الإنسان العادي
مُجتزأ من رواية (الأبله) لدوستويفسكي
ترجمة: سامي الدروبي
هناك أناس يَصعب على المرء أن يقول فيهم شيئاً؛ يَصفهم
ويُصَوِّرهم دفعةً واحدةً في أبرز ما يخصّهم وأوضح ما يُميّزهم. أولئك هم الذين
اصطُلِحَ على تسميتهم باسم ‘‘العاديين’’، وهُم أكثريَّة المُجتمع في الواقع. إن
الأدباء يَجهدون، في رواياتهم وأقاصيصهم، أن يختاروا نماذج اجتماعيَّة وأن يرسموا
هذه النماذج الاجتماعيَّة في أقوى صورة جذابة وفي أجمل أداء فني. وهذه النماذج لا
تُوجد في الحياة كاملةً ذلك الكمال إلا استثناءً، غير أن هذا لا يَنفي أن الأفراد
الذين يُصَوَّرون هذا التصوير هُم أقرب إلى الواقع من الواقع نَفسه إن صحَّ
التعبير. إن شَخصيَّة بودكوليوسين قد تَشتَمل على مبالغة من حيثُ هي نموذج، ولكنها
ليست وَهماً صَنَعه الخيال. ما أكثر الأذكياء الذين ما إن عَرفوا شخصيَّة
بودكوليوسين التي صَوَّرها جوجول في مسرحيَّته حتى وَجدوا بين أصدقائهم ومعارفهم
عشرات بل مئات من الأفراد يُشبهون هذه الشخصيَّة كما تُشبهُ قطرة من الماء قطرةً
من الماء! بل أن هؤلاء الأذكياء كانوا، حتى قبل قراءة جوجول، يعرفون أن أصدقائهم
يعرفون بودكوليوسين. وإنما كان الشيء الذي يجهلونه هو الاسم الذي يجب أن يُسَمَّى
به هذا النموذج. في الواقع، يَندر أن يهرب خطيب من النافذة لحظةَ الزواج، ذلك أن
هذه الحركة لا يستطيعها كل فردٍ من الناس، بصرف النظر عن أي اعتبارٍ آخر. ومع ذلك
ما أكثر العرسان من أناسٍ يستحقون التقدير ولا يعوزهم الذكاء، الذين أحسّوا لحظة
زواجهم بالحالة النفسية التي أحسَّها بودكوليوسين. كذلك لا يصرخ جميع الأزواج في
كلّ مناسبةٍ قائلين: (لقد أردتها يا جورج داندان). ومع ذلك ما أكثر ملايين وملايين
المرات التي كَرَّر فيها أزواج الكون بأسره تلك الصيحة الصادرة من القلب، بعد
انقضاء شهر العسل أو حتى غداة يوم الزفاف!.
لا حاجة بنا للإفاضة في الكلام عن هذه المسألة، وحسبنا أن
نُقرِّر أن الخصائص البارزة المُمَيِّزة التي تَتَّصفُ بها هذه الشخصيات تكون في
الحياة الواقعيَّة تأقلّ نتوءاً، ولكن جميع أمثال جورج داندان وجميع أشباه
بودكوليوسين موجودون في الواقع: يضطربون من حولنا ويسعون أمام أعيننا، ولكن بسمات
مُخفَّفة وملامح ملامح مُطفّفة. (....) غير أن هناك سؤالاً يطرح نفسه علينا
دائماً: ما الذي يجب أن يفعله كاتب الرواية الذي يُقَدِّم لقرائه أشخاصاً
((عاديين)) تماماً، في سبيل أن يُثيرَ اهتمام هؤلاء القراء بهم ولو قليلاً؟ إنه
ليستحيل على كاتب الرواية أن يحذفهم من قصَّته، لأن هؤلاء الناس العاديين هم في
كلّ لحظةٍ وفي أكثر الأحوال النسيج الذي لا غنى عنه، والذي عليه تتسلسل وقائع
الحياة وأحداث الأيام؛ فإذا حذفناهم كنَّا نُجرِّد الرواية من صفة الصدق ونحرمها
من ميزة الانطباق على الحقيقة. هذا عدا أن ملء الروايات بنماذج أو حتَّى شخصيات
غريبة خارقة إنما يبعدها عن الواقع فلا تحظى بتصديق القارئ وقد لا تُثير شوقه. وفي
رأينا أن الكاتب يجب عليه أن يحاول اكتشاف ألوان طفيفة فيها إثارة للاهتمام وفيها
إيحاء وإلهام، حتَّى لدى الأشخاص العاديين. ولكن حين يحدث مثلاً أن تكون الصفة
الأساسيَّة لبعض الأشخاص العاديين هي أنهم عاديّون على نحوٍ ثابت دائم مستمر، أو
أنهم رغم جهودهم التي يبذلونها للخروج من العاديَّة والعاميَّة ما ينفكّون يرجعون
إلى العاديَّة والعامية رجوعاً لا برء منه، فإن هؤلاء الأشخاص العاديين يكتسبون
بذلك صفة النموذج، ويُصبح لهم ما للنموذج من قيمة، فهم عندئذٍ يُمثِّلون العاديَّة
التي لا تريد أن تَبقى ما هي، وإنما تهدف إلى بلوغ الأصالة بأيّ ثَمَن، وتسعى إلى
تحصيل الاستقلال مهما كلَّف الأمر، دون أن تملك للوصول إلى ذلك أية وسيلة من
الوسائل.
(.....)
لا شيء أدعى إلى انزعاج المرء، مثلاً، من أن يكون غنيَّاً،
وابن أسرة كريمة، وحسن الهيئة، وعلى جانب من ثقافة، وغير غبي، بل وطيّباً، ولكنه
لا يملك أية موهبة، ولا ينفرد بأية سمةٍ شخصيّة، حتّى ولا بأية صفةٍ مميّزة، وأن
لا يكون له تفكيرٌ خاص، أي يكون شخصاً (كسائر الأشخاص) تماماً: فهو غني ولكنه ليس
مثل روتشيلد، وهو ذو اسم مُحترم لكنه لم يتميّز في يومٍ من الأيام بشيءٍ يجعله
مرموقاً؛ وهو حسن الهيئة لكنه لا يُحدِث في من يراه أثراً كبيراً؛ وهو قد نال
حظَّاً مناسباً من التعليم لكن هذا التعليم لا يجيده نفعاً في شيء؛ وهو لا يخلو من
الذكاء لكنه لا يملك أفكاراً شخصيَّة؛ وهو صاحب قلب حسَّاس لكنه لا يتمتّع بنفسٍ
كبيرة عظيمة، وهكذا دواليك من جميع النواحي.
وبين الناس عدد كبير من هذا النوع من الأفراد، أكبر كثيراً
مما يمكن أن نتصوَّر. وهم ينقسمون كسائر البشر إلى فرقتين أساسيَّتين: فأما الأولى
فهي فئة الأفراد المحدودين وأما الفئة الثانية فأفرادها (أكثر ذكاء). إن أفراد
الفئة الأولى أسعد من أفراد الفئة الثانية. إن الإنسان (العادي) المحدود الذكاء
يستطيع بسهولة أن أن يظنّ أنه فذٌّ وأصيل، و يمكن أن يطمئن إلى هذا الظن ويسعد به.
لقد كَفى بعض آنساتنا أن يقصصن شعرهنَّ، وأن يضعن على أعينهنَّ نظارات زرقاء، وأن
يعلنّ أنهنّ من أصحاب المذهب العَدَمي، حتَّى يقتنعن فوراً بأن هذه النظارات
الزرقاء تهب لهنّ (آراء) شخصيَّة، و(اعتقادات) خاصَّة. وكفى فلاناً من الناس أن
يكتشف في قلبه ذرَّة عاطفة إنسانيَّة وطيبة حتى يتأكَّد فوراً من أنه لا أحد يشعر
بمثل بهذه العاطفة وأنه رائد من رواد التقدّم الإنساني. وكفى فلاناً الآخر أن
يتمثّل فكرةً سمعها من الناس أو قرأها في أحد الكتب دون أن تكون لها بداية أو
نهاية، حتَّى يتخيّل أن هذه الفكرة خاصّة به، نابعة منه، قد نَبَتَت في فكره وخرجت
من رأسه. هذه حالة مُدهشة يُمكن أن نصفها بأنها وقاحة السذاجة إن صحَّ التعبير.
ونحن نُصادفها دائماً رغم ما قد يبدو من أنها لا يُصَدَّق وجودها في الواقع. إن
هذا النوع من الإيمان الساذج المتكبِّر الذي يُلاحظ لدى رجلٍ أحمق لا يساوره شك في
نفسه ولا في موهبته، قد وصفه جوجول وصفاً رائعاً في النموذج المُدهش؛ نموذج
الليوتنان بيروجوف. إن بيروجوف لا يُراوده الشك في أنه عبقري، بل أكثر من عبقري.
وهو يبلغ من قلّة شكّه في هذا أن السؤال كلّه لا يطرحه على نفسه أصلاً؛ عدا أنه لا
شكّ لديه البتّة. وقد رأى الكاتب الكبير نفسه مضطراً، آخر الأمر، أن يؤدّبه بعقوبة
الجلد، إرضاءاً للشعور الأخلاقي لدى القارئ. لكنه لاحظ أن بطله لم تؤثّر فيه
العقوبة كبير التأثير، ولم يَزد بعدها على أن نَفَضَ جسمه، وأخذ يأكل فطيرة صغيرة
استرداداً لقواه، لذلك لم يملك الكاتب إلا أن يهزّ كتفيه ويترك قراءه حيث هُم.
لطالما أسفت على أن جوجول جعل رتبة بطله بيروجوف رتبةً منخفضة، ذلك أن هذا الشخص
يبلغ من امتلائه بنفسه أنه لا شيء يمنعه من أن يظنّ نفسه قائداً عظيماً على قدر ما
تضخّم الشارات على كتفيه بحكم القِدَم في الخدمة والارتقاء في الوظيفة.
ماذا قُلت؟ أَقُلت يظنّ نفسه؟ أَلاَ إنه كان سيؤمن بذلك
إيماناً لا يراوده فيه أي شكّ: فما الذي ينقصه، إذا هو سُمّي جنرالاً، من أن يكون
قائداً عظيماً؟ وما أكثر الذين يخفقون بعد ذلك اخفاقاً رهيباً في ساحات المعركة؟
وما أكثر أمثال بيروجوف الذين وُجدوا بين الأدباء والعلماء وأصحاب الدعوات منّا؟
وُجدوا؟ بل وما زالوا يُوجدون حتماً..
تعليقات
إرسال تعليق