التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مُخَدّرات

مُخَدّرات
مأمون التلب
2015م


النباتاتُ أَنشَبت مخالبها وأصدَرَت لحناً قديماً أُوحِيَ إليكَ،
فترى وجهتك القديمة على الأشجار:
في أمسجة اللحاء أشرَقَت قدرتُكَ على التغيُّر،
في الجَذر أصبَحتَ المُقاومة،
وفي الزهرة كنتَ الحب.

في ما يلي ذلك كانت المائدةُ العظيمةُ تُعدُّ بهمَّةٍ واتقان،
تتبرَّجُ ـ لأجل الخذلان ـ جميعُ النباتات،
بل تتضافر قوى الأنهار أيضاً،
يَتَجَابنُ ظلُّ الشمس،
والقمر السافل يُمزِّق رمزيّته كأن لم يكن هناك!.
وأنت!
تستَمِعُ باتقنٍ وتفانٍ، تتلقَّى التقريع تلوَ الآخر،
ثمَّ تُخذَل،
تُفقدُ بِيَدِ نفسك التي تُلقيك نرداً مُبهرجاً بالكوارث!
أنت تستمع للأصوات الحقيقيّة الغامضة،
لكنّها تُهشَّمُ أمامك بالحديد والنار.

بحواسكَ الألف تُداهم أحلاماً ولن تُدرك الخيط الأسود من الأبيض.
بحواسّكَ المُخَدَّرة تسيرُ في أحلامٍ تخاف من قدرتها على الانوجاد،
حتّى ولو في خيالٍ ضيِّق الأفق،
محموم القلب،
ومكلوم الجسد.

(2)
لست أدري كيف يُولدُ الضُعف في جسدٍ،
مُهاباً من جميع المكوِّنات،
بل تسجد لأجله الأنهار الداخليّة الباعثة على الرفض، والتشرّد.
ربما من نظرة الأقوياء يَتَولَّد، ربما من ثقتهم في اللهب المتصاعد من نارهم،
اللهب المضيء لدرب التوهان، المتفجّر في شراهة الخذلان المستمر،
وكأن العالم هو الجحيم مُستمرّاً،
مُتبرعماً في رائحة الوردة المهداة لقبر الأم،
محشوراً في المسافة الضيّقة بين ثقة النساء في الرجال،
مقضوماً بسرطان الأسلحة، خالقُ جنّة القتلة.
(3)
أنا ابنُكِ
إنني القلق الذي نَحُلَ جسده فأصبح شبحاً تتحارب لأجله جيوش الضعاف!
هل أصبح الأمل مَبصوقاً لهذا الحد؟
إلى أن أصبحت المجاعات سيدة الأحلام وحَبُّوبتها؟.
كيف يساعد القويُّ منَّا ضُعفَ ظِلال من قُهِروا؟
يحدث ذلك:
بمقاومة الضعاف لظلال من خانوا أمانة الشمس،
من خذلوا الجذور التي سَمّتهم،
وخانوا المياه الدقيقة التي كانت تتسرب! إلى أين؟.
إلى جوف النهار،
وفحشاء الليل،
وسموم ما كان إلهيّاً ومقدّساً.

(3)
إنني أرجوكَ يا من ملأت حياتي بالأمل،
يا من قَلَّبتَ سرير جثثي العديدة، وسَمَّيت كل واحدةٍ منها اسماً،
أرجوكَ يا من كتبت اسمي على آلاف القبور،
وسلّمتني قلباً ضعيفاً.
كيف أَنبُتُ في تربةٍ لا تصلحُ للصراخ والعويل؟
كيف أتفرَّعُ في قبلةٍ إن لم تكن مجروحةَ القلب،
ومُسدِلةً ستائر الرحمة على كعبة من أُحب؟.
الشعر هَدِيّةٌ مُفرحة،
وهو مصيبةُ من لا يُدرك لعنةَ الدموع،
وقلّة حيلتها في عالمٍ كهذا.
إذاً، ها نسجدُ لأجل الاستغاثة القديمة.
لأجل مُشاهدة الحروب من كهوفٍ تُطاردنا أينما كنّا،
هذه الحدود الغريبة عن حدود الجسد،
وأحوالِ سُكّانِه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر النص بصحيفة (الميدان)

Painting by: Dariusz Zawadzki



















تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

خالد حسن عثمان ـ قصائد من كتاب: غَرقى في المياه الجميلة

 قصائد خالد حسن عثمان (من كتاب: غَرقى في المياه الجميلة) (1) الجَّنَاح البَاقِي كَوَتْهُم الحياةُ بلفظِ جمرةِ الحياةِ الفاتنةْ. عذّبَتْهُم ملابسُ نومِها الخفيفةْ. لوَّعَتْهُم التي اْبْتسمَتْ فَغَوَتْ وبَكَتْ فَضَاعُوا. هكذا تعرفهم: كلامُهم حلوى   يُريدُها الصَّمتُ لأطفَالهِ. كلُّ مَنْ لم ترهُ أبداًً مِنْهُم. مَن تذكُرهُ عبثاً منهم. مَن لَمْ يجرحْ قلبَك لَم يَعِدْكَ بشيءْ منهم. من لو صادفوا إخوتهم في المصيبة لا يقولون لا يُهْرِقُون لُعابَ الفضول إلى أحدٍ ولا ترمش العيونْ. من يَلْزَمُهُم للحُبِّ جَهلٌ وغَطْرسةٌ وللمَحَبةِ مَعْرِفةٌ وإملاقٌ وللضغينةِ صبرٌ وكِتْمانٌ وصَعلكةٌ ونسيانْ.      مَنْ يُغمِضُونَ العيون كأنَّهُم يَعزِفُون الكَمَان يَفتَحون العيون كأنَّهُم الكَمَان مِنْهُم.         الوحشيُّون إلى حدِّ ينصبون أمام الزهرة العمياء مرآةً فترَى زهرةً عمياء مِنْهُم. النقَّـادُ القَرَوِيُّون للنَّبَاتِ الْمُعاصرْ. ...