التخطي إلى المحتوى الرئيسي

زهرةٌ مظلمة - حوار مع الكاتب محمد الصادق الحاج




 ننشر هنا حوار للشاعر محمد الصادق الحاج أجراه معه القاص عيسى الحلو لصالح الملف الثقافي لجريدة الرأي العام أبريل 2007م.





الكتابة الجديدة في السودان؟.

عطفاً على محاذير النظر إلى الفنون التعبيرية في حدود سياقاتها الجغرافية حصراً، فمما لا تنكره السلامة أن الكتابة، بأي اعتبار قيست، أجغرافياً أو وجودياً؛ زمنياً أو غيبياً، لم تكن، يوماً وأينما، بمعزل عن سلسلة التراكم الطويلة من المحاولات البشرية والملاحظات والمعلومات والبيانات وأعمال المشاركة والاتصال والتعبير التي أنجزها البشريُّون بعمر وجودهم، فلا هي محض (الكتابة الجديدة) ولا هي محض (جديدة) ولا هي (في السودان) بهذه البساطة. فإن احتكمت في لحظة إلى جِدَّتِها، فما ذلك إلا عملاً بواقع مفارقتها واختلافها، وحتى ذلك يتم من خلال اتصالها بمنجزات المعرفة الإنسانية ولجوئها إلى استخدام وسائط المشاركة التي تكمن جذورُ نشأتِها في القِدَم. وإن احتكمت إلى (في السودان) فَطَائِفٌ من العرفان بجميل يسهل التنكر له، وعلى السودان أن يفخر بأن أتيح له هذا الشرف. ليست (تجارب الكتابة الجديدة في السودان) لهواً يُزْجَرُ عنه؛ وليست مذهباً يذاد عنه بآلات منهجية. هي شيء مِنْ صُلْبِ الوجود البشري على هذا الكوكب بما هو طبيعي وفريد بذات المقدار. كتابةٌ، هي احتفاء بالشغفِ الأرضيِّ ورعشةِ الحياةِ ورعشةِ الموتِ وبغتةِ اللطمةِ والزمجرةِ الطَّرُوبِ والقَرْعِ الساخط المستنـزَف المستعِرِ العاوي على كل باب مفتوح لا يؤدي ولا يَستحقّ. كتابةٌ منحازة لحرية المحاولة والاختيار والاختلاف وقوة الممكن. كتابةٌ منحازة للبشري ضالاً في ظلمات غريزته وفي ظلمات عقله، سائراً على الأرض تحت أعراس الخيال والفيزياء، تهديه مساقط الممكن تحت جلده إلى بشريته، لا يَعِدُ بأقلِّ منها ولا يقبل أقَلَّ منها؛ تهديه إلى جذوته وحشيةً ومستأنسة. كتابة خاضعة لكل ضلال يريها طرفاً من المجهول؛ متطرِّفةٌ لكل شرارة حية وضارية ورائية. كتابةٌ، هي الجائحة الأرْضية؛ مفاتيحها وأقفالها، أبوابها وسكانها، داخلها والخارج. وليمة الضِّرَام، لا أحد يأكل من ما يليه، كلٌّ يُوَلِّي وجهه أين يريد، ولا ولاية. كتابةٌ في سرعة الخطف، لوثة بانيةٌ مهتاجةٌ تصطكُّ بكلِّ (هيهات) وكلِّ (مرحباً) ولا تقبل أيَّاً منهما. كتابة منحازةٌ للبشريِّ قادراً على التعدين في كلِّ أرضٍ وفي كلِّ سماء؛ في كلِّ واقعٍ وفي كل خيال، في كل شيء وفي كل لا شيءٍ... إلى غير نهاية، لا باحثاً عن غاية ولا عن مفقود؛ ولكنه يفرح ويحتفل وينتصر لكل عِرْقٍ نادر تناله يده الداخلية المفعمة في مِنْجَم الوجود. هي تنجيم في الصخر وفي الفضاء، وهي أمر جِدِّيٌّ وحقيقي ويُعَاشُ بكل خلية حيَّة، فيه جاذبية الخيال ونوره وظلامه، ودمه ولحمه، وابتعاده واقترابه؛ فيه جاذبية الفن والتلقائية، فيه جاذبية القوة والضعف، فيه جاذبية الحب والغيرة، فيه جاذبية الحكمة والاندفاع. وعن ما يشبه ذلك حدَّثنا (أورهان باموق) في روايته (اسمي أحمر) عن حكيمين اسْتَبَقَا على مَنْ منهما سيُمِيتُ الآخرَ أولاً وبطريقة رشيقة وسريعة. الأول منهما أتى بالسم أمام أخيه فمزجه له في كوب الشراب وقدمه له فما تردد هذا في تناوله منه بكل وقار ثم شربه، وأثناء سريان السم في بدنه اتجه إلى زهرة في الحديقة وهمس لها بـ(شِعْرٍ مُظْلِم) ثم قطفها فمدها للأول الذي سقط ميتاً من الخوف قبل أن يتناول الزهرة من يد أخيه. أمثولةٌ (مُظْلِمَة) تضع الفنان في فم الرعشة. هل شِعْرٌ مطلقاً استطاع أن ينفِّذ فاعليةً كهذه؟، وإذا لم يستطع فكيف لا زال الشعراء يكتبون ما لا يستطيع؟. بطريقة ليس منها مناص؛ (رشيقة وسريعة)، بحيث الشراسة كلها تتفرَّج، على الشعر أن يعمل. ليس الشعر الظريف؛ أنيس الْمُتَّكَآت المستأنسة، عروس المجالس، بل (الشِّعْر المظْلِم)؛ الشعر الذي يصعق، يميت ويفعل بالبشر وبالأشياء الأهاويل، وهو ما ليس أقل منه مطلوباً من شاعر، فهل؟. أرى أن ما يشهده (السودان) الآن من تجارب مفارِقة في الكتابة، وأعني "الكِتَابَة"، هو انتصابةٌ لم يسبق له أن شهدها بهذه القوة وهذه الحيوية الدافقة والتي هي في ذروة انعقادها على جسد اللحظة والمكان تقترب من تلك (الزهرة المظلمة)، ويبقى أن تُحْدِث رعشتها الفاعلة وهو ما يُلزِمُها باستخدام الأدوات الممكنة كلها لتحصيل احتمالاتِ جِمَاحِها. ومن هذا الهمّ نشأت (مبادرة برانا الثقافية) بمشاركة مجموعة من الأصدقاء في سانحة إيجابية أحسبها قادرة على إحداث فرق جوهري في الفضاء الأدبي في السودان، فالذهاب بها أبعد، وكان أن وضعتنا المبادرة يداً ليدٍ في مواجهة أعباء الممكن بدلاً من أعباء المتعذر التي اكتوى بها من الفنانين ما لا استثناء في ظني؛ فكانت أحد أقوى الدوافع التي حثتنا على المبادرة ببذل أيدينا ووقتنا لنحمل أعباء الممكن التي وإن بدت للوهلة الأولى أقسى من أعباء المتعذر إلا أن الضرورة الماسة للقيام بهذا الجهد تجعله في حكم القضية المصيرية. بالإضافة إلى ما بأيدينا من قدرات عملية تعيننا على تنفيذ الكتب تقنياً من جمع وتدقيق لغوي وتصميم داخلي وتصميم أغلفة؛ إلى كافة شروط السلامة الفنية الأخرى التي يجب أن تتوفر لكتاب جيد، وهي ما عانينا من غيابها مطولاً في السودان؛ حيث يا ما تسبب استهتار الناشرين وموظفيهم في قتل كتاب جيد برداءة الإعداد الفني، وذلك هدف جزئي والاقتصار عليه ليس إلا عملية مؤقتة، إذ نطمح بعدها في أن نمضي بذلك إلى غاية المؤسسة الثقافية المتكاملة والتي تضم في هيكلها دار الطباعة والنشر معطوفة بالتأكيد على ظنون طيبة تراودنا في القيام ضمن خطتنا بنشاط مفيد في مجالات السينما والتصوير وكافة فنون التشكيل البصرية. بقي أمر تتوجب الإشارة إليه وهو أن (مبادرة برانا الثقافية) لا تشكل أي نوع من المذهب الفني أو المدرسة الأدبية كما فهم البعض خطأً، وليست التسمية (برانا) إلا حقلاً دلالياً حاشداً بِكَمٍّ من الإحالات ما إن استعرضت كلها لإدراك الصورة الأشمل لما ذهب الظن بأحد مذهب اتهامها بأنها تقصي وتنعزل وتنحصر وووو، وإذا كانت ثمة تلاقيات عامة يشار إليها من الخارج بصفة (التيار) تنتاب الضالعين في تكوين ما سُمِّيَ بـ(الكتابة الجديدة في السودان)، فإن عضوية المبادرة لا تلزم نفسها بغير كونها مجموعة تهدف إلى القيام بإنجازات عملية على صعيد العمل الثقافي العام مع انحيازها النوعي إلى التجارب التي وصفتها آنفاً.

ماذا عن النقد ومعرفته بهذه التيارات الجديدة في الكتابة؟.-

مما آسَفُ له أنَّ مَن عُمِّدُوا رُوَّاداً لهذه الأحوال الحرة في الكتابة باللغة العربية كانوا هم الذين اقترحوا التسمية القاصرة (قصيدة النثر) اعتماداً على ما يناظرها باللغة الفرنسية؛ على سبيل التصنيف الأدبي ظاهرياً، وبمثابة الحماية الاعتبارية لوليدهم من بطش أبطال التفعيلية والخليلية الذين هلَّلوا في أعماقهم طرباً، فهذا شيءٌ يُسمَّى بِدِقَّة وتمكن منهجته وتحديده والإحاطة بحدوده وإنتاجه بمواصفاتٍ حسبما تملي قوالبه، وهو إذاً يحتوي ثقباً لإحكام اللِّجَام. فغدت السجالات حول تسمية (قصيدة النثر) تشغل قسماً قائماً بذاته ضمن مجموع الملاحظات النقدية التي كُتبت حولها بُذلت فيه مجهودات كان أحرى أن تُبذل في تأمل جوهرها، كما أن قصور التسمية غدا طرفاً من عملية الإيقاع بالمحاولة الوليدة في قبضة احتياطات عمومية أقل فاعلية في إدراك طبيعتها قياساً بالاحتياطات والإعدادات الداخلية التي تشتغل على أساساتها وتجعلها (هذا) لا (ذاك). لذلك حين تبدر مني على هذا الجانب تسمية (قصيدة النثر) فإن (الأحوال الحرَّة في الكتابة) هي التي ترنُّ من أجلي على الجانب الآخر منِّي الذي أستقبله ويستقبلني. ذلك لأننا حين نتحدث عن (قصيدة النثر) دالِّين بذلك على كون هائل من الأحوال والتجارب والرؤى والتعقيدات وطرائق التفكير المختلفة عن بعضها، فإننا بذلك نرضى بحرمان أنفسنا من إمكانات نظرية ومعرفية وتحليلية مهمة ومفيدة نُضْرِبُ عنها بقبولنا لهذه التسمية المحزنة التي تجعلنا كمن يحشر موسم الزراعة كله في بطن دودة الحقل بقرينة الخضرة في كليهما. هذا الحادث الذي لنا أن نسميه إخفاقاً في إدارة القابلية أودى بالبعض إلى تنكُّب السبل والمقايسات والمعاظلات النظرية التي هي من أساسها قائمة في موضع آخر غير الموضع الذي تبزغ فيه الزهور المظلمة لـ(قصيدة النثر)، فكانوا ما أشبههم برجل على حمار يَخُبُّ به في الطريق وهو يمدّ يده البعيدة عن أشجار البستان يريد قطفاً، فكيف؟، بينما ذهب البعض الآخر إلى الأخذ بتلابيب (قصيدة النثر) مقرِّعين بحجَّة أنها تنام في بستانها المعلَّق منصرفة عن الحاصدين خاطبي وُدِّها، وإن هم إلا متبطِّلون يتخبطون في عجز أدواتهم عن نوالها. وإلى هذا الإخفاق في إدارة الممكن أعزو عدم نشوء حركة نقدية ناجحة موازية لهذه الكتابة وقادرة على الانتصاب في الموضع الصائب، سواء أكان ذلك في السودان أو البلدان الكاتبة باللغة العربية بعامة.

قصيدة النثر، لماذا تُحَارَب؟.

أصحيح هذا؟. أرى أن ما يتراءى لنا في ثياب الحرب، هو في الحقيقة شاكلة مِن تَقَرُّبٍ حميم يبذله مَن يخالون الأرض راغت بصُلبها وتخلَّت لمجرَّد أنهم عجزوا عن الامساك باللجام وإيقافها عن الاندفاع إلى ما يقودها إليه الجِّماحُ من احتمالات غير مشروطة. هنالك ميثاق بشرِيٌّ غير مكتوب تم التراضي عليه تلقائياً لحماية قدسية المشاركة والمعنى والتواصل بين البشر، وهو ميثاق يتنامى كل يوم ويتجدد منذ أولى شرارات الاضطرار إلى الجيران؛ يُنقَّح ويُزاد، وكل ما يبدو حرباً هو تفصيل ضئيل من نسيج الخلافات الناجمة عن صعوبة الإتفاق كلياً بين المتجاورين الطبيعيين على عمليات التنقيح والزيادة. البعض يصلون إلى حد يظنون معه أن بنود ميثاق التراضي هذا قد بلغت أوجاً من الصلاحية لا ينبغي بعده أن يخضع الميثاق إلى أية إضافة أو أي نقص. بعض آخر، يصعب إرضاؤه، لا يكتفي ولا تبرد يده، يريد ويستطيع، لا يغريه الأمان ولا الخطر، ولا يرضى بأقل من الكون لإنفاقه الخاصّ؛ بإسراف مَن يعرف أن لا زمن أطول من النبضة، ولا سماء أعلى مِن جِلْدِه. حُمَاةُ الميثاق القدامى؛ العارفون أن لا أحد يَنتظر، أعاجزاً كان أم ذا شِدَّة، يريدون إذاً الإلتحاقَ بما فاتهم؛ يريدون البقاء بالقرب، يا لحزنهم، بما أنهم فقدوا امتياز التوجيه لعلهم على الأقل يستطيعون التحكم ولو جزئياً في نوعية الحركة. محاولتهم هذه للالتحاق، فيما يتعلق بما يسمَّى بـ(قصيدة النثر) ليست أكثر من محاولة لاستجلاب الرأفة لأنفسهم والأمان للحدود التي بها يَحْتَمون، يقعون على (ما يَحْدُث) بصدورهم كالمهاجمين، ولكن هي طريقة في العناق، وإن اشتدَّت، لا لإزالة عمليات الزيادة والتنقيح التي نُفِّذَت بغير مصادقتهم، بل لتحديدها واستيعابها في زمرة الوصفات الكلاسيكية وإدراجها في نظام المعنى ثم رفعها بعد ذلك على أرفف المطبخ الثقافي المكتظَّة بالغالي والرخيص؛ بالفاعل والباطل من منتجات التراكم المجازية التي سوف تلتحق بها (قصيدة النثر) يوماً لا محالة، طالت انتصابتها على رحم الأرض أو قَصُرَت. على أن هذه الأحوال الحرة في الكتابة طلقةٌ وتريد أن تطيش؛ إلى غير نهاية، و(غير نهاية) هذه هي أن تصيب، فإن أصابت أدرَكت سقفاً وما كان نموُّها بعد ذلك إلا أفقياً قاصراً ومكبلاً بالحدود ومنغمساً في عطن الدمن الذي هو ذاته واحد من معاقل الممكن، إذ مثلما تولَد فيه الخضراء الباطلة الكسيحة يولَد فيه أيضاً ما يَهِيجُ وما يهتزُّ وما يربو، وما تَطْفُرُ منه كل الجِّماحات اللاحقة التي تخرق السقف واللاسقف بانتصابات شديدة، وعلى هذا تعتمد أية محاولة. ولكن إن صَحَّ مطلقاً أنَّ هنالك حرباً تتعلق بالكتابة، فهي الحرب التي هي الكتابة نفسها؛ داخلها، في صميمها المتوحش. الحرب في أحشاء كل رعشة تخليقية نفاذة حيث الطواحين تعوي والبهائم تلمع. الحرب في الطرب البدائي القوي للرعب يستعر على تراب كل عمل فني فعَّال. الحرب في سهر الحيوان العجيب الذي يقال له (الروح)، داخل كل حقلٍ، هائجٍ هو نفسه من اغتلام فروع الخيال الحيَّة آكلة نظرات البشر وهي تمطر. ومع هذا كله، إن صَحَّ أنَّ هذه الأحوال الحرَّة عرضة للحرب من الخارج، فما ذلك إلا لكي تنتصر.



ما هي العوامل التي أدت لهذه التحولات في الكتابة من (قصيدة التفعيلة) إلى (قصيدة النثر)؟.

إن العوامل التي أودت بالكتابة باللغة العربية إلى هذا النـزاع الواهي بين مناصري التفعيلية والخليلية ومناصري قصيدة النثر ليست في ظني ذات صلة شرطية بالتعاقب ولا بالتطور ولا بالأفضلية حتى، ذلك لأن اشتراط الحديث عنهما معاً مرتبطتين كمرحلتين تولدت إحداهما عن الأخرى أو تطورت عنها قد قعد بالسجال المعرفي حولهما دون المساس بالمعدن الباقي لكل منهما؛ وذهب به مذاهب لم تُفْضِ إلا إلى مزيد من الوهن في التعدين، الأمر الذي يقتضي تَرَوِّيَاً في النظر إليهما وانتباهاً إلى وضعية التجاور التي وَسَمَت وجودهما باعتبارهما ساكنين مختلفي المشارب والطباع ارتضى أحدهما أن يستضيف الآخر في أرضه. (قصيدة التفعيلة) تشبه هبوطاً اضطرارياً على كوكب لا يلائم احتياجات منفِّذي الهبوط، فكانت إقامتهم على الكوكب قصيرة شحيحة القدرة على الاستكشاف، فاقتصر إنجازها على وصف منطقة الهبوط، ولا زال الماكثون منهم ومن نسلهم يعيدون وصف ذات المنطقة باختلافات طفيفة وتنويعات ذات ظُرْفٍ محمود. أما (قصيدة النثر) فتبدو لي جذرية الوجود في الكوكب وآخذة عميقاً في مناطق مظلمة من الزمان والفضاء والمادة؛ إنها تبدو لي شيئاً قريباً من النظام البيئي بطبائعه الشَّتَّى. فإذا كانت (قصيدة التفعيلة) قد أخفقت في أن تجذِّرَ وجودها في كوكب الشعر وماتت تحت سمائه المكهربة، فإن (قصيدة النثر) هي الشعر ذاته، عاشت مع البشرِيِّ أول لحظة تأمُّلٍ نَفَّاذةٍ يختبرها، حملت معه إحراجات الوجود المؤلمة، في كنفها أودع البشريُّ ملاحظاته القيمة حول الطبيعة والمجهول والطاقة، ومعها امتلك خيال الفرد يداً رهيبة تتجوَّل في عواطف وحواسّ الآخرين وتأسرها، فاستوعبت نماذج قصيدة النثر الأولى رسائل الآلهة والكهنة وتصوفات الفلاسفة والأنبياء وصلوات الخائفين والمتوحِّدين والمتوعِّدين، وكان عليها أن تعاني كثيراً لتخرج من كنف الخطاب القدسي الذي احتكر بسائق الوحى والاختصاص حق استخدامها كمعطى ومكافأة من أجل المميَّزين الأذكياء القادرين على غزو حواس الناس بتصوراتهم وإقناعهم بأنهم مختارون من قَبِيلٍ أعلى لنشر الكلمة، هذا إلى أن انقطع إرساله، وما عاد أحدٌ بعدها يدري إن كان يستطيع تناولها لاستخدامات بشرية أم لا، فكانت التجارب العرفانية، المتَّصِلة تبادلياً ببؤرة النظام الكلي المزعومة، هي تربة الخيال الخصبة التي استعيدت فيها الأحوال الحرَّة في الكتابة على نحو بشري فعَّال وقادر، إلى أن حَلَّت هذه التجارب البشرية ذاتها في منزلة المحتكر الأولى ولفترة طويلة بذريعة أنها سُلْطَةٌ مهداةٌ حاملةُ أسرار تُحْجَبُ عن نوع من الناس سُمِّيَ بـ(العَوَام)، ويُعطى جزء منها إلى نوع آخر سُمِّي بـ(الْخَاصَّة)، واحتفظ (العارفون!) لأنفسهم بامتياز اعتباري غريب جلسوا بموجبه على عرش ما سموه بـ(خاصَّة الخاصَّة) مُدَّعِين أنهم يكتبون عن ألْسِنَةِ الحقّ يخصّهم بعلوم وجودية دون غيرهم لاعتبارات فَصَّلوها وقَدَّروا أنَّ عامَّة الناس لا يستحقّون أن ينالوا هذه المعارف الغِرَائِيَّة التي لم تكن في واقع الأمر غير تجارب تعدينية قاسية في مناجم الخيال والتفكير البشريِّ انتظمت راضية في سلك المتعالي وانتسبت إليه واستخدمت مكاسب خضوعها له في فرض هيبة ما كان أغناها عنها، وهو امتياز استغنت عنه بالفعل التجارب اللاحقة التي سُمِّيَت بـ(قصيدة النثر) بعد أن استرَدَّت للبشرِيِّ حرية الكتابة وطلاقة الخيال إلى غير حدّ ودون اللجوء إلى اسْتِمَاحَات اعتذارية بالمطلق من شاكلة (الفتوح) و(التجلِّي) و(الكشف) و(الحقيقة) و(السر) و...!. هي أحوال بشرية صِرْفَة، يكابدها بَشَرِيُّون خاضعون لكل الاضطرارات اليومية التي يخضع لها غيرهم من ناس الأرض.

محمد الصادق الحاج

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول مقدّمة طينيّة: سيَّارة الثورة التكنولوجيّة (1) كم من الوقت انتظرت لأكتب عن هذا النص العجيب، والذي لم يُعرَف كاتبه إلى الآن، وربما يتعلَّق الأمر بالظروف والملابسات التي نُشر فيها هذا النص الطريف جداً والتراجيدي بهاويةٍ سوداويَّةٍ مُضحكة. أفهم، كما كتبت كثيراً من قبل، والكثيرون من قبلي، أن اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان اندلع مع ثورة التكنولوجيا. ولكن لننظر إلى الثورة التكنولوجيّة الرابطة لأجزاء العالم بطريقةٍ أخرى، فبينما كان الرابط في الماضي عن طريق الحروب والاستعمار، رست السفن قبلهما، وأطلّ القطار مؤخراً، ثمَّ طارت الطائرة. لننظر لانطلاقة الثورة من بدايات القرن العشرين كـ(غِيْر) السيارة، وهو ما سأصل به لما ميَّز جيل مواليد الثمانينات. على الأقل في السودان. تنطلق السيارة في الغير رقم 4 بلا كابح وبسلاسة لانهائيّة، وهي المرحلة التي دخلت فيها الثورة التكنولوجيّة سوق التنافس الرأسمالي العابر للقارات. ففي العصر الذي يسمع به الناس بالتلفاز ويصلهم بعد مُختَرِعيه بعشرات السنوات، ولفئةٍ محددة جداً من البشر.

Life weapon’s dictatorship - By: Mamoun ElTilib

Life weapon’s dictatorship By: Mamoun ElTilib Translated By: Ibrahim Jaffar Introductions: ( Tayfara was a military slave of the Cavalry Divisions (the Divisions of Knights) which was relegated to the Sheiks-ministers of Hamaj .   He presumably has been enslaved during one of the sieges of Rajab to the Nuba Mountains within the course of his campaign against Kordofan, for he reached the age of reason in the era of Nasser wad Idris .   Imaginatively, we would correlate Tayfara’s memories of childhood with those of Dogalo Doguendan Ari ; a Nuba boy of the next generation who, like Tayfara, has been, as a young boy, enslaved and taken from his native land.   Dogalo , as a young man in his far-off exile, has vividly lived the memory of his homeland that has been sustained within his soul as a minute world of landscapes, distant and diminutive shapes; young kings wearing jewels and straddling horsebacks; steppes of azure color of bubbly plant under the pur