التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نقش الطائر



نَقشُ الطَّائر
مأمون التلب


في الصحراءِ مخالبُ حقولٍ تمدُّ لمعانها المتّسخ من تحتِ التّراب،
على جَسَد الصحراء خَطَّطت الأجنحة جداولَ ممتدّةً
كجراحٍ تائهةٍ تَقَمّصتها أرواحُ سرابٍ عارف.

طائرٌ يعبرُ سريعاً جداً، بارتفاعٍ منخفضٍ
ويراقب الجراح بطريقةٍ أفقيَّةٍ
فيراها تدور كعقارب السَّاعة
تُعلن انهياراً مؤجّلاً، يدوم في عين الطّائر،
سرّه تنبَّأ بما سيسري على ذلك الزمن:
عندما الماء ـ بأسمائه كلّها ـ يتَملَّص في صدرِه منها،
والبذرة في خياله تنتحب؛
عندما النّار بأحوالها تُكسِّر بأروقتها مرايا جافّة، لوجوهٍ جَفَّفتها نيران التّحديق،
عندما لا تسيلُ الظلال، ولكنها تَقبلُ، وتجري في الجداول مرحةً،
يومَ مِنَ الأرض تنبتُ بيوتٌ منسيّةٌ؛
بيوتٌ قَلَّ استعمالها لدرجة امّحاء من يستطيعون سُكنَاهَا من على وجه الحَياة.

لكنّ بذوراً عمياء تَختلجُ في عينِ الواقع،
تنتظرُ فُرَصَاً نادرةً لتنقضَّ على أحدهم،
تارةً في السوق، أحياناً في ظلِّ البيت، ربّما وقوعٌ في الحبّ
غالباً عندَ موعدِ لَطم الليل وخلخلة الدموع.

(2)
بجانب الطائر قلوبٌ كثيرةٌ في إناء، على فخذه تجلس الوردةُ مفتوحةَ الفم لأبدِ عينيه، يَخْمِشُ كُتلاً من القلوب يلقيها في فمها، فتدورُ دوائرُ الصّدى، وتنبتُ من عينيها أشجارٌ عجوزةٌ وتنبضُ بطنُهَا بليالٍ، تنشقُّ من ألوانها اختلاجاتٌ ممزَّقةٌ تُخرِجُ أطفالاً بلا عيونٍ يبحثونَ عن لونٍ موسيقيّ. الصحراء من تحتهما ظَهرٌ مُمدَّدٌ على بطنه، أسفلها تراقبهم عيونٌ صغيرةٌ تطفو على حممٍ، وما من شاغلٍ لهما سوى ساقية القلوب التي تدور.

(3)
سربٌ من طيورٍ جارحةٍ يهبط من السماء متخلياً عن هجرته الغامضة لأراضٍ تَجَمَّعَ عندها كلَّ شرٍّ وافتراسٍ ومستحيلٍ وأحلام، يخطفون القلوب واحداً واحداً من جناحه، من وعائه، أعني من فمها، من بطنها، من ما تَكَوَّن منها وحَار؛ يتفرّقون في الهواء ضاربين بعضهم بالنظرات، يَصِلُون إلى حيثُ يتراكض أصحاب القلوب بصدورٍ مفتوحةٍ خاويةٍ وعيونٍ صارخةٍ؛ يتراكضون من نَزْفٍ يُنطَقُ مُلحَّناً وشَجيَّاً؛ آياتٌ منوَّمةٌ تتسلَّق عظامهم وتَفتِكُ بها.

(4)

هَل استعذبتهم أنهارُ تلك الأراضي التي مَنحوها هِجرتهم خالصةً لوجه قِلَّتِهِم، هل وَجدتهم مواد الشَبَكات السريَّةِ هناكَ قابلين لاقتسامِ ما مُنِحُوا من كوابيسٍ مع ما مُنحَت ـ الموادّ ـ من صَبرٍ في انتظار لحظات انبِجاسها وردةً في دمِ أبناء أنهارها؟. هل تبرز نقوشهم بذات الصَرخة والاحتضار المتجدَّد مع تجدّد النَفسِ وتحقّق اللحظات؟.

(5)
كيف تبرز النقوش؟ مالذي يدعوها لأن تَظْهَر وتُلمَسَ كنهدٍ مرئيٍّ مغلّفٍ بتاريخٍ من الخطايا؟ النقشُ هو اللمسةُ مجسّدةً، والنقش في الصخر ملمسُ تاريخٍ ظلَّ يبرز فصارَ لغةً وصارَ فماً وصارَ تحديقةً وصارَ غناءً وتتويجاً لطيران المستقبل؟!.

9 نوفمبر 2013م
الخرطوم


تعليقات

  1. ينقش طائرك نقشاً دقيقاً يزرعه نقطة نقطة في لوحة الحياة الكبيرة العجيبة، كلما ظننا أن اللوحة اكتملت يخلق تواصل النقش فيها المزيد من المساحات الجديدة والدروب الخضراء والأوعية الدموعية اليافعة لتمنحنا حياة أخرى بعد الحياة وتحفر في لوحتنا أبعاداً اخرى لم نكن لنحلم بها، ما أقصر نظر أحلامي، وما أبعد ما يمكن لأحلام الحياة أن تصله فالسماء ليست هي سوى إحدى الطبقات الدنيا لمخيلتنا..أهنئك مأمون وهنيئاً لنا هذه ال"تحلية" ! فلتهنأ بإفطارك وليبعث الله لك ما تستحق مما رزقتنا!

    ردحذف
  2. اذا ده وصفك لي مسار نقش في الحياة جميل وعميق الاحساس٠و بالتوفيق

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

إجلالٌ ونفورٌ أمام كلام الربّ: حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة"

تنقيبات طينيّة (13) خطاب أَ ماديو : " إجلا لٌ ونف ورٌ أمام كلام الربّ " حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسييه مأمون التلب مُقدِّمة طينيَّة: (1) أ عود مرةً أخرى إلى باب (تنقيبات الطينيّة) لقراء مد وّ نتنا ، حيث أزور كُ تُ باً وكُتّاباً آخرين ، وفي الحقيقة فإن الدَّاعي لدخول الباب عادةً يأتي من نصوصٍ وكتاباتٍ أثَّرت فيَّ حدّ الألم والمعاناة والفرح واللذة الهائلة، وغيَّرت فيَّ بعمق، وصراحةً لم يحدث ذلك من ذ مدّة؛ صحيح أنني استم ت عت بمئاتٍ من الكتب الجيّدة خلال سنوات ال ا نقطاع عن العودة هنا، تعلَّمتُ الكثير وانتقلتُ إلى عوالمٍ وبلادٍ وأناسٍ آخرين، إلا أنني فوّتُّ "قطار الليل إلى لشبونة" إلى هذه اللحظة، والتي يتكاملُ فيها عالم القطار مع عالمي الخاص وحياتي الراهنة؛ حيث العجز لا اليأس، والمراقبة لا المُشاركة، أي التقدّم في العمر محسوساً بقوّة، وبالضبط عند مشاهدة الاستبسال الخارق لأجيال اليوم وحلمهم ببناء عالمٍ جديد! إنه لمن المُدهش، بعد أكاليل الهزائم التي تطوّق أعناقنا بأشواكها، أن ترى الحياة تتجدَّد رغم أنف عدميّة وانغلاق آمال عالم ا...