التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مقدمة في تاريخ الأرض لسيدنا: مازن مصطفى



سيأتي يوم في مستقبل الأرض، تشتهي فيه الأرض حريتها فتمحو التراكم كله تواطئاً مع ضجرها من لا خلاصهاالأزلي؛ ستحاول أن تعيد كل شيء إلى الأرض، ستعيد الطبيعة للطبيعة والطقس لرغبات الطقس، والبشري لما قبل البشري، تحديداً للنقطة التي تسبق بداية إدراك البشري لنفسه مباشرة، حين نظر كائن ما فأبصر، أي توهم أنه أبصر: هذه هي النقطة المعنية؛ نقطة قبل التوهم مباشرة، قبل ابتكار أخيولة، أي اللحظة التي فيها ستحدث الأرض.

في اللحظة التي كانت الأرض ستحدث فيها، كانت كائنات تذوب لتغدو الأرض. نعم؛ هي كائنات ذابت، وليس الذوبان دقيقاً لوصف ما جرى للكائنات، بل ربما التحول، بل ربما الانتقال، بل ربما اللاشيء، ربما كانت كائنات لحظة أن اشتهت الأرض حريتها هي الأرض نفسها. الأرض هي كائنات لحظة ما؛ يبدو هذا مُقنعاً.

إذن الأرض هي كائنات عديدة اشتهت حريتها؛ لهذه الكائنات تاريخ طويل، فقبل أن تشتهي حريتها كانت تحيا على ظهر صيرورتها نفسها، وكانت تشهد على صيرورتها لدرجة أنها بزمان ما ارتدت الملابس وصنعت الألة والمزمار، ثم لم تلبث أن تخلت عن الألة وعزاء الكسل وتفرغت لجعل صيرورة المزمار حياتها وبالطبع خلعت الملابس: الأرض كلها ركضت وهي بلا ملابس وكانت تغني موسيقى بتنويعات هائلة الخصب؛ كان هذا في الوهلة التي تفرغت فيها الأرض لتخصيب نفسها، وبلغ من هول الرغبة أن حدوثها في أحدهم، ما أن يبرق، حتى يتغير العالم وفقاً لرغبته، وتصير الأرض كائنات عديدة اشتهت حريتها.

هذه، يا سادتي، القصة كلها، ولست متأكداً الآن من صحة التفاصيل، خاصة تلك النقطة التي أزعم بها أن للأرض ضجر من اللاخلاص الأزلي. من قال هذا الكلام الفارغ؟ كل لحظةٍ خلاص، وكل ألم عذوبته فرح. ألمك معلومٌ يا صاح، وما إحساسك بأنك تتألم وحدك إلا حيلة الألم ليدوم ويتفاقم، لتدوم عذوبته ويدوم انكارك، يا مُنكر يا لئيم، وتتمتع بذلك.

الأرض غبطة، وإذا لم تكن غبطة فكيف أحدثت نفسها ولم تحدث صورة أخرى؟ أهي تتحول؟ التغيير! أهاااا، سمعت هذه الكلمة وكنت بمثل حالك، وكنت مفعماً بالأرض، أي بالكائنات التي تشتهي حريتها، فأحببتها. كنت أظن لهثنا طلباً للتغيير تعبير عن رفضنا لتعاستنا في العالم، ثم تغيرت حقيقتي بدورها، وصرت أبصر كيف أن طلبنا التغيير هو غبطتنا مثل كل شيء آخر، تعبير عن سعادتنا بالأرض: نطالبها أن لا تكف عن البهجة. نطالب تعاستنا أن تغدو تعاسة أخرى لأننا لا نطيق أن تظل تعاستنا في حالها، لأننا لانطيق أن يظل شيء في حاله، لأننا لا نعرف حال الشيء ولا الحال الذي نريده عليه ولا طبيعة سعينا ولكننا نسعى فنحن غريزة لا أكثر ونحن غبطة دائمة ونصارع ضد ألمنا وطربنا على حد سواء، وهذه الغبطة غبطة. أليس طلب التغيير طلبٌ للصيرورة؟ طلب التغيير طلب مشروط للصيرورة؛ ومتى كان طلب الصيرورة غير مشروط؟ إن طلب الصيرورة ،نفسه، اشتراط على الصيرورة.

وهل "حرية" لتغدو الأرض كائنات تشتهيها؟ هذا المجاز: "حرية"، هو تنويع على المجاز تعقيد. والتعقيد هو الطلب المُلح الذي في مكابسته للحظة ما، تصيرُ نفسها كل لحظة، حدثت أخيولة. هل سمعتم بالمراهق الذي، عند تجريبه البنقو لأول مرة، انفجر؟ تخيلته في التو، وتخيلت أن تخييلاً ما بداخله ( وهو غالباً صورة لمراهق يُدخن البنقو) صنع تخييلاً ما غاية في الهياج، يصف العمليات التي يحدث بها هياج المراهق فيه، ويصفها في مرآة تعكس الأبعاد فيكون مثل طائر يظن نفسه يصطاد، بصدره المُريّش، السهام المسرعة الثاقبة، فانفجر المراهق غبطة وتطاير من صدره الريش؛ ربما التقطت أخيولته المجاز حرية داخل المجاز أخيولة نفسه، فارتبك منتشياً وتطاير من صدره الريش. ما علينا؛ لنقل أن المراهق تطاير من صدره الريش ونخلص؛ و كان ذلك في نفس اليوم الذي عرفنا خلاله الأرض بمستقبلها.
.

تعليقات

  1. رغم طرافة الفكرة، طرافة هنا بمعناها الصحيح وليس الشائع إذ ليس للمرء أن يتوقع أي قدر من المرح في مثل هذه الأمور، رغم الطرافة إلا أن الأمر أعقد من ذلك إذ أنك فيما يبدو تتحرك في مسطح معرفي أو في سهل فكري ربما كان سفحاً لجبل إحتمالات. فأنت تتحرك فيما يبدو في الحاضر وتتحدث عن الماضي كما لو كان هو الامس. ولا يبدو في توصيفك أي إعتبار لأشياء لا وجود لها، ليس هناك موازٍ لما تراه وبالتالي فأنت مصاب بأحادية تجعل من تعقيدك أعلاه أقل بكثير من ما هو حادث، يحدث، سيحدث!

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول مقدّمة طينيّة: سيَّارة الثورة التكنولوجيّة (1) كم من الوقت انتظرت لأكتب عن هذا النص العجيب، والذي لم يُعرَف كاتبه إلى الآن، وربما يتعلَّق الأمر بالظروف والملابسات التي نُشر فيها هذا النص الطريف جداً والتراجيدي بهاويةٍ سوداويَّةٍ مُضحكة. أفهم، كما كتبت كثيراً من قبل، والكثيرون من قبلي، أن اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان اندلع مع ثورة التكنولوجيا. ولكن لننظر إلى الثورة التكنولوجيّة الرابطة لأجزاء العالم بطريقةٍ أخرى، فبينما كان الرابط في الماضي عن طريق الحروب والاستعمار، رست السفن قبلهما، وأطلّ القطار مؤخراً، ثمَّ طارت الطائرة. لننظر لانطلاقة الثورة من بدايات القرن العشرين كـ(غِيْر) السيارة، وهو ما سأصل به لما ميَّز جيل مواليد الثمانينات. على الأقل في السودان. تنطلق السيارة في الغير رقم 4 بلا كابح وبسلاسة لانهائيّة، وهي المرحلة التي دخلت فيها الثورة التكنولوجيّة سوق التنافس الرأسمالي العابر للقارات. ففي العصر الذي يسمع به الناس بالتلفاز ويصلهم بعد مُختَرِعيه بعشرات السنوات، ولفئةٍ محددة جداً من البشر.

Life weapon’s dictatorship - By: Mamoun ElTilib

Life weapon’s dictatorship By: Mamoun ElTilib Translated By: Ibrahim Jaffar Introductions: ( Tayfara was a military slave of the Cavalry Divisions (the Divisions of Knights) which was relegated to the Sheiks-ministers of Hamaj .   He presumably has been enslaved during one of the sieges of Rajab to the Nuba Mountains within the course of his campaign against Kordofan, for he reached the age of reason in the era of Nasser wad Idris .   Imaginatively, we would correlate Tayfara’s memories of childhood with those of Dogalo Doguendan Ari ; a Nuba boy of the next generation who, like Tayfara, has been, as a young boy, enslaved and taken from his native land.   Dogalo , as a young man in his far-off exile, has vividly lived the memory of his homeland that has been sustained within his soul as a minute world of landscapes, distant and diminutive shapes; young kings wearing jewels and straddling horsebacks; steppes of azure color of bubbly plant under the pur