التخطي إلى المحتوى الرئيسي

شيء - محفوظ بشرى


شيء
محفوظ بُشرى 


(1)
يقوم الليل مقام المصغي؛ تهبط ذراته تباعاً وأنا أمدّ عينيَّ إلى هناك، حيث يضيع في ذاته، فلا أعرف إن كان ما يُوجَد في العلوِّ السحيق ليلٌ أم سواد.
وإن فَرْقاً ليفصلهما؛ ألمسه مثلما أُدرِكُ التبغ بفمي أو بيدي في سكونٍ مُحفِّزٍ للتجلِّي، ألعَق بكريته وأقول ما يُودِي إلى أنَّ البداية سوداء في أصلها، أعفّ عن أخذه بعهدٍ بيننا، فالليل للنظر.
في القديم اخترقتني النجوم ، وأنا أخرج بها من حدود التأمل نحوي، إلى اكتناه النقاط. النجوم ترتيب الإله لأعينه الراصدة، ترى حلمي أكثر مني؛ قبلي، وتفرض نَقشَتَها على الأسماء والبُعد.
لو طالتني النجوم الآن لأصبح الليل صوفياً، ولسَرَت كهرباء الرعب من تحقّق الأحلام فيَّ ، ولتكسرت أجزاء المصغي إلى جزر تعجزني عن الغرق.

(2)
 والليل في تكوينه أولٌ بلا جدال؛
تعرف ذلك الكائنات التي ترعبني وأنا أُغمِضُ في حضوره،
تعرف ذلك العوالم التي تسير في عشواء المفاجأة،
وأعرف، أكثر من غيري،
أن الخلاء والليل لا ينقصهما سواي،
لأجتاز من معرفتي بالأشياء إلى معرفةٍ مغايرةٍ بالأشياء.
الليل أول،
والليل خام اكتشافي لمعدن الغريزة.
الليل أوّل ناصلٍ من غيابٍ أبديٍّ للذي يبحثُ عن جوابٍ للسكون.

(3)

يسمعني بمسلكه في السمع؛ يُدنِي سواده الجِسْمِيّ بأبوابه، ويريني جوهره نازَّاً وقته مثلي،
كَكُلِّ كائنٍ خالد؛
له قدرة الانبعاث من وهدة الدحر إلى اعتقال المسار.

(4)

الليل سِمِّيع ويدرك غربتي،
وأعي أن انتصاف مجيئه شيءٌ لَهُ الحلكَّة،
وانقسام حاجته؛
إلى ليلٍ ومَلْيُولٍ - كمايَ - على شخوصٍ يهدهد - مدركاً - غربته به.

(5)

وفي الليل اقترابٌ من تَنَوّع الرفقة،
وَلَعٌ بالسَمَر،
جنونٌ بالمكاشفة.
كما الليل غَسَّال لما لا نَعِي وجوده فينا،
وعراف بمنظومة عارفي ما السؤال.
والليل متجاوزٌ عَنَّا توصيفنا إياه بالوحشة والثقل،
وأن نرى ذراته مخلوطة بالهموم التي مِنَّا.
والليل عدوّ الظل،
لذا في الليل تكون أنت واحداً من غير آخرٍ نهاريّ؛
تكون أنت بكلّ (أنا) مخاتلة تَخَبَّأت فيك،
كل هَوَام روحك يخرجها فيه،
كل كوابيس ما اختَزَنْت تخرجُ في خلاء الليل وتزاول لك. لكنك تراها واحداً واحداً،
تصير خفيفاً من ضجَّة الضوء،
تصير أقرب من نقاط التقائك بالشرود.

(6)

كل الليل لَك.
طبقةٌ واحدة،
وعمقٌ لأعلى.
كل الليل يكفي كل ليل لترجع،
مختلفاً،
حاذقاً،
أرقَّ.

(7)

في الليل يسهل الاختيار؛ تسيل الخيارات عاريةً فترى المثير، وتجتاز طفولتك إلى الحبو والدقة.
والليل في أصله معادلة الأبيض.
الأبيض خالٍ من النقش،
خاوٍ من خيال الأشكال الموحية،
ومريض،
لأنه أبيض.
الليل نقيضٌ كَبَتَتْه الضجة - مؤامرة النهار - فأعرف موطئه.
وأعرف أن النهار مَحضُ ليلٍ ليس فيه ليل.

(8)

يُحَلِّق بصري بسقف الليل عابراً خطوط الظلمة، يحاول الوصول إلى يقينه لأنه يدرك سَلَفاً كيف أنه لا يقين.
لذة النظر ضد لذة اللمس، وهما قطبان في موجةِ ما نسميه الوَصف. لذة النظر تعني فضاءاً كاملاً من الاحتمالات، عكس لذة اللمس التي تدوم قليلاً كأي لذةِ اكتشاف.
إني أرى الليل عضواً عضواً، وتثيرني رقصته البدائية من أوّله الأخمص حتى آخره العَفَوِي، أدمن ملمسه، إذ لا شي غيره يَجمَعُ اللمس بالنظر.
يعتريني الليل، يعتري صغيراتي اللائي لم يكتبن، ينزل كالبرد في كل المكان، يحسر وجهي عن مماثلةٍ غائبة تُسَمَّى التوحد. يعلمني الليل كيف أكون صديق نفسي، ويُرَمِّم ما هدمته وقاحة النهار الغيورة.
الليل،
ترياقٌ شَاقٌّ ومسهبٌ في الدلالة.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محفوظ بشرى عبد الرحمن: شاعر وكاتب من السودان، له زاوية ثابتة بالملف الثقافي لصحفة السوداني كلّ يوم سبت. مدونة محفوظ بشرى، هورقيليا: http://hurqilya.blogspot.com/
نُشر هذا النص بمجلة (ألف) الالكترونيَّة على الرابط:
http://aleftoday.info/node/2540
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

إجلالٌ ونفورٌ أمام كلام الربّ: حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة"

تنقيبات طينيّة (13) خطاب أَ ماديو : " إجلا لٌ ونف ورٌ أمام كلام الربّ " حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسييه مأمون التلب مُقدِّمة طينيَّة: (1) أ عود مرةً أخرى إلى باب (تنقيبات الطينيّة) لقراء مد وّ نتنا ، حيث أزور كُ تُ باً وكُتّاباً آخرين ، وفي الحقيقة فإن الدَّاعي لدخول الباب عادةً يأتي من نصوصٍ وكتاباتٍ أثَّرت فيَّ حدّ الألم والمعاناة والفرح واللذة الهائلة، وغيَّرت فيَّ بعمق، وصراحةً لم يحدث ذلك من ذ مدّة؛ صحيح أنني استم ت عت بمئاتٍ من الكتب الجيّدة خلال سنوات ال ا نقطاع عن العودة هنا، تعلَّمتُ الكثير وانتقلتُ إلى عوالمٍ وبلادٍ وأناسٍ آخرين، إلا أنني فوّتُّ "قطار الليل إلى لشبونة" إلى هذه اللحظة، والتي يتكاملُ فيها عالم القطار مع عالمي الخاص وحياتي الراهنة؛ حيث العجز لا اليأس، والمراقبة لا المُشاركة، أي التقدّم في العمر محسوساً بقوّة، وبالضبط عند مشاهدة الاستبسال الخارق لأجيال اليوم وحلمهم ببناء عالمٍ جديد! إنه لمن المُدهش، بعد أكاليل الهزائم التي تطوّق أعناقنا بأشواكها، أن ترى الحياة تتجدَّد رغم أنف عدميّة وانغلاق آمال عالم ا...