التخطي إلى المحتوى الرئيسي

سنَة تانية مَفروش!



تنقيب الظلام
سَنَةَ تانية )مَفروش(!
مأمون التلب





نُعايشُ في يوم الثلاثاء المَفروشي المقبل، اكتمال العام الثاني على انطلاقة الحدث الثقافي الأكثرُ استمراريَّة، الحدث الذي بُنيَ أهليَّاً، دَمهُ المحبّة للناس وللكتب التي أنتجوها؛ كتبٌ هي جواهر الذات البشريَّة، قمّة التسلّح والمُهاجمة ودك حصون التبلّد الذهني، مُشعلة خمود العاطفة والحياة؛ هذه الأداة التي تُذكّركَ بالعالم، بوجوده وبوجودك، وأنَّكَ تسير داخل هياكل السيستم وتراقبها بانفعالٍ وانبهارٍ مثلما تخطو داخل هيكل ديناصورٍ مركّبٍ في متحف!.
إنّه حدثٌ يتنوّع ويتطوّر في كلّ شهرٍ يمر، لا يمكن أن يُوصفَ بأنه "شبابيّ" أبداً، فأعمار الروّاد، وإن غَلَب عليها صغارُ السن، تتفاوت بدرجاتٍ كبيرةٍ إن نحنُ نظرنا إلى السادة الأطفال بالاحترام الواجب إزائهم، الأسر وتجمّعات الطلاب التي تسيرُ بهديرٍ حيوي. بالأحرى يُمكن أن يُوصف بالنسوي، إن الظاهرة يمكن أن تُرى وتُحس؛ فالإقبال الهائل والغالب على الكتاب، والانهماك المُنهِك الذي يستغرقن فيه إبّان مرورهنّ على الكتب، يجعلنا نُدرك مدى تعطّشهنّ للحياة وقربهنَّ الطبيعي منها.
خلال العام الثاني لمفروش، ما بعد مايو 2013م تحديداً، بدأت أتلقَّى الكثير من التعليقات المُبهجة؛ أخبرتني الدكتورة فهيمة هاشم أن مكتبتهم الكبيرة فعليَّاً، والتي يعملون على خدمتها منذ العام 2003م، قد تأثّرت بوجود مفروش كمصدر جديد للكتب. كذلك فهمتُ، بمطالعتي لعناوين الكتب، وبحديث مع الباعة والقراء، الحيويَّة الجديدة التي دبّت في عروق سوق الكتاب، وذهبت مقولة أنو (ناس الزمن ديل خلّو القراية) إلى الجحيم، فالكتاب ليس كائناً خارجيَّاً دخيلاً على الجسم البشري، بل هو جزء منه ومن تكوينه، وفي لحظة تواجده في مثل فعاليةٍ كهذه أسسها الناس مع بعضهم البعض، وكلٌّ منهم لديه ذكرى في أيّامه وممراته، فإنه يعود إلى أصله ويقبله جسد الإنسان بترحابٍ بهيج. لقد بدت لي تلك المناقشة حول (كيفيّة جعل القراءة جاذبة) غير ذات جدوى؛ هنالك مبادرات أحدثت فعلها بالفعل وتعمل في ذات الاتجاه، وقد ساهم في خلقها جميع الناس.
كنّا في الماضي، في بدايات المفروش، نلتقي بالأصدقاء، وأصدقاء الأصدقاء بالكتير كده، ومع مرور الشهور بدأ "الغرباء" يتوافدون، عندما غبت عن مفروش بظروف العمل لشهور عدت فوجدت نفسي تائهاً بين الناس، عدد هائلٌ من الناس غير المعروفين بالنسبة للمئات التي ساهمت في تأسيس المعرض. أتذكّر اليوم النداء الأول الذي وجّهناه عبر الوسائط الالكترونيّة، والصحف، والاتصالات الشخصيّة والحديث مع من يلتقيك صدفةً في الطريق. لكلّ واحدٍ من أعضاء (جماعة عمل الثقافيَّة)، صاحبة الفكرة، مجموعة مقدّرة، كبيرة في الحقيقة، من محبّي الكتب والقراءة، إضافةً إلى رمزية الأعضاء في المجال الثقافي كنشاطاء وفنانين وكتاب ومسرحيين وسينمائيين وموسيقيين..إلخ، توزّع كل تلك الدعوات بحماسٍ منقطع، وكلٌّ أحضر الكتب التي بحوذته، أجرى شاعرنا محجوب كبلّو اتصالات عظيمة بفَرّاشة أمدرمان وساهم بفرشة عظيمة مُعتبرة، ذاخرة بالنادر والقديم، وأمسكت ريم خالد وسارة آدم بشبكة اتصالات رفيعة مع فرّاشة الخرطوم، وتبرّع من تبرّع بسيارته لترحيل الفراشة في الشهور الأولى لكي يتعودوا على الفكرة. طبعاً لم نعد نرحّل أحداً، حُفظت اشتراكات الأعضاء والتبرعات لأغراضٍ أخرى، كشَّافات مثلاً!.
(2)
إن فكرة (يوم القراءة للجميع) التي تنظّمها (تعليم بلا حدود)، هذه لفكرة نادرة وذكيّة جداً، وإني لأراها ومفروش متكاملان، إذ يعتني يوم القراءة بالتحفيز على الفعل والتذكير بجلاله وعظمته و، الأهم، بمتعته. يتصوّر الكثير من الناس أن فعل القراءة فعل مُرهق، وذلك يأتي بالتأكيد من ترسّبات أنظمة التعليم المدرسي التي تقدّم لك اللغة والآداب والمعارف بصورةٍ لن تملك معها إلا أن (تُجبِر) نفسك على تجرّعها، لأغراض المرور. من المستحيل لثقافة القراءة أن تعيش بدون وجود مكتباتٍ في المدارس الابتدائية والثانويّة، إن غياب جلال المكتبة وطبعها الفردوسي، على قول بورخس، عن أعين الإنسان في طفولته سيظلّ حاجزاً منيعاً بينه وبين (متعة القراءة).
يوم القراءة للجميع يذكّر الناس بجلال القراءة، ومفروش نَشَّط سوق الكتاب، الوارد منها، بل أصبَّح مُصدّراً للكتب السودانيَّة عندما يأتي مغترب سوداني ويخمّ الكتب السودانية غير المتوفّرة في مكانٍ واحدٍ كما يحدث في كلّ شهر. أي: القراءة والكتاب؛ يدعمُ الفعلُ المادَّة، وتدعمُ جودةُ المادَّة الفِعْل.
(3)
بعد سنواتٍ طويلة من اكتشافي لـ(متعة القراءة)، وعندما أتذكّر الرهبة وتسارع نبضات القلب الذي حَدَثَ لي، بينما أجلس في مسرحٍ في نايروبي أشاهد أوركسترا ضخمة كينيَّة متنوعة الجنسيات؛ أفارقة وآسيويين وأوربيين، يقودهم إثنان من أساتذة قَدموا من الكليَّة الملكيَّة البريطانيَّة لتقديم ثنائيّة كمانية لأعمال باخ وبيتهوفن، كنت الوحيد من بين الحضور، تقريباً، من لم يستطع أن يكبح دموعه، وأنا أعود لذلك العهد مع الكتب، وأشعر بالإهانة؛ إنها لإهانة أن تنشأ في بلدٍ يخلوا من المكتبات العامّة المواكبة لما يجد في العالم من علومٍ ومعارف، مهينٌ أن تُحطّم دور السينما وتُداس وتصبح هياكلها ساحات للكراسي الصدئة، ومكان لعرض أفلام رخيصة ومباريات المصارعة المُفَبرَكَة!. إهانةٌ أن يتدعى مهرجان الموسيقى العالمي ويختفي فجأة، بلا مقدّمات، إهانةٌ أن يكون للمسرح موسم سنويّ واحد، وللموسيقى عيشة السوق والتلاف؛ إن كان من مالٍ لدعم الثقافة فالنبدأ بالمكتبة كرمز حضاري رافق الإنسانيّة طوال العصور.
 (4)
أصبح مفروش جزء من ذاكرة طفولة بالنسبة للبعض، ومراهقة للآخر، كذلك هنالك ذاكرة الدراسة والجامعة، ذاكرةُ العصيان والتمرّد، ذاكرة الحب، ذاكرة الرسم والشعر والموسيقى..إلخ. إنه مكانٌ للتعارف بين عشّاق وطلاب المعرفة، وهو مكانٌ لحدوث أقدارٍ ومصائر.
رغم انتقال الفكرة، بتطويرٍ يتلائم مع بيئة المدن والجامعات الأخرى، إلا أن مفروش أتنيه له مذاقٌ خاص، يتعلّق بالمكان ومناسَبَتِه البُنيانيَّة والظِلِّية لأجواء الفعاليَّة؛ الحمام الذي أصبح، من كثرة الرواد، يتخلَّى عن المسطبة الأسمنتية الكبيرة التي يتجمّع على سطحها يوميَّاً لتناول وجبته من الحبوب والخبز الناشف وأطعمة أخرى تجود بها يدُ عابرين أو عاشقين للمكان، أو في الغالب من رواد وأصحاب محلات الفلكلور السوداني، والمحيطة إحاطة السوار بالساحة، تتخلّلها وكالات السياحة والسفر، وفي ويقع مقهى أتنيه في زاويتها الجنوبيّة الشرقيّة، لصاحبه الخال عمر وبقية أسرة المكان الكريمة.
إنّ لكل عضوٍ من أعضاء جماعة عامل الثقافيَّة علاقة دم وقرابة بالمكان، كنّا نلتقي في زحمة المقهى الصباحيّة في ماضٍ لطيفٍ ما، حيث يتكاثف عدد مقدّر من الموظفين في البنوك أو الشركات أو الهيئات الحكوميّة، وشمسُ الشَرقِ تخلبُ لُبَّ الساحة، وتترك زوايا ظِلّية في أماكن الانكسارات الهندسية لعمارات أبو العلا الجديدة، يجلس تحتها أشخاص غامضون ولكنهم في قمّة المُسالَمة، يقومون بأعمالٍ أكّدنا مرةً أنها كَونيَّة، فهنالك مستنسخ نسخته الذي يُمشِّي قلم الحبر على كتابةٍ مكتوبةٍ أصلاً، يقوم بهذه العمليَّة يوميَّاً في الصباح، يضغط حبر الكلمات بمتعة وملذَّة، كلماتٍ من لغةٍ أخرى، من مكانٍ آخر، زمانٍ آخر، كوكب آخر!.
أتذكّر الدهشة الأولى ونحن نُشاهد الناس يأتون من زوايا الساحة الأربعة، مُحمّلين بأكياس كبيرةٍ مُترعةٍ بالكتب، وبابتساماتٍ عجيبة لم أرَ مثلها من قبل، تشمّ فيها رائحة التواطؤ، تواطؤ في المحبَّة، ومَعرفة راسخة بمجريات الأمور، وما تنطوي عليه هذه المبادرة من إمكانيات إن وقف الناس من خلفها. يدخلون بالعشرات يحملون الكتب! وعبد الله الزين يرقص على إيقاعات فرقة (طبول النيل) الصاخبة، يا سلام! لقد انهدَرَت طاقة اليأس وعبَّرت عن قوّتها هكذا. أخرج أسامة عبّاس مجموعة كتب هي الأقرب لقلبه، لقد كان واضحاً أن هذه الكتب، بكلّ هذه الحيوات التي تسكنها، خارجةٌ من القلب؛ الجميع قدّم ما لديه، وخرجت أعمال كِتابيّة غير متداولة، أسماء مُفطّسة ومعتمة، مصارين وأحشاء تتفجَّر ومذابح تحدث ومفارقات ساخرة تتلوَّن بأفكارٍ، الكثير الكثير من الناس والتجارب والتحديات التي خاضتها شعوب العالم؛ كل ذلك موجودٌ هنا، في ساحة أتنيه، الخرطوم تقاطع القصر مع الجمهوريَّة، سنة تانية مفروش: الثلاثاء 6 مايو 2014م.








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول مقدّمة طينيّة: سيَّارة الثورة التكنولوجيّة (1) كم من الوقت انتظرت لأكتب عن هذا النص العجيب، والذي لم يُعرَف كاتبه إلى الآن، وربما يتعلَّق الأمر بالظروف والملابسات التي نُشر فيها هذا النص الطريف جداً والتراجيدي بهاويةٍ سوداويَّةٍ مُضحكة. أفهم، كما كتبت كثيراً من قبل، والكثيرون من قبلي، أن اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان اندلع مع ثورة التكنولوجيا. ولكن لننظر إلى الثورة التكنولوجيّة الرابطة لأجزاء العالم بطريقةٍ أخرى، فبينما كان الرابط في الماضي عن طريق الحروب والاستعمار، رست السفن قبلهما، وأطلّ القطار مؤخراً، ثمَّ طارت الطائرة. لننظر لانطلاقة الثورة من بدايات القرن العشرين كـ(غِيْر) السيارة، وهو ما سأصل به لما ميَّز جيل مواليد الثمانينات. على الأقل في السودان. تنطلق السيارة في الغير رقم 4 بلا كابح وبسلاسة لانهائيّة، وهي المرحلة التي دخلت فيها الثورة التكنولوجيّة سوق التنافس الرأسمالي العابر للقارات. ففي العصر الذي يسمع به الناس بالتلفاز ويصلهم بعد مُختَرِعيه بعشرات السنوات، ولفئةٍ محددة جداً من البشر.

Life weapon’s dictatorship - By: Mamoun ElTilib

Life weapon’s dictatorship By: Mamoun ElTilib Translated By: Ibrahim Jaffar Introductions: ( Tayfara was a military slave of the Cavalry Divisions (the Divisions of Knights) which was relegated to the Sheiks-ministers of Hamaj .   He presumably has been enslaved during one of the sieges of Rajab to the Nuba Mountains within the course of his campaign against Kordofan, for he reached the age of reason in the era of Nasser wad Idris .   Imaginatively, we would correlate Tayfara’s memories of childhood with those of Dogalo Doguendan Ari ; a Nuba boy of the next generation who, like Tayfara, has been, as a young boy, enslaved and taken from his native land.   Dogalo , as a young man in his far-off exile, has vividly lived the memory of his homeland that has been sustained within his soul as a minute world of landscapes, distant and diminutive shapes; young kings wearing jewels and straddling horsebacks; steppes of azure color of bubbly plant under the pur