التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رسالة الميت


 
غارقٌ في بحرٍ عظيم،
وداخل المياه رأيتُ وَجهَكِ مُختلاً،
تنبع منه الحيتان، وتنشقّ بطون الأسماك لأجل عبادته،
رأيت، كذلك، روح المياه تمشي في الشوارع وتستجدي البشر،
رأيت القَتَلة يتضرّعون لأجل نظرة حب،
ورأيت الحياة تُسكِّن روحها وهي على سرير العمليّة الجراحيّة لخلق الخيال.
أمنيتي أن موت،
لكن الأمل يحلّق في كل ذرةٍ حُشِدت لتكوّنني،
فكيف أفرّط في الجذور؟.
تنفرط الآلات الداخليّة بشهامةٍ لن تدركها،
خللٌ قديمٌ يصيب قامة الورقة، والإكليل المُعدُّ لاستقبال الزهور؛
خللٌ قديمٌ يصيبك وأنت تفرد جناحيك لتحلّق،
في هواءٍ طلقٍ لن تستقي منه سوى الحياة؟
نعم، في هواءٍ طلقٍ تتلقى منه الحياة: قلّة التكوين، وجزع الأخلاق، سلالة الدمع، وتشويه التبجيل، قلق الإيقاع، وسلامة الكلل، قلة حيلة الحب وتشخيصه لأسباب إبادته، خيانة القوّة، والتقليل السخيف من قيمة الخجل.
هذه الطفولة الممتدة خلال تهتكات العروق، تشمل كلَّ لهبٍ ساحَ من عينيك،
هذه الأصوات المرتجفة في انزلاقِ الجمال إلى جوف القيامة القديم،
كل ما مُنِحَ لأجلك وأنت تتخبّط في ظلمات أقدارك المَهزومة،
كل ما خَانَك ونال من تضرّعك:
كل ذلك، وقد كنتَ جزءً منه، ينتقمُ منكَ.
(2)
تنزَّلت السماء القديمة،
معها تنزّلت أشباه طيور،
وظلال مكسورة، وغيومٌ لا تُقهر،
كل ذلك لأجل النبيّ الذي تُرِكَ وحيداً،
لُفِظَ كما فَعَل الحوتُ بيونس،
ومثلما وَجَد نوح ذاته تتشكّل في سفينة.
إنّ يقينه تشبَّث بالحياة،
إن جناحيه وُلِدا لألا يُقهرا،
في أنحاء أحلامه نبعت طوفانات،
وكذلك رأى كلَّ من أحبَّ يتركه لجحيمٍ ما،
في سدّة العرش،
وأحلام الغضب القديم لأسماك الأرض جميعها،
إنها المشيمة الأرضيّة من يتحدث الآن،
غليان البراكين وضربةُ الفيضان،
هطول الأمطار التاريخي وعماء البشر،
لقد رأيت، ولامستني كهرباء المستقبل، ويبدو أنني سأعيشها وحيداً.
ماتت رشيدة، تماماً. ولكنها أشدّ حياةً من قبل.
فقط أفتقد رائحتها، إذ هي مشيمة أرضيَ الخاصّة،
هي شجرتي التي نُهِبَت مني بإخلاص.
(3)
صعدتُ إلى سماءٍ ثانيةٍ وتلتها سماوات،
لم أتعرّف على نفسي،
كنتُ ضعيفاً ومهاناً.
أمسكتُ بجذورٍ تنبتُ لأعلى،
رأيت كيف يصير النباتُ نباتاً،
وكيف يستدعي النبات غضبه بكثيرٍ من الصبر والمحبّة،
لماذا انشقَّ صدري عن كل هذه الكوابيس؟
لأجل أن أكونَ أقوى، وأشدّ استنكاراً لما يحدث في عالم اليوم؟.
(4)
تضافرت الشُهُب، أصبَحت شَعْراً ينساب،
ومن دواخله رأيت كيف أن القيامة قامت منذ آلاف السنين،
وكيف أن إبليس، نَفسه، قد فرَّ من محاكمته وأصبح حرّاً طليقاً في الجنة،
وقد قلتُ من قبل، أن الحياة تستحقّ أن نقاتل من أجلها،
لكن العالم أغمَضُ من ذلك،
إنه جحيميٌّ جدّاً، وكأن الجنة لن تُوجد.
(5)
في سرابٍ حلّق فوقنا،
تنحّت الأرواح القادرة على الخلق،
قلّلت من قيمتها، وتناست أَجرَها، وانتحرت.
من بينهم أرواح طاهرةٌ جداً،
من ينهم تنزّهت الحياة، وساحت في عروقهم.
هاؤلاء لن يغفروا لي بسهولة،
لأنني تركتهم على حافّة النهر، يصدادون السرابات تلوَ السرابات.
لقد ولدنا بجانب النيل، نيلنا العظيم، وسوف نكون قتلى لأجله.
هل سنموت قريباً؟ نعم، نموت ونحب الموت،
لكن موتنا لن يضيع هباءً، سيكونُ مجرّداً ومنسيّاً وتنتاشه السحب والسماوات القديمة،
سيكون موتاً حقيقيّاً، يُشبه هذه الأرض، كوكبنا الوحيد، وقامتنا الأجدى.
إليكم، أرسل الرسائل،
أرجو أن تصلكم جميعاً، بلا استثناء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

خالد حسن عثمان ـ قصائد من كتاب: غَرقى في المياه الجميلة

 قصائد خالد حسن عثمان (من كتاب: غَرقى في المياه الجميلة) (1) الجَّنَاح البَاقِي كَوَتْهُم الحياةُ بلفظِ جمرةِ الحياةِ الفاتنةْ. عذّبَتْهُم ملابسُ نومِها الخفيفةْ. لوَّعَتْهُم التي اْبْتسمَتْ فَغَوَتْ وبَكَتْ فَضَاعُوا. هكذا تعرفهم: كلامُهم حلوى   يُريدُها الصَّمتُ لأطفَالهِ. كلُّ مَنْ لم ترهُ أبداًً مِنْهُم. مَن تذكُرهُ عبثاً منهم. مَن لَمْ يجرحْ قلبَك لَم يَعِدْكَ بشيءْ منهم. من لو صادفوا إخوتهم في المصيبة لا يقولون لا يُهْرِقُون لُعابَ الفضول إلى أحدٍ ولا ترمش العيونْ. من يَلْزَمُهُم للحُبِّ جَهلٌ وغَطْرسةٌ وللمَحَبةِ مَعْرِفةٌ وإملاقٌ وللضغينةِ صبرٌ وكِتْمانٌ وصَعلكةٌ ونسيانْ.      مَنْ يُغمِضُونَ العيون كأنَّهُم يَعزِفُون الكَمَان يَفتَحون العيون كأنَّهُم الكَمَان مِنْهُم.         الوحشيُّون إلى حدِّ ينصبون أمام الزهرة العمياء مرآةً فترَى زهرةً عمياء مِنْهُم. النقَّـادُ القَرَوِيُّون للنَّبَاتِ الْمُعاصرْ. ...