التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لم أُقطِّعها في مَصَاريني يا أُفَّه! - مأمون التلب



لم أُقطِّعها في مَصَاريني يا أُفَّه!
مأمون التلب




تعبر الحافلات في الطريق من بيت المال إلى الجنوبي عبر نيلين، كبري شمبات وبتاع الحديد، فإن لم نَلتَقِ في المحطّة الوسطى ببحري، أنا وأُفّه، إذاً فقد قضينا الليلة في مكانٍ مُشتَرك؛ كانت تلك اللقاءات المكثّفة تتمّ إبّان الأحداث الدامية في العام 2003م؛ المظاهرات العارمة التي بَلَغ سيلها السوق العربي بالخرطوم، وانتهت بوفاة شهيد الجنوبي الشهير. أُخمِدَت تلك الانتفاضة التي التقت فيها الجامعات الكُبرى في قلب السوق العربي، كدَّاري، كلٌّ من مجمّعه، وقد وصل مجمّع الجنوبي، قادماً من شارع 61، إلى أن التحم مع بقيَّة الجامعات. أتذكَّر؛ كان حشدنا يَعبرُ بجانب عمارة صحيفة (الحريَّة)، وكان أسامة عبّاس، في البلكونة، يحملُ يافطة شعار الصحيفة، مُلوّحاً بهِا، بالقفزات الداخليَّة والخارجيَّة! بعدها بأسابيع، بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها، نسبيّاً، في الجامعة، رغم استمرار الاعتقالات في المجمّعات التي أعلنت الاعتصام، والذي انفضَّ بدوره.
تلبّدت السماء بالغيوم وهاجمتنا حلاوة الخريف. في المحطّة الوسطى ببحري كنّا قد ركبنا الحافلة الصغيرة المتوجّهة إلى السوق الشعبي، ورذاذ المطر ينقّط في الوجوه والأعصاب البارزة على الجلود. كنت أتنفّس بعمقٍ بجانب أفّه مُستعيداً تلك الأحداث. وأتفرّج، بالتالي، على الغيوم. لَفَت انتباهنا دخول كادر من كوادر تنظيم المؤتمر الوطني الحكومي إلى الحافلة التي ننتوي أن نستقلّها، ليس كادراً فحسب، بل هو الكادر الخطابي الأشهر، ذلك النوع الذي يتميَّز بتلك الصفات المُسمّاة بالسوداني: (غيَّاظة)، الغباء الغيّاظ الذي يجعله يتحدّث، بلا خَجَل، خائضاً بقرونه في تأويلٍ سياسيٍّ فجٍّ لأغنية (لما باكر يا حليوة، لما أولادنا السّمُر، يبقوا أفراحنا البنمسح بيها أحزان الزَمَن)، محوّلاً كلمة (سُمُر) إلى (حُمُر)! ـ يا لهول ما حُطِّمَ من فنٍّ في ذلك الصراع الأزلي بين الحُمُر والخُدُر! ـ رَكِب ذلك الكادر، فتهلّلت أسارير أفّه وتفتّقت عن فكرةٍ طريفة، فحواها أن نَفتَحَ موضوعاً سياسيّاً لحظة مرورنا بشارع القيادة العامّة، ونحنُ، على يقينٍ عتيق، بأن بقيّة ركّاب الحافلة سيشاركون بمرحٍ، كعادتهم، خصوصاً وأنّ الأجواء تُبالغُ في الجمال، والحالة الحياتيّة، كما ظلّ هو الحال، بائسة. لكنّني، بسرعةٍ شديدة، رفضت الخطّة جملةً وتفصيلاً (ياخ أسمع، ده جو سياسة ده؟ ياخ نحن ما اتكلمنا عن البنات لينا شهرين تقريباً، أها، الحاصل شنو في القصة دي؟). إضافةً إلى كل ما سَبَق، فقد نسينا أن نشتري كيس السعوط الصباحي مع سرحة الجو، فنسينا أمر الحافلة وتوجّهنا لدكّان السعوط، اشترينا أكياسنا وركبنا الحافلة التالية. فجأة، نزل ذلك الكادر من حافلَتِهِ وتحوّل إلى حافلتنا (علي أن أذكر بأن أفّه كان كذلك كادراً خطابيَّاً مُلحقاً، حينها، بضراوة، من قبل الأجهزة الأمنية، بينما كنتُ أنا المدبرس المارق ياداب من علقَة فظيعة في بيت أشباح منذ أسبوع). هَتَف أفّه:
(أها، الزول ده سألناهو؟ براهو جانا، بس حنطبّق الخطّة).
ومع كل هذا الحماس لم نطبّق الخطّة، بل لم نتذكّرها من الأساس، لقد أخرجت الغيوم ذلك الكادر من ذهنينا تماماً، وأسست لونسةٍ حيويّة عن قصصٍ جانبيّةٍ تحدث إبّان حدوث الرعب، قصص جميلة وطريفة ومضحكة جدّا في الحقيقة، قهقهنا حتّى أدمعنا، وعندما كانت الحافلة الصغيرة تسلك طريقاً مُختصراً يعبر بمباني الخرطوم 2 الجميلة، في ذلك المكان الذي أذيعت عنه تهمة احتوائه بيتَ أشباحٍ شهير، فرقَعَ إطار الحافلة، فَرقَع فرقعة مُريعة! توقّفت، وكنّا، بالطبع، قد خرسنا تماماً، انشفَطَ ضحكنا كلّه إلى مكانٍ غير معلوم، وتوجّهت ملامح وجهينا ناحية الذهول! خرسنا وخرست قلوبنا التي وَقَعت ونحن نُراقب ذلك الكادر ينزل، بسرعةٍ شديدة، ويندفع عبر إحدى الأزقة في تلك البقعة المرعبة! التفتنا بسرعةٍ نحدّق ببعضنا، بذهول أيضاً وبعض بلاهة! (أنزِل يا دين بسرعة أَنزل) هَتف أفّه، فدافسنا ركّاب الحافلة في نزولنا، وكانت لحظة تسديد الأجرة تتمدّد لتشمل الدنيا كلها. بالنسبة لي، كانت فكرة العودة إلى ذلك المكان مرةً أخرى تطرقع في الرأس، ولا يبدو أن أفّه على استعدادٍ لخوض تجربةٍ بايخةٍ كهذه! أسرعنا الخطوات، بسرعة شديدة تشبّحت خطواتنا ونحن في طريقنا من الطريق الفرعي المؤدي إلى شارع الصحافة زَلَط. ثمّ، حدثت تلك الحادثة السحريَّة التي تمنح هذه القصة فظاعتها، ندَه صوتٌ من خلفنا: يا شباب! يا شباب!. توقّفنا واستدرنا لنرى رجلاً يحثّ السيرَ باتجهانا، ثلاثيني عجيب، شخص لم نَرهُ في حياتنا كلّها من قبل. قال، وأنفاسه تتلاحق: (هاه، هاه، ممكن يا شباب استفسار بس؟ هاه. معليش، لو الزول نسى الجنسيّة بتاعتو في البيت، هاه هاه، ممكن يتم إجراءات التسجيل في الجامعة من غيرها؟ لأني ماشي على الإدارة وما عارف يعني أرجع البيت تاني؟).
!!!!!!!
طبعاً، وكأن على رؤوسنا الطير. أفواهنا مفغورة ونحن نفكّر، برعبٍ شديد، وننظر إلى هذه البلاهة المُفاجئة التي أحاطت بالمشهد! التفت إلي أفه وتمتم: مأمون. قلت: أها؟، صرَخ: أَرَح! هرعنا نكملُ سيرنا دون أن نلتفت إلى ذلك الشخص مرةً أخرى، وإلى الأبد.ظل يهتف من خلفنا: يا شباب؟! الحاصل شنو يا شباب؟! في حاجة غلط؟! ونحن ولا هَمّانا، نمشي بهمّةٍ وهدفنا واحد: الوصول إلى شارع الصحافة زَلَط، حيثُ المواصلات! حيثُ الأمان من الأمن! قلتُ، ونحن نسير بسرعةٍ شديدة: أفّه أسمع، نجري؟
أفّه بحزم: لأ، ما حنجري.
أنا، بعد ثوانٍ قليلة، بجدّيّة تُميّز الخارجين لتوّهم من ذلك المكان: أفّه أسمع، أخِيْر لِيْنا نجري.
أفّه، بعد نظرةٍ لشارع الصحافة المترائي من بعيد:
يا زول أجري!
جَرينا جرية رجلٍ واحدٍ وصاحبنا من الخلف: يا شباب!  جرينا وكأن وحوش العالم تندفع من ذلك الشخص، وصلنا شارع الصحافة زلط، ونحن نُفَحِّط، لنعترض سبيل أوّل حافلة جاية في الشارع، لا يهمنا إن كانت مليئة بالركاب أم فارغة، سنركبها وإن تسلّقنا السقف! توقّفت الحافلة الخالية إلا من بعض الركاب المتوزّعين في المقاعد، وأشعةُ شمسٍ خفيفةٍ تضرب المقاعد الحديديّة، وشخص جالس في إحدى المقاعد، شخصٌ نعرفه أنا وأفّه جيّداً، وتعرفونه أنتم الآن باسم (الكادر الخطابي)، يُقلّب في أوراق دراسته الهندسيّة، دون أن ينتبه إلى صعودنا المبتسم إلى الحافلة، لنركب في المقعد الخلفي، آخر واحد هناك، وننفجر بالضحك! لا، لم يكن كميناً من جهاز الأمن! الشاب الخطابي، ببساطة، مزنوق وعندو امتحانات، والشارع الذي انزلقَ إليه بسرعةٍ لم يكن سوى الطريق المستقيم الواصل بين نقطتين، الأقرب من الكيرف الأخدناهو أنا وصاحبي جرياً شديداً، إلى أن أدّى بنا الأمر للحاق بصاحبنا الذي انخلع من صعودنا من تلك البقعة النائية، لقد سبقنا المواصلات!
بعد انتهاء نوبة القهقهات، بالتأكيد، قال أفّه بحزم: القصَّة دي حَنقَطعها في مصارّينّا، فاهم؟!
قلت له، مُقهقهاً: مفهوم.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول مقدّمة طينيّة: سيَّارة الثورة التكنولوجيّة (1) كم من الوقت انتظرت لأكتب عن هذا النص العجيب، والذي لم يُعرَف كاتبه إلى الآن، وربما يتعلَّق الأمر بالظروف والملابسات التي نُشر فيها هذا النص الطريف جداً والتراجيدي بهاويةٍ سوداويَّةٍ مُضحكة. أفهم، كما كتبت كثيراً من قبل، والكثيرون من قبلي، أن اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان اندلع مع ثورة التكنولوجيا. ولكن لننظر إلى الثورة التكنولوجيّة الرابطة لأجزاء العالم بطريقةٍ أخرى، فبينما كان الرابط في الماضي عن طريق الحروب والاستعمار، رست السفن قبلهما، وأطلّ القطار مؤخراً، ثمَّ طارت الطائرة. لننظر لانطلاقة الثورة من بدايات القرن العشرين كـ(غِيْر) السيارة، وهو ما سأصل به لما ميَّز جيل مواليد الثمانينات. على الأقل في السودان. تنطلق السيارة في الغير رقم 4 بلا كابح وبسلاسة لانهائيّة، وهي المرحلة التي دخلت فيها الثورة التكنولوجيّة سوق التنافس الرأسمالي العابر للقارات. ففي العصر الذي يسمع به الناس بالتلفاز ويصلهم بعد مُختَرِعيه بعشرات السنوات، ولفئةٍ محددة جداً من البشر.

Life weapon’s dictatorship - By: Mamoun ElTilib

Life weapon’s dictatorship By: Mamoun ElTilib Translated By: Ibrahim Jaffar Introductions: ( Tayfara was a military slave of the Cavalry Divisions (the Divisions of Knights) which was relegated to the Sheiks-ministers of Hamaj .   He presumably has been enslaved during one of the sieges of Rajab to the Nuba Mountains within the course of his campaign against Kordofan, for he reached the age of reason in the era of Nasser wad Idris .   Imaginatively, we would correlate Tayfara’s memories of childhood with those of Dogalo Doguendan Ari ; a Nuba boy of the next generation who, like Tayfara, has been, as a young boy, enslaved and taken from his native land.   Dogalo , as a young man in his far-off exile, has vividly lived the memory of his homeland that has been sustained within his soul as a minute world of landscapes, distant and diminutive shapes; young kings wearing jewels and straddling horsebacks; steppes of azure color of bubbly plant under the pur