سامحيني أيّتها النّار
مأمون التلب
(1)
ينحدرُ صوتك، مثلما تنحدِر
الدمعة،
مثلما تَسقُطُ الثمرة الناضجة،
وتماماً مثلما تنضح الصحراء
بالواحات،
وتُغلِقُ الغاباتُ أمطارها
بسهولةٍ على جثثٍ كثيرةٍ قُتِلت لأنها تعيش في الجنّة.
الجحيم يلاحق الجنان، والجنان
ترتجي رحمةَ "ملائكة الجحيم".
ساحةٌ تلتحم فيها آلاف القرون
لثيرانٍ لا فرقَ ينبتُ في نخاعِ
أيِّ عَظْمٍ مُكَوِّنٍ لما يُقاومونَه؛
يُقاومون أمواج بحرٍ قديمٍ لم يعد
موجوداً،
يلتقطون قفاز تحدٍّ من يدٍ لم تعد
موجودةً.
وهكذا،
تتعاقب المياه على جمالك كما
تتعاقب الخيارات بتغيّرات النيل.
نستمع لما يَنْحَتُ الموجات
نَحتاً، يَصنَعُ من الماءِ جداراً عازلاً،
بل يَخلقُ النهر، ويسميه نيلاً،
بصوتك فقط.
(2)
ثمرةٌ أنتجت قلب النافذة، ومن مَوتها
تاهت الرياح،
من ثوبها تَنَزَّلت النجوم، ومن صَمتِهَا
صَرَخت البذرة.
نَلعَبُ في الحفرة القديمة، حيث
بَذرنا بَصماتنا
ونتيجة ذلك أن قلَّ السفر بين
حروبنا،
وتَاقَ شَوقُ هَجرِ النجوم بينما
تَتَضارب المجرات.
سامحيني أيتها النار،
فقد لَفظتُ اسمكِ ولم أفقِد القلب
وتَمَسَّحت بظلِّك ولم تحترق
جَنابتي،
بالأمس القديم كتبتُ سيرتك،
وكانت خيانتي تحدثُ على أتمّ وجهٍ
مُسلِم
تُهت في شوارع الخرطوم كأنني لم
أُخلَق من جلدها،
تهتُ تَحنقني العبرات وفي القلب
أيتها النار كنتُ تفورين،
دخلتُ بيتَ العرق، وجلست إليكَ
أيّها النيل، وكَفَرتُ بكلّ شيء.
وجدت جدارك يا محمود وبكيت عليه،
سَلَّختُ أظافر روحي على خشونته
الصادقة،
وبه كُتِبَت أصابع الساحر.
منذ متى لم أتذكرك أيتها النار؟
لماذا أَهملتُ وجودك في جسدي؟
لماذا يُنكُر الكل وجودكِ الجَسَديّ
الأصيل؟
رأيتُ بأمِّ ظِلّي اختباءَك في
الشمس،
رأيت، مذ أصبحتُ بشراً، الضوء
الذي تُلهبين به مشاعرنا؛
الخوف الذي نخافه منك،
جمال رقصه في عروقنا ونحن نقترب
من بعضنا البعض.
هروبنا من مُعضلة الخطيئة
الجميلة، التنكّر لها، ونَبذُ محتوياتها الخالدة.
أيتها النار، يا معضلة الوجود
البشري
يا التي تختبئين في مكتبة
الأفكار،
وتُقلقين أمان كل شيءٍ ثابت؛
(كيف يجهلوك؟) وأنت تَنبتين شُجَاعَةً
في العروق المتمرّدة؟
في اختراق الجدران، وصوت تحطيم
الحواجز؟
كيف يجهلوك؟ وأنت في نَبضة
الوَتَر
في جلال الموسيقى السائل رأفةَ
بنا ورحمة؟.
(3)
لماذا
تخاف من أشباحٍ تتحدث إليك؟
من الصقور التي ترقصُ بتناغمٍ
كيميائيٍّ خارج نافذتك؟
لماذا تهرب من كونك كائناً فضائياً؟
أهذه كلمة السر؟ كائنٌ فضائي؟.
لماذا نرتبط بالأرض بقساوةٍ لم
يحدث مثلها في تاريخ الجذور؟،
لماذا هي النار تلعب بأحلامنا كما
تلعب النار في القلب، ومنها تومضُ في الجسد؟
(4)
كنتِ في الأحلام منذ قديم ما كانت
هنالك أحلام،
منذ حمّى الملاريا الأولى، وتقديس
الوَحمة الواسعة على ركبتكِ الأجمل.
القاتم هو ما يُرى اليوم في
الأحلام:
أراك تتركين صوتي المتناسق للغرق
في أمواج هائلة؛
وهو بحركِ أنتِ، وأنت إلهة عواصفه
وصواعقه الحالمة.
وتحت سقفك المُتهالك، ستجدينَ من
يُمسك بقلبه بين يديه،
مُستنزفاً رحمة العواصف،
مستغرقاً في قلّة حيلة أشرعته
الممزقة.
هنا،
في النهار الجديد،
أُراقب أشجارك الكثيفة،
أتقلَّبُ داخل جذوعها ولا أخاف.
أما في الليل،
يُشَنُّ هجومُ المستحيل، وأتحوّل
شجرةً في مهبّ فيضاناتك،
يا زوجة نوح.
(5)
لقد أطلقتُ لكِ الجناحَ الكبير،
فتحتُ لكِ المضيقَ الذي لَن يضيق.
كنتُ أكثرَ من زهرٍ تكبَّر على
بذور من قَلَّموا أظافره،
وكنتُ، أقصرَ من هذه الروح القليلة التي ربما كانت تربةً، قديمةً، لكنك كنتِ الجذور.
وكنتُ، أقصرَ من هذه الروح القليلة التي ربما كانت تربةً، قديمةً، لكنك كنتِ الجذور.
ربما كنتُ مريضاً،
بل أنا مريضٌ،
مثلما أشارت لك الشواطين الكتيرة،
ربما كنتُ أسوءَ من ذلك.
ولكن، لماذا لا تبصرينَ الجناح
الكبير؟
الله في الأرض، والشياطين في
السماء.
في الجناح الكبير تُحتضر الأرض،
وتُفاقِمُ من عيون الطيور الساقطة
على تربتها:
على التربة رأيتُ كيفَ تُصبِحُ
الجثث أسماءً وناس،
على التربةِ رأيتُ عيونَ الطيور
تنمو، تزدهر بالخفافيش، وتتنقَّل من ظلامٍ إلى ظلام. كيف لم نكتشف سلامة الجناح
الكثيف؟ كيف لم أكتشف تفاهة انتظاراته، وثقته، البائرة، في البشر وأنواعهم؟.
أجيبكَ يا سيِّد:
لأن النماذج التي تَدَّعي الطيران
هي الأسوء،
ولأن السماء ذاتها مُخَرَّبة،
لأنها انتحت ناحية الأرض يا
حبيبتي،
لأنها لن تكوننا إن لم نكن واثقين
من احتلامنا البشريّ بالطيران،
لأنها لن تستقبلنا
إن لم نكن جاهزين لانقضاضها علينا،
ولأن السحاب
ـ السحاب القليل ـ
لا يتقبّل روحاً أخفَّ منه،
روح الماء التي تَبَخَّرت،
وأهدتنا الحياة.
______________
5 أبريل – 7 يونيو 2015م
------------
يُهدى هذا النص لأيمن سيف
(الدوسري)، لمساندته الكريمة في زمن القَحط. اللوحة من أعمال ميسرة محمد صالح
تعليقات
إرسال تعليق