تحت الرُكَام مَلَل
هاشم يوسف
(1)
على حوافّ هذه الروح المشقّقة،
تنمو الأزهار السامّة،
تنام الذئاب متوسّدةً أنيابها،
تنام الغابة بثقلها كله،
ينام دمي الـمُنَادى عليه يُصَفّق.
يحيلهم الأسى أجمعين إلى جثثٍ
وأطياف كوابيس ميتة.
أنا منْ قدّمتُ لك الباب كلّه بصفاته
لا مزلاجه؛
أغلقتِهِ على نفسك،
أغلقتِني داخل مراياك،
انفردتِ بصورتي لنفْسك،
بذهبي لياقوتك،
و بعرشي لصولجان مُلكِك المنكّس.
أعود إليكِ في اليوم آلاف التحايا
كلما أشرقتْ شمس ابتسامةٍ منكِ
كلما فاضت خضرةٌ على غصنها
ملأت جهاته
وأحرقتْ كل أصناف أسمائها فيه،
أحبكِ،
لا..
أتمنّى ضياعك.
تخرج منكِ الثعابين بيضاء،
خضراءُ معشوشبةٌ لها أجنحةٌ من ضباب،
أصدقائي يبكون بحرقة،
يذرفون سمّها دموعاً،
يهرب منهم جارياً نحوي،
حتى يستقرَّ في لغتي؛
أنا بابك.. أنا حجابك؛
أنا ارق الليلة بين يدي بارئها،
بين يدي طينه،
تماماً خلف الشعاع قاتل رؤيته،
بالضبط حيث وُلِد هذا الاكتئاب.
أنا مدينتي
أنا مدينتي
هذه صرختي.. أبعثَها في وجه من لا
يحبها
ـ تعصفه و تهز أغصانه ـ
في وجه من يخنقه لمعانُهَا،
يمزِّق له تُحَفَهُ التي ظنّها بريئةً
من صفات،
أبعثُها
أبعثُها
(وأتيه تيهاً).
عَلمي منكَّسٌ على هذه السارية،
ينبعِث و تنبعِث منها و منه هذه
الرائحة،
العملاقة الجبارة،
انا إحدى فكوكها التي تقضم بها الأنوف،
تتراجع حرقتي في مقياس الشفق إليه،
إليه
وتعود من نهري جروح التوبة،
تسقي العطاشى في كل دهرٍ
كلَّ دهرٍ
انتهى الأمر
وعاد إلى بدايته في دهرٍ جديد.
المصابيح تُشرِق
هي كواكب الظلمات تفيح عليها عرقها،
تضعه هديّةً تحت إبطها،
به تُظلِم
ولأجله تُدفن في حرقتها والبكاء.
أعادتني إلى لغتي هذه القنبلة،
انفجرتُ فيها باسمي،
ألقمتُها إياه،
تقيّأتْهُ،
استَمنَتْ على وقْع المواد الواخزة
المخبّأة فيه،
أعادتني إلى طفولتي،
لتنال مني ما تنال،
لتمضغني و تمضغ العلقة التي في ذهني:
شرارةٌ منها بدأ جرحي،
و فيها انتهى أرقه بمواد الإضاءة،
وتقول كلاماً مملّاً جدّاً،
حتى أني تناومتُ
لئلا أسحب خنجري،
وأقوم بقتله.
كلامٌ فيه العداء و فيه الصداقة،
لا أرجو فيه عافية،
أتسكَّع حتى لا ألتقيه،
يقرِّب فمه لخدي،
يلمس نهراً قديماً ميتاً فيه،
تبين لثغةٌ هادئةٌ في قُبلته،
فيها عتابٌ وفيها مرارة.
كانت عطِرةً
نائمةً بين يدي نهرها
ثاقبةٌ أحلامُها.
تنمو على راحتيها الحشائش،
تشير بكل كوابيسها نحو ذاك النجم
اليتيم النائم،
فيصيبه ذلك في حدسه: النائم،
نجمٌ يتبوَّل عليه مارّة السماء أسرارهم،
معارفهم،
و ضياءهم كله،
من أجل أن ينتبه.
(2)
أتجوّل في حقل الفواكه،
تقذفني هذه البرتقالة بشُهبها،
الرحيق الزجاجي بيني وبينها
والصمت يتكثّف في حنجرتينا المقروءتين
عن بعدٍ
لما فيهما من كلامٍ خافت،
انقذف بلمعان إشراقة تيمّمِها
الذي زاده طينٌ حار الملامح
بائس التقاطيع
كامنٌ فيه نهرٌ لا يُرى
لا بالأصابع لا بالظمأ.
أيقظتني من انطفاءة حلمي
أجبتها بإشارةٍ إلى الكانون الذي يُشعِلُ
جمره قصتي من دون لمسٍ
أضيءُ له فحمه،
وأفكاري التي في يدي أطعمةٌ تحاول
النضج،
في باحة نفسي الهائجة،
تعيقها عن ذلك مرارةٌ في فم البهار،
يدهن بها ساكنيه،
روائحه التي يجلدها كل يومٍ بالجوع،
جوعٌ إلى لَمسٍ،
وعطشٌ لشرب لهفة الكون كلها،
لهفةٌ تبدو غير مقلوبةٍ أبداً،
خلف مرآةٍ مصنوعةٍ من عجينة هذا
الخراب المنمَّق.
ركاكة المعنى خاطري
أتوجَّه به إلى قداسة بابا ألمي
يوضِّح القصد أمامه ببكاء التفاصيل،
أثناء مللٍ ككوب خمرٍ فاخرٍ ممزوجٍ
بالحليب.
فيعيدني إلى ضلالة شربي القديم،
ويحتجب عن ناظرينا في معنى كتابهْ.
هذه الأشجار ظلالها تحملها حول
المزايا قرابين للشمس
تستحمّ أمامها مبيّنةً عريها،
بائنٌ فيه كآبة سرّتها
حيث قُطِّع عنها حبلها الراعف،
رابِطها الوحيد بالألم المتعب الذي في
بهجة الكشف:
من كان سكَّانها لا أحد،
تسستضيف في كل لحظةٍ خاطرة،
جلبابها نهرٌ كل لحظةٍ في أرق.
توزِّعهم على قبائل جغرافيا لئيمة،
تمتصهم، وتتعذّب برحيقهم،
تعتبره رحيقها الذي خرج من رحمها،
ثم ضاع بين القبائل.
ثمّ ها هو الآن عاد إليها،
لينحر نفسه في تمام الرضا ببهجة
الالتئام المراد.
أتغذّى على جيفة الصمت..
التي بدنها هذا الذي يتمناك،
بينما أنت تتمنَّى أن تحرقهْ؛
أن تسحب منه كل اسمٍ يغلِّفه،
تجتثُّ منه أيّامه
تدفنها في قبر جسدك،
ثم تستخدمها في تنقيبك عن معناك في
جهله،
يا مشرِّحاً كائناتك وكائنات غيرك،
بما تشاء من كل هذي الضغينة.
مثلٌ شعبي:
ـ أصابتني بدائها ـ
ثم أخفته في جيب حلمها
تركته في الحافلة
التقطه الصمت والنسيان
أعاده إلى مكانه في سلة المهملات،
بينما أنا في مكانٍ آخر
تلتقطني ذكرياتٌ أخرى من ذكرياتي
تثقبني في عقم بالي
تنثره رماداً يتغذَّى عليه الطريق
ويقود به الطرقات إلى أماكن:
مقتولةٌ برصاصة المفاجأة في منتصف
الرأس،
و في قلب الحدث المرير.
وفأرٌ أظنّه امتطى أقوالي وأفعالي
كلها
عبَرها بأن ثقَبَني
أصبَحَني
تركني مسجّىً بين جيرانه من قوارض،
يثقبونني مثله،
يحاولون بي العبور إلى الجنّة التي
تكوَّنت داخله
أخبرتُه عن كلِّ ما كان منقّعاً بالأمكنة
في هذه الخارطة
أمّا هم،
فليتَ العرّافة الميتة أخبرتْهم،
أنِّي طريقٌ واحدٌ،
معدٌّ ومبهرجٌ، فيه ثقبٌ واحدٌ،
هو كل ما فيَّ،
و كل ما استطاعت قرضة الفأر المباركة أن
تحاذيه،
لا أن تناله.
وفأرٌ آخر
أمطرت عليه سماؤه التي تبعد عنه
خيالاً واحداً
فرقةً من القطط الأليفة،
قططٌ استأنستها فئرانٌ في حضاراتٍ
سابقة؛
قططٌ تحبل من أيِّ فأرٍ متى ما أرادت،
في أيّ وضعٍ و في أي أمس:
أمسٌ مثقوبٌ مثلي تماماً
عبَرَه فأرٌ واحدٌ
في رحمه المفرد جيشٌ من قططٍ لا تُرد.
مصوَّبٌ أنا في وجه المواعيد،
بكل انتظاري الثقيل،
و بكل مؤجّلٍ أجّلتهُ فيّ بأن أطلقتُ
عليه قذيفة عدم الرغبة،
لطّختْهُ ببؤس جنازتها،
امتصّت منه أنفاسه كلها،
عاقبَتْهُ باللؤم الكافي لهذا،
و صبَّتْ عليه جام أمطارها،
لا لتدخله منزله قهراً،
بل لكي ينبت مثل هذا العقاب في الأرض
كلها،
طالما بذوره تحت أقدامه،
و هو لا يراها،
و خيراً فعل.
يتكوَّنُ هذا الضباب الذي يسدُّ عيني،
عن شرب خمر المناظر
من شروخ
دخَلتْ عبرها مواكب جنائز،
وخرجتْ عبرها جنازة البهجة المبتسمة:
حاسرة الرأس والكفن،
المعدّة لأن تُدفن في تربة حياةٍ
جميلة،
مستسلمٌ فرجها لتناسلٍ مملٍّ،
مفروضٌ عليها،
من قِبلِ هذا الغراب الـمُلِحّ،
المحوِّم حول جنون القصيدة.
تعليقات
إرسال تعليق