقاياها المهترئة بمجريات الحلقة النهائيَّة لهذه السلسلة المتّصلة من بناء
وهَدم القوانين! بدأت تزول بخشونةٍ أَورَثت العيون النّاظرة إلى الحقائق جراحاً
مرعوبة من بديهيَّة تلك الحقائق وطبيعيّتها، ذلك ما أعني: إن عالم اليوم مكشوفٌ
بوقاحةٍ لم تَعد تستطيع الحفاظ على الوعود المُلقاة على قارعة الحياة بغرض إقناع
البشر (أن هذه الوقاحة تُسمَّى حياةً). ذلك ما تُنادي به الطبيعة وذلك ما تَبحث
عنه؛ أن يُدرِكَ البشرُ فداحة القانون الذي إليه ينتمون، ومن إشاراته يُلهَمون؛
قانونٌ قادَهم عبر هذه القرون إلى برِّ المُكاشفات الصريحة بين مكوّنات التراب
والنّار والماء!.
(2)
أعني أن البَشَر يفهمون العالم من خلال الطبيعة التي مَنَحتهم
هذه اللغات ذات الأبعاد الألف ـ موسيقى الطبيعة العجيبة ـ وبمجرّد اختلالها
الرَنَّان وتحوّلها إلى مادَّةٍ غير قابلةٍ للفهم بالنسبة إليهم فإنهم، مباشرةً،
يُصابون بحالةٍ من انعدام الطاقة والقدرة على الشعور والتبلّد التّام؛ فالمنطق
يبدء بالتلاشي، والمعاني التي تُشيرُ إليها لغاتهم تضمحلّ. ذلك لم يحدث في تاريخ
العالم بهذا الوضوح، وبوجود كلّ هذه الأدوات الاتصاليّة الموغلة في الاستحالة
والغرابة، الأمر الذي يُشيرُ ـ إن وضعنا في الاعتبار القدرة الإبداعية الخارقة
للذهن والجسد البشري ـ إلى أن المُقبل ليس نهاية العالم، وإنما بدايته. لقد برزت
إلى الواقع مجموعاتٌ متعدّدة وطبقاتٌ كثيفةٌ للوعي بالعالم. ذلك ليس جديداً على
البشر، فهم، ومنذ أن بدأت عمليّة التعبير عن الفكر من خلال أدوات اللغة والفن،
كانت لديهم هذه الأحلام والرؤى المُوثَّقة لمن أراد أن يتّبع طريق المعرفة (والذي
سيُكوِّن خطّ المواجهة الأوّل مع التوحّش المريب للأذهان البشريَّة اليوم). لكنّ
الجديد هو أن الذين اعتُبِرُوا ـ على مرّ التاريخ ـ عاديّون وبسيطون ولا يَفهمون
لغات أشكال الوعي بالعالم ـ وذلك طبيعيٌّ إن واجهنا معدّلات الأميّة بشقيها اللغوي
والتكنولوجي، والمحاربة التّامة لمصادر المعرفة في الحالة السودانيَّة ـ قد
تقدّموا خطوةً لملامسة هذا الوعي من خلال الإشارات الواضحة الجليَّة، والتي لن
تحتاج لشرح أستاذٍ أو سياسيٍّ أو مثقّف: إنها احتياجات الجسد الأساسيَّة، وبلغةٍ
أخرى: احتياجات (طبيعة) الجسد الأساسيَّة؛ وذلك يشمل أجساد كلّ شيء (حيوان، نبات،
جماد). لذلك قلنا أن المكاشفة دَخَلت حوش الطبيعة!.
(3)
لم نعد فقراء لوحدنا في هذا العالم ( والـ"نا"
تعود إلى "العالم الثالث" الخيالي ذاك) كما كانت أدوات تشكيل الوعي
البشري تدّعي من قبل. بل لم يعد الفقرُ فقراً ماليَّاً فقط، بل، وأخيراً، خَرَج
الفقر بأشكاله المتعدّدة المتخفّية: منذ فقر المعنى إلى الفقر الذهني الذي يدفعُ
بإنسانٍ أن يُسلِّم نفسه، بنَفسِهِ، إلى مؤسساتٍ وظيفتها هي قتل البشر ـ وليس
الدفاع عنهم كما قيل في الماضي ـ أي ما الذي يدفعنا لنؤمن بالحياة اليوم؟!. إن
الدّول "المُتقدِّمة" ظَنَّت أنّها، بترسيخ مفاهيم الديموقراطيَّة وحقوق
الإنسان، وتقديمها طازجةً لمواطنيها؛ ستعيش في سلامٍ بعد ذلك الجنون الذي خاضته
إبَّان حروبها (العالميَّة؟): إن بذور الثورة ضدَّها، القادمة إليها من التركيبات
المُريبة التي صاغت بها مستعمراتها السابقة؛ والإفراز المُستمرّ لمجموعات
المهاجرين الفقراء من جميع أنحاء العالم (الآخر؟)، لم تُدرك أن تلك البذور موجودةٌ
في ثقافات تلك الشعوب ودياناتها لأنها ـ البذور ـ تَكمن، أصلاً، في طبيعة التركيب
البشريّ ذاتها. ذلك أنّ الوعي الذي يَتَفهَّم بهِ سكَّان ذلك العالم المُتقدّم
معنى الحياة تجذَّر فيهم منذ ميلاد الجنون الذي أطاح بآلاف الأجساد البشريَّة؛ ذلك
يحدث اليوم، ولكن، ليس هنا فحَسب، بل هنا وهناك وفي كلّ مكان: لقد تَخَرَّب العالم
يا ناس، والأرض غاضبة من شدَّة شعورها بالهَدر والنسيان!.
(4)
إننا، بذلك، نستطيع أن نتفهم تماماً المعنى الذي أراده
الروائي جورج أوريل عندما قال: ([ولن تَكونَ مبالغةً إذا قلت أن الحرب قد
حَوَّلت الناس إلى مثقَّفين، لكنها جَعَلَت منهم عَدميين لفترةٍ من الزمن. الناس
الذين كان من الممكن، بالطرق العاديَّة، أن يُمضوا حياتهم بنحوٍ هادئ حوَّلتهم
الحربُ إلى متمرّدين. ما الذي كان يمكن أن أكونه لولا الحرب؟ لا أعرف، لكنه شيءٌ
مختلفٌ عمَّا أنا عليه الآن. إذا حَدَث ولم تقتلك الحرب فمن المؤكَّد أنها ستجعلكَ
تفكِّر؛ لا يمكنك بعد ذلك الاضطراب المعتوه الذي لا يوصف أن تستمر باعتبارك
للمجتمع شيئاً أبديَّاً غير قابلٍ للشك، كالهرم. لقد صرت تعرف أنه مجرَّد خَرَاب](1)
وهذه (الطُرُق العاديَّة) التي تَحدَّث عنها أورويل أعلاه
هي، في ما أرى، قلب (النظام العالمي) النابض، وهي البوَّابة التي دخلت من خلالها
الأساليب التي شكَّلت وعي الناس بالعالم، ولا تزال تستهلك ذاتها حتَّى أصبح ذلك
القلب ناضباً؛ بالتغوّل الوقح على القيم البشريَّة التي صِيغَت من خلال الثقافات
وتواريخ الحروب، واستغلالها لتَمشِيَةِ هذا السوق العالمي الخسيس، والذي فَرَّغ
السياسة من محتواها، وأَبلَغ المؤسسات القائمة في عالم اليوم بمستقبل زوالها
المحتوم. وكأني بالأرض تَصرخ: [إنني منفصلةٌ عن العالم، إنني أجتاحه، أكوِّمه
بعيني إلى ما لا نهاية؛ حيث تتعتَّقُ الحرب، وتراكَ العين في ماء عينها. يا إنسان،
أيُّها الكاهن الأكبر؛ الطائر المهجور من قِبَلِ أعشاشه المُتعدِّدة؛ بيضها يحلِّق
معَك، حتى وإن كان البيض يتخيّل أنه يطيرُ معكَ فإنه يطير؛ في قلبك رأيناه ينضج في
بركة الدماء العظيمة، وبيديك أخرجت قبوره المهروسة؛ ذلك الصفار الذي لن يتكرَّر
أبداً، أبداً، أتسمعني؟ أيّها الخَوّان؟.
متى ستسنفد خياراتك؟ لأن الأشياء ستتغيّر بسرعة، كذلك فإنني
أرقدُ على سريرك، وعواء البراكين يحيط بالملاءات، حتَّى النوافذ أغلَقَت أشباحها،
وعكست صورة الفضاء تنتفضُ على صفقةِ الشجرة الواقفة أمام البيت تنتظر خروجنا؛
لتَلحمنا بها، بجذورها وأنخاب جفافها المستمر؛ حيث يحتفل المجنون مع أصدقائه؛
يتقاذفون بـ(التُّرَب)؛ بأحشاء أحبّائهم النابضة داخل النبض الأكبر؛ هذه الأرض
أيّها الخَوَنة، إنني الأرض.
حتَّى وإن لم أكن من لابدَّ أن أكون، فأنَّني عتبةٌ في
طريقه؛ لأنه سيكون كثيراً؛ الكثير من الأفراد؛ هذه الأرض هي الكثير من الأفراد
والجمادات والكائنات الحيّة، فما هو أشدُّ دليلاً على (التعدّد) من هذا؟ لأن
التعدّد حجب صورتي، وها أنا ذا أسعى بوعيي لتوحيد هذا التعدد، مع توحيد هذا الفن
العظيم؛ أعني مخلوقات الإنسان].
هامش:
(1) من رواية [الخروج إلى الهواء الطلق] ـ ترجمة عبد الله
فاضل، طبعة دار (بدايات) للطباعة والنشر والتوزيع.
ــــــــ
نُشِرَ المقال بملف (تخوم) الثقافي ـ صحيفة الأحداث السودانيَّة ـ الثلاثاء 3 أبريل 2012م.
ــــــــ
نُشِرَ المقال بملف (تخوم) الثقافي ـ صحيفة الأحداث السودانيَّة ـ الثلاثاء 3 أبريل 2012م.
تعليقات
إرسال تعليق