الكاتب والشاعر الصحفي مأمون التلب لـ(الجريدة):
- حروبُ اليوم العالميّة الدائرة في كلّ مكان عبارة عن حالات اكتئاب جماعيَّة
- انتهى عهد الدعوة لفكرة ليؤمن بها الناس عليك أن تثير الأسئلة وتُشكك
- لا أحبذ تصنيفات: قصيدة النثر، القصيدة حديثة، ما بعد حداثة؛ هذه الأسماء مشوشة جداً
- (شرق وغرب) (عالم إسلامي) (عالم عربي) (الإسلام المتطرف المعتدل)! هذه تصنيفات وهمية للغاية!
- دور الفنان أو الكاتب "إنقاذي" أكثر من أن يكون "تغييرياً"
- الفرق بين الأدب والسياسة هو أن السياسة تتعامل مع البشر ككتل والأدب يُفتت هذه الكتل ليُرَى الفرد
- الكُتَّاب السودانيون مُجتهدون وصادقون في علاقتهم بالكتابة
- عندما يصبح الناس أقلية في مواجهة وحشية شرسة تضحى علاقتهم ببعضهم مختلفةً تماماً
- لست مهموماً بـ(الثورات السياسيّة)
السياسيون في السودان بدَّدوا شيئاً مهماً للغاية وعجزوا عن استيعابه لأن الضغائن التاريخية تُعمِي
أنا منتمٍ جداً، فقط لمشروعي ككاتب فرد
مقدّمة المُحرِّر:
في مؤانسة نهارية بمقرِّ صحيفة (الجريدة) بحضور الكاتبين محمد أحمد غلامابي وحاتم الكناني وبحضور مدير التحرير ماجد محمد علي ومشاركتهم، استنطقنا الكاتب والشاعر والمحرر الثقافي مأمون التلب، حول الراهن السياسي والثقافي والاجتماعي، في راهن مائر بالتقاطعات والاحتقانات. وعن هموم الكتابة والكتّاب يقول مأمون: "الكاتبُالآن هو "البني آدم"، هكذا ببساطة".. ويضيف: "وواجب الكُتَّاب اليوم، الاعتناء بـ"حياة اللغة" التي بين أيديهم، إذ هي ما يستطيع أن يُؤثِّر أكثر في فهم الناس للغة".. محققين بذلك نبوءة محمد المهدي المجذوب بجعل الكتابة جزءاً من العيش. ومأمون نفسه واحدٌ من قلائل في بلادنا لم يكتفوا بالحلُم بل انغرسوا عميقاً في تُربة وجدان الناس هنا مُخصبين لكل ما هو جمالي وإنساني.
حوار: محمد فرح وهبي
*في ظلّ موجة الكتابة التي اجتاحت العالم الآن، امتداداً لثورة (السويشل ميديا)، برأيك، هل نحتاج لتعريف جديد للكاتب؛ من هو الآن، ومن هو الكاتب الذي بإمكانه أن يُحدثفرقاً حقيقيّاً بكتابته ويُؤثر؟
الكاتبُ الآن هو "البني آدم"، هكذا ببساطة. في كل أشكال الكتابة التي يُمارسها، حتى "الفكاهية-الونسة" منها، واستخدام رموز الوجوه الإلكترونية والأيقونات من قِبل الأجيال الجديدة لدرجة الشعور بأنهناك من يقوم باختراع لغة جديدة، وهو ما يحدث فعلاً؛ أي شخص هو كاتب الآن، ما يُميِّز الشاعر والفنان أن لديهما قدراتٍ مُختلفة، وعلاقتهما باللغة علاقة مختلفة. هناك كاتبٌ عامٌّ بالمعنى الإنساني، وهويستخدم اللُّغة لغرض مصلحيٍّ، واللغة بالنسبة له مُجرَّد وسيط، لكن بالنسبة للكاتب والشاعر والفنان تجد أن اللغة في حد ذاتها مقصودٌ وغاية، الحياة معها، استكشافها ككائن حي، والفرق أن البشر -فلنسمِّه الكاتب العام- لا يُريد أن يعي حتى لحظتنا هذه أن اللغة كائنٌ حيّ، كائنٌ يصنع التاريخ، لذلك يستخدم الكلمات بسهولة ودون مخاوف، لأن أبعاد هذه الكلمات وتأثيراتها وأعماقها لا يكشفها إلاالشعر والكتابة الأدبية والفن، يكشفها من له علاقة حية باللغة، وواجب الكُتَّاب اليوم، بعد أن أضحوا في المقدّمة مرةً أخرى عقبَ التراجع المريع والإقصاء القاسي الذي وقع عليهم إبّان القرون الأخيرة؛ أقول إن عليهم الآن - إضافة إلى أنهم يكتبون أفكاراً- الاعتناء بـ"حياة اللغة" التي بين أيديهم، إذ هي ما يستطيع أن يُؤثِّر أكثر في فهم الناس للغة. وكما قال شاعرنا الكبير المجذوب ذات يوم: (أحلم بجيليجعل الكتابة جزءاً من العيش كشرب الماء)، وقد جاء هذا الجيل.
الآن لا يوجد إنسانٌ لا يستخدم الكتابة، ربما كان الاستخدام ركيكاً وعنيفاً بقدر العنف الموجود في الواقع، لذلك تنهض مُهمة الكُتَّاب والفنانين بتغذية هذا الواقع الجديد بأعمالهم ومُبتكراتهم وأفكارهم، ودفعالناس لمزيدٍ من التجويد.
كناني: من وجهة نظر الكاتب الفرد برأيك: كيف يتم التغيير؟ مع العلم أنه حتى مُفردة مثل تغيير هذه أخذت مفاهيم جديدة في التقاليد الثقافية والسياسية في الشرق الأوسطمؤخراً، امتداداً لما عُرف بثورات الربيع العربي، مع ذلك دعنا نسأل، وفق المتغيرات الكثيرة هذه: هل بالإمكان حدوث تغيير، وهل الكاتب والفنان مُكلَّفان بالتغيير، وإذا كانا مُكلَّفينبهذا الأمر كيف يتم وبأيِّ الأدوات؟
في هذا العصر انتهت قصة القائد الواحد والنبي الواحد، تُوجد مساحةٌ مفتوحةٌ لمجموع أفكار غاية في الاختلاف، بإمكان أيِّ فردٍ أن يبني منصته الخاصة وأفكاره، انتهى عهد أن تدعو لفكرة ويؤمن بهاالناس بقدر ما أنك تثير الأسئلة وتُشكك في أشياء كانت أساسية وراسخة، والعالم نفسه شهد تحولاً كبيراً في كل شيء، لذلك أتخيل أن دور الفنان أو الكاتب هو "إنقاذي" أكثر من أن يكون "تغييرياً"،فمسألة أن يكبح فنان أو كاتب (دردقة) العالم لهذه الهاوية وللنهايات التي يمضي باتجاهها، أمرٌ صعب حدوثه، فالصراع بين هذه المؤسسات التي تُسيطر على العالم الآن -سواء كانت تجارية أو سياسيةأو ثقافية أو اجتماعية أو حتى عرقية ودينية...إلخ- ليس بإمكاننا أن نتدخل فيه، بمعنى أن نُغَيِّر أو نؤثر فيه، فهذه المؤسسات هي ذاتها ماضية نحو نهاياتها التي بدأتها بنفسها منذ تاريخ طويل، لذلكأتخيل أن وظيفة الفرد الفنان أن يتأمل يفكر ويكتب ويُوثِّق لكل ما يحدث الآن من وجهة نظره، وبعد ذلك يكون هناك العمل الجماعي لإنقاذ هذه الأشياء البسيطة. معظم المبادرات التي تتم حالياً هي مبادراتحدٍّ أدنى: أدوية مجانية لمُعدمين يحتاجونها، أكل، ملجأ، ملابس؛ إذ أن معظم الناس الآن في حالة نزوح وحروب في كُلِّ مكان في العالم، حتى وإن لم تكن الحرب فعليَّةً نجدها حرباً اقتصادية؛ كأن يعملسوقٌ مُعيَّنٌ على تحطيم طرق إنتاجٍ أخرى كانت سائدة لأجل سيطرة طرق إنتاج حديثة. مع ذلك يمكن القول أنه لم تتوقف، في يومٍ من الأيام، الثورة الفكرية والفردية، إطلاقاً، لم يحدث هذا قط في تاريخالعالم؛ منذ ظهور "عقل الإنسان" والذي سبق وقلت إنه هو، في حدِّ ذاته، ثورة؛ به اكتملت الثورة، والتغيير نفسه اكتمل.
كناني: تاريخ الكتابة الشعرية هنا لا زال غائباً على المستويين: الإقليمي والعالمي، ونجد تجارب كبيرة مثل المجذوب والذي لا يتم ذكره إلا في المناهج كاسم فقط،.. كأننا - شعرياً - حلقة غائبة.. مثلاً في (ويكيبيديا) لا تجد سيرة المجذوب أو التيجاني أو محمد عبد الحي أو غيرهم، من الشخصيات الأدبية المهمة، حتى تجربة حديثة ومهمة مثلعاطف خيري أو الصادق الرضي غير موجودة، ما تعليقك على هذا الأمر؟
طيب: سؤالك يشتغل على مستويين، بالنسبة لــ(ويكيبيديا) ومجالات التوثيق للكتاب العالميين فعلاً السودان غائب، والسودانيون غير آبهين بهذا الأمر نهائياً ولأسباب غامضة: مريبٌ جداً أن تجد سياسياً قدملنفسه في سيرة ذاتية ضخمة عبر هذه المواقع، وفي حال المبدعين، المفكرين الكتاب والفنانين وحتى المُغيِّرين الاجتماعيين أو الناشطين في حقول الجندر أو أدب الأطفال وغيره، تجد غياباً تاماً، وهذا أعزوهللكسل العادي. في مستوىً ثانٍ تجد أن كثيراً من الكتاب الشباب تجاوزوا هذه النقطة بعمل (مدونات) على الإنترنت. في ذات سياق الأسئلة هذه كنّا اشتغلنا معاً عن الأدب السوداني في ملفّنا (الممر) ياحاتم: هل هو مُهَمَّش أم مهَمِّش؟ وخلُصنا لهذه النتيجة وهي أن المبدعين السودانيين لديهم خاصية غريبة، إذ لا يدفعون بأنفسهم إلى الأمام، إلا بعض الذين لديهم خُطَطٌ طويلة المدى، وهؤلاء يتعاطون معالأمر باعتباره (بيزنس)، وهم في الغالب أصحاب تجارب خارجية واحتكاك بحركة النشر أو الدعاية أو الطريقة التي تسوق بها لنفسك، وغالباً ما ينظر الناس للواحد من هؤلاء بريبة حد مواجهته بأسئلةاستنكارية (إنت الزول ده معروف كتير ليه؟)؛ وبشكلٍ شخصيٍّ، أعتقد أنه في نفس المنحى الذي قاله حاتم، فهذا قصور كبير جداً. ومع ذلك توجد إمكانية لمعالجة هذا الأمر على الأقل إذا بدأنابالكلاسيكيات أو بدأنا من القرن العشرين بمعاوية محمد نور ومن بعده؛ أعتقد أنه سيكون إنجازاً كبيراً. وهو أمرٌ سهلٌ التنفيذ بالنسبة للأجيال الجديدة التي تتعامل مع التكنولوجيا بشكل متطور. لديَّ (عشم) كبير في أُناسٍ لديهم القدرة لفعل هذا الأمر في حال انطلقت مبادرة.
* مواضيع كثيرة أثرتها عبر صفحتك على (فيس بوك) وهي مواضيع طابعها شخصي، آراؤك فيها شخصية ولا علاقة لها بالمُنجز الإبداعي للكاتب، تحديداً موقفك من الروائيحمور زيادة؟
بالأساس دائماً الموضوع شخصي، والشيء الذي جعلني أنفعل وأنتقد حمور زيادة بحدة أنه (هبشني) شخصياً.
* كناني: مقاطعاً: ليس حمور فقط هناك رأيك مثلاً في محمود عبد العزيز ومصطفى سيد أحمد، ومُجمل ما تُثيره من مواضيع عامة، وقد تكون أنت غير متفق مع كثيرين يمثلون سواداً أعظم، لكن الصيغة التي أبديت بها رأيك اعتبرها البعض مثيرة واستعدائية؟
هناك أمر لا بد من الانتباه إليه وهو أن هذا (الفيس) الذي نستخدمه هو (فيس) صفوي للغاية، ولا علاقة له بالشعب السوداني. إذا سألت أيَّ شخص من الشارع عن رأي مأمون التلب في محمود عبدالعزيز، سيكون رده: مأمون التلب ده منو أصلاً؟
وبخصوص حمور زيادة كانت ردة فعلي شخصية، لأنني -وبصورة خاصة- أرى أن أي قدحٍ في الحركة الثقافية السودانية هنا في الداخل هو أمرٌ يمسُّني شخصياً، يعود ذلك لأسبابٍ عدَّة. مثلاً، في فترةالتسعينيات كانت المنابر الثقافية -بصورة عامة- في حالة جفافٍ تام، وآباء هذه الحركة الثقافية الحالية الحقيقيون هم أولئك الذين ظلوا في البلاد بعد موجة الهجرة الكبيرة التي شهدتها بواكيرالتسعينيات؛ أعني الذين ظلوا في مكانهم هنا في السودان، وبذلوا ما بذلوه ليفتحوا منابر، وعندما جئنا -كموجة كتاب جدد- لم نجد أيَّ شخص يمكن أن يقدم لنا أو يدلّنا، لا اتحاد كتاب ولا جمعياتثقافية ولا أي شيء، لا مكتبات عامّة، حتى المنتديات كانت صغيرة وشحيحة، وهي في مجملها كانت تتم في مكاتب محامين مثل مكتب المرحوم عمر الصديق المحامي أو نادي القصة في اليونسكو فيكراسي صغيرة وعدد ضئيل من الحضور، كان ذاك مشهد قحطٍ كبير.
في عمق هذه الحالة، قدم أشخاص -مثل الصادق الرضي، عثمان شنقر، أسامة عباس، محمد الربيع محمد صالح، مصعب محمد علي وغيرهم- وفتحوا منافذ بالصحف ونشروا وشجعوا غيرهم. الصادقالرضي، مثلاً، كانت لديه دائماً مبادراتٌ لجمع الناس مع بعضهم البعض، تعريفهم ببعض، ومن مبادراته المعروفة مؤتمر "مؤتمر قصيدة النثر"، وتدريبه أجيالاً جديدة من المحررين الثقافيين -أُعتبر واحداًمنهم- فالحركة الثقافية حتى العام 2005م، تحديداً، كانت نوعاً من بناء العلاقات بين الناس، بعد ذلك حدثت اتفاقية السلام ووقع انفتاحٌ في الصحف. أعتقد أن تلك الفترة كانت فترة ذهبية جداً للحركةالثقافية السودانية، جاء الكثير من الفنانين والمثقفين من خارج البلاد وحدث ثراءٌ مفاجئ، وكان أغلب الكُتَّاب والفنانين متحررين من أحزابهم ومن انتماءاتهم السياسية وتحديداً معظم المشرفين على الملفاتالثقافية، والذين قاموا بفتح الفرص لغيرهم. والمثقفون الذين يكتبون في هذه الملفات كانوا منفتحين جداً على عكس ما كان يحدث في الجانب السياسي من (كِسيّر مقاديف) وشتائم في الصحف، ضيعواخمس سنوات في تنافس مرير بدلاً من توجيهها للتغيير الاجتماعي. هذا في الجانب السياسي، في الجانب الثقافي حدث عكس ذلك، إذ أنه غير اتحاد الكتاب السودانيين والملاحق الثقافية كانت قدانوجدت منابر كثيرة أخرى ومبادرات مثل مبادرة (برانا) والاتحادات مثل اتحاد التشكيليين، ومركز الدراسات السودانية ومركز الخاتم عدلان. طيلة هذه السنوات كان الناس يعملون مجاناً، وكانت فترةاستشهاد جماعي، وهؤلاء الناس حقَّاً كانوا شهداء، تركوا مستقبلهم المادي ومستقبل رفاهيتهم وانكبوا بكلياتهم في الفعل الثقافي. لاحقاً، في الفترة ما بين 2010 و2011م، حدثت هزات كبيرة أثَّرت علىكل شيء، وما بين 2012 وحتى 2013 أطبقت الكآبة بكلياتها على الناس وحيواتهم وتوقفت أشياء كثيرة. لاحقاً نهضت الحركة من جديد ومع أجيال جديدة. مثلاً فعل ثقافي مثل (مفروش) جماعة عملالثقافية هو نموذج لهذه الحركة، في الأيام الأولى كان الحضور هم أنفسهم أصدقاؤك، وبعد فترة قدم الناس بآلاف وبإقبالٍ كثيف على شراء الكتب. نعم، قام مجلس المصنفات الأدبية، بكل صلف وعنفالسلطة، بإيقاف (مفروش) دون حتى أن يفتح باباً للنقاش، لكن مع ذلك (مفروش) قام بدوره كاملاً وأثَّر تأثيره. موقع إلكتروني مثل (البعيد) يسعى للنشر فيه اليوم مشاهير الكتاب العرب، مجلة (إكسير)بالمقابل أيضاً نشرت لما يقرب للأربعمائة كاتب وكاتبة، لذلك مسألة أن تأتي وتلغي كل هذا لأنك طبعت كتاباً وصلت عدد طبعاته ست طبعات أو سبعاً، وتَعُدُّ هذا الأمر نجاحاً، فهذا طموحٌ قاصر: أحلاممستغانمي، مثلاً، توزع رواياتها عشرات الطبعات، لكن أين تأثيرها في التاريخ؟ وبعد ذلك يأتي حمور ويقول إن كل هؤلاء الناس فشلوا، وأن الكتاب في الداخل -كما قال حمور- ماتت أعمالهمواختنقت" لأنهم لم يفوزوا بجائزة ولأن كتبهم لا توزع بعدد الطبعات، ولا تكتفي بذلك بل تطالب الكُتَّاب بالخروج من السودان لأن أعمالهم ستموت وتختنق؟ صدقني، هذا الحديث مسَّني بصورة شخصيّةلأبعد الحدود.
*يمكن أن يكون على حقٍّ في بعض جوانب حديثه وأن معظم الكتابات هنا لم تصل؟
أعتقد أنها وصلت وتنفست، آلاف الناس يمكن أن ينتبهوا لكاتب، ودونك الكاتب محمد حمد مثلاً في فعاليته الأخيرة هذه فقد كان الحدثُ ملفتاً، كان (أزاميل) كتابه الأول، وعند التدشين امتلأت قاعة الشارقةتماماً. كان الأمر مدهشاً حقاً لجموع الكتاب الذين حضروا الأمسية من جيلنا أو الجيل الأكبر، فكتابته فعلاً مؤثرة وكل هؤلاء الناس ينتمون إليه، ويحبون ما يكتب، ولا يمكن أن تصف كتابته بأنها "اختنقتولم تصل"!، هي وصلت وتنفست، غير هذا نجد أن الكتابة السودانية الآن أحدثت شدَّ انتباهٍ في أجزاء كثيرة من العالم، بدأ ما يشبه الانتباه لكثير من المجلات العربية في موضوع الأدب السوداني وكيف أنهحقَّقَ تقدماً جديراً بالالتفات إليه. الأدب السوداني لم يتوقَّف في يومٍ من الأيام، والكُتَّاب السودانيون مُجتهدون وصادقون في علاقتهم بالكتابة، وحتى القدوات في التاريخ السوداني كبيرة جداً؛ خُذ مثلاًمحجوب شريف أو أشخاص مثل كمال الجزولي وغيرهم، أشخاص تعرف عبرهم ما هو البذل والعطاء، الأمر يتجاوز محطة التفكير الذاتي في أن تصبح كاتباً عظيماً ويمتد لكل الكُتّاب من حولك ودعمهمبعضهم لبعض وهذه ميزة للساحة الثقافية السودانية، عكس مناطق كثيرة في العالم.
* يمكن أن يُفهم حديث حمور في سياق أنه نفس هذا الفشل أو الموات هو ما دفع بكاتب كبير مثل الطيب صالح للخروج، وهي نفسها الحالة التي قام برصدها النور حمد فيكتابه (مهارب المبدعين)، وهذه بنية موجودة وقاتلة وربما كان الهرب واحداً من سبل النجاة، وما قاله حمور ربما يصب في هذه الخانة لا سيما أن جذور هذه المسألة - أعنيبالتحديد النفي وقتل المبدع- ما زالت حية ومتواصلة؟
نعم حية، لكن الفرق بين فترة السبعينيات التي تحدَّث عنها النور حمد أو الطيب صالح، مختلفة ولا علاقة لها بما يحدث الآن. في السبعينيات مثلاً كان يوجد في المجال الثقافي شكلٌ من أشكال "الحُريات"،وعندما كان يكتب الطيب صالح كانت توجد مجلات ومؤسسات ثقافية وغيره في السودان، وربما لم تمنحه هذه المؤسسات فرصة أو لم يهتم به المشهد الثقافي الداخلي إلا بعد أن جاء (من الخارج)! نحن لمنجد أيَّ شيء: لا مؤسسة ثقافية ولا مكتبة عامة، وحتى الكتب عليك، لكي تعثر عليها، أن تقوم ببحثٍ مضنٍ جداً. عندما يصبح الناس أقلية في مواجهة وحشية كبيرة كهذه تضحى علاقتهم ببعض مختلفةتماماً. ربما عندما تُتاح لهم الحرية والمؤسسات الراسخة، ربما حينها يمكن أن يحسد أحدهم الآخر ويقصيه لأنه يمتلك الفرصة، باعتبار أنك تجلس في مؤسسة، الآن فكرة أن تجلس في مؤسسة فهذا ليسبموضوع، رئيس تحرير أم رئيس قسم ثقافي أم غيره، هذا لا يمنحك أي سلطة لأن الكاتب اليوم قادر أن يصل بنفسه، حتى إن لم يجد جائزة عالمية يستطيع أن يصل للجمهور. وبخصوص ماذا في رواية(شوق الدرويش)، فكما قلت لك مشكلتي بالأساس ليست مع مشروع حمور زيادة الكتابي لأني لا أقرأ له، يعنيني من الكاتب مواقفه.
** يعنيك من الكاتب مواقفه كما قلت، مع ذلك كانت مواقفك مبهمة في أوقات حدثت فيها أشياء مُهمَّة وربما ينظر لها البعض باعتبارها مصيرية نوعاً ما لتماسّها المباشربالسياسي والعام، هل يُقرأ موقفك كقطيعة مقصودة مع ما هو سياسي؟ مع العلم بأنه نفس هذا السياسي مؤثر في حركة الثقافي ووجوده؟
أقول لك نقطتين: الأولى، بصدقٍ كامل، أنا لست مهموماً بموضوع الثورة السياسية، أو تغيير الأنظمة السياسيّة، لا تمثّل لي هذه الأفعال موضوعاً ككاتب، لأن الثورة الفكرية لم يحدث أن توقفت في يومٍ منالأيام، ومُساهمتي في الثورة الفكرية هي ما يهمني.
* هل تتجاوز هذه الثورة الفكرية التي تقول بها، البُنى نفسها التي أنتجت كل هذا الواقع؟
الثورة الفكرية ومسألة خروجها للسطح لم تحدث، وما حدث في تاريخ العالم ويحدث الآن هو ثورات جياع، ثورات جسدية، بدءاً بفقدان الناس لحرية التعبير كتجريدٍ أعلى للجوع، نزولاً للحق في الطعام،المأوى، وهذه هي مشكلاتنا الأساسية الآن في السودان، وقصة عدم مُشاركتي في الفعل السياسي المباشر فهذه ليست قطيعة، بل لأنني متصلٌ من مكانٍ مختلف، وأؤمن بأنه الأبعد تأثيراً. مثلاً، في العام2012 قُدِّمت لي دعوة من قبل د.عبد علي إبراهيم ود.النور حمد لحضور ما أسموه بـ"الملتقى التفاكري الثاني لحل الأزمة السودانية"، وقدَّمت مداخلةً موجهة للمؤتمرين على اختلاف أطيافهم السياسيّة،حكومة ومعارضة، حركات مسلحة؛ قدمت في هذا الملتقى مداخلة سمَّيتُها (محبة الأعداء بالثقافة)، وبالنسبة لي فإن السياسيين بدَّدوا شيئاً مهماً للغاية وعجزوا عن استيعابه لأن الضغائن التاريخية تُعمِي،وهو أن أعداءك هم من يجب أن تُغَيِّرَهم أولاً، فمسألة أن لا ترى في فرد جهاز الأمن سوى وحش غير آدمي، أو في رجل الشرطة سوى (يونيفروم) بوليس المُستفزّ لمشاعر الثُوَّار مثلاً، أن لا ترى أيَّ شيءٍخلف هذه الصورة؟ مثل المُسبِّبات التي وضعت هذا الشخص في هذا المكان، الظروف الاجتماعية المُحيطة بالسودانيين والتي قد تجعل مثل هذا الأمر خياراً واعياً بالنسبة لهذا الشخص بل، ربما، مُؤمَناً به،أعني كون أن لا ترى في كل هذا سوى عداوة عنيفة وطلب للقصاص وغيره، هذا الموقف كان يمكن أن يكون مقبولاً في عالم السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات، لكن الآن كل العالم يمضي نحوالانهيار، لا توجد دولة أفضل حالاً من الأخرى في هذه الوضعية كما قال أمين معلوف في (اختلال العالم):
(إن جميع شعوب الأرض في مهب العاصفة بشكلٍ أو بآخر. سواء كنا أغنياء أو فقراء، مستكبرين أو خاضعين، محتلين أو تحت الاحتلال، فنحن جميعاً على متن زورقٍ متصدّع، سائرين إلى الغرق معاً.لكننا مع ذلك لا نكفّ عن تبادل الشتائم والمشاحنة غير آبهين بتعاظم أمواج البحر. ولعلنا قادرون حتى على الترحيب بالموجة القاتلة إذا ما ابتلعت أعداءنا أولاً إبان صعودها نحونا) عبر (محبة الأعداءبالثقافة) كُنت اقترحت طريقاً ثانياً للتغيير وهو عبر الأدوات التي تلامس كُلَّ شخص: الموسيقى، الآداب، المكتبات العامة، الفنون؛ فالطفل الذي يجد مكتبة عامة من المستحيل أن يكون خياره الجيش فيالنهاية، تحديداً إذا قرأ في فترة مُراهقته أدباً عن الحروب العالمية ومصير الأفراد فيها. إن الفرق الذي يجعل الأدب مختلفاً عن السياسة هو أن السياسة تتعامل مع جموع الآدميين كأرقام وكُتل، والأدب،بالمقابل، يُفتت هذه الكتل، ويُخبرك عن المصائر الشخصية وكيف تكون صورتها في خضم القرارات التي يصدرها البشر الجالسون فوق تلك العروش.
كثيراً ما تُعرّف نفسك باعتبار أنك (لا منتمي)، كيف تُقرأ (لا منتمي) هذه في ظلِّ أوضاعٍ مثل التي نحياها الآن؟
(لا منتمي) مثل ماذا؟ بالعكس، ربما هذا ما يفهم، ولكن توجد الكثير من الأشياء التي أنتمي إليها في الصميم: الشعر، الحركة الثقافية، وهو انتماء بمعناه الجماعي، توجد جماعة بعينها لديها أفكار مُحدَّدةوأشترك معها في هذه الأفكار، خذ مثلاً أجساماً مثل (مشافهة النص الشعري) أو (الحركة الشعرية) أو جماعة (عمل) الثقافية، سابقاً وصولاً لاتحاد الكتاب السودانيين. وجودي داخل هذا المؤسسات كفردينتمي لأفكاره وينتمي لمشروعه الفردي، وهذا انتماءٌ كافٍ، مُشبع جداً وهوية تدعو للافتخار. في فترةٍ ما كُنتُ جزءاً من تنظيم سياسي ولم أمكث فيه كثيراً، وخرجت منه لأنه بصورة عامة لا فائدة مرجوَّة منالجو الجماعي بالنسبة لشخصٍ مثلي، وكان سبب استقالتي السياسية في تلك الفترة هي أنني كاتب بالأساس، جوبهت بسؤال ذا طابع استنكاري مثل: (كاتب كيف؟ بالإمكان أن تكون كاتباً وسياسياًمعاً). وبالنسبة لي لا يلتقي الاثنان أبداً. في زمانٍ سابق كان بالإمكان حدوث هذا الالتقاء، في السبعينيات أو الثمانينيات لأنه كانت ثمة أحلام، والعالم نفسه كان منقسماً، وكان الكتاب والفنانون يتوقونللحرية التي كانت شعارات مَثَّلها عالم مثل (الحلم الشيوعي)؛ لكنَّ كُلَّ هذا الأشياء تكشَّفت في النهاية عن أوهام عكسها من عاشوا في بلدان هذه الأحلام. هذا قرنٌ مُختلفٌ وعالم مختلف، لذلك لا يمكنالقول بأنني (لا منتمي)، على العكس أنا منتمٍ جداً، فقط أنتمي لمشروعي ككاتب فرد.
* (غلامبي): الشكل والمحتوى الموجود في الملف الثقافي بصحيفة (السوداني) في ذلك الوقت 2006 مثلاً، لم يكن يختلف عن بقيّة الملفات الموجودة بالصحف، عند انتقال مأمون لصحيفة (الأحداث) حدث ما يُشبه النقلة في عمل الملف الثقافي، أعني بالتحديد تجربة ملف (تخوم)، هلا قدمت لنا إضاءة عن هذه التجربة والظروف التي ساهمت فيها؟
أحد أسباب نجاح هذه الفكرة كان الأستاذ عادل الباز. بالنسبة لي فإن السنوات التي فتح لنا فيها الصفحات والمساحات بصحيفة الأحداث تُعادل مرتباً كبيراً جداً، ولم أكن أهتمّ فعلاً بالمرتب بقدر مساحة الصفحات والحريّة كمقابل. ما يُميِّز عادل الباز عن بقية رؤساء التحرير أنه قادمٌ من نفس هذا الحقل الثقافي، وهو قارئ نهم وله علاقة كبيرة بالأدب، وقد كان جريئاً في فتح أمداء العمل الثقافي بالصحيفة، بدأنا العمل بصفحة ثم صفحتين وبعدها بثلاثة أسابيع أصبحت أربع صفحات وتكون (تخوم) عندما انضم الشاعر أحمد النشادر للملف، وكان بمثابة دفعة مختلفة جداً؛ فأحمد النشادر إنسان نادر ومُجدِّدٌ وصاحب طاقات كبيرة. في تلك الفترة قمنا بابتكار طرق وأساليب تحرير وكتابة جديدة، حدث هذا ربما بسبب علاقتنا باللغة، وكنا انفتحنا على قراءات كانت غائبة عن الحركة الثقافية السودانية، وبوصفنا -أنا والنشادر- كأفراد جُدد في الحركة الثقافية وبحكم عامل السن ربما كنا أقمنا علاقات كبيرة مع كُتَّابٍ جددٍ كثر، وهذه كانت ميزة كبيرة لأنه لم يكن هناك حاجز "الأستاذ الكبير" أو "الكاتب صاحب السيرة الطويلة".
طبعاً رسَّخ لهذا السلوك، كما أسلفت، أناسٌ مثل الصادق الرضي والمُحرِّرين الثقافيين من جيله، أضف لكل ذلك أننا شهدنا في تلك الفترة بدايات الانفتاح التكنولوجي الكبير وصار بإمكان المرء أن يمتلك (لابتوب) والتعامل بالإيميل مع كُتَّابٍ من مُختلِف اتجاهات السودان الجغرافية وخارج حدوده. ما أود الإشارة إليه أن ملف (تخوم) كان يُقرأ بكثرة في الولايات خارج الخرطوم، وحتى الآن أثق في الحركة الثقافية في الولايات عكس حركة الخرطوم التي أشعر بأنها صفوية نوعاً ما وتأثيرها على المجتمع ضعيف لأن المجتمع شاسع بحكم شساعة الخرطوم نفسها. ومع ذلك لا يخلو الأمر من غرابة ممثلة في ذلك الكلام القائل بأننا محض (شلة)!. طبعاً لا يمكن أن أتصور (شلة) قوامها ثلاثمائة أو أربعمائة شخص، أيضاً جوبهنا برفضٍ كبيرٍ من كُتَّابٍ كبارٍ في ملاحق أخرى، مع ذلك لم يتوقَّف الملف بل وصل عدد صفحاته لثماني صفحات.
*كيف تقرأ الآن مشهد الملفات الثقافية بالصحف مقارنةً بتلك السنوات الفائتة؟
يوجد فرقٌ كبير، وأوضاع المُحرِّرين الثقافيِّين الآن قاسية جداً، مقارنة بالفترة القريبة الماضية، بجانب أنه كانت مثلاً قوانين مجلس الصحافة والمطبوعات مُفعَّلة وهي تُلزم كل صحيفة بقسم ثقافي بكل تكاليفه. الآن أغلب المُحرِّرين الثقافيِّين هاجروا ومعظم الكُتَّاب كذلك من جيلنا تحديداً. الجيل الجديد مهتم بالصحافة الإلكترونية أكثر، وإيمانهم بالصحافة الورقية ضعيف جداً، لذلك مسألة أن يدخل أحدهم صحيفة ويتدرب مقابل 300 جنيه في الشهر كما حدث لنا فهذه مسألة غير منظورة بالنسبة لهم، فيما يتعلق بملف (الممر) فإنني استهدف جموع الشعب السوداني، لأن هذا المواطن الذي يقرأ صحيفة حتى الآن هو شخص مهم للغاية وقصة أن تتخيل أنه لمجرد أن قرأ لك الآلاف في الإنترنت أنك وصلت للشعب السوداني فهذا كلام غير سليم، هؤلاء القراء معظمهم خارج السودان، والموجودين أيضاًَ هنا يتحركون في سياقات مُحدَّدة، على عكس الصحف التي عبرها تمتلك خاصية أن تخاطب أي إنسان في الشارع.
على ذكر الوسائط، هل تكتب في هذه الوسائط بصورة تختلف عن الصحف؟ هذا ربما وفي بالك متلقون مختلفون، لا سيما أنك أثرت العديد من القضايا في (الفيسبوك) وتفاعل معها الناس، هل من المنظور نقل هذه القضايا للصحف الورقية ومناقشتها كقضايا تستحقُّ فعلاً؟
هنالك قضايا يمكن نقلها للجرائد، مثلاً قضية الأزمة بين مصر والسودان وقضية الشعر ومدارسه الحديثة، وبأي حال الصحافة الإلكترونية متجاوزة للورقية في عدد من الأشياء مثلاً حرية التعبير والوصول والسرعة، بالنسبة لي فيما يتعلق بصفحتي الشخصية بفيسبوك فهذه صفحة شخصية، وليس من حق أي شخص أن يُملي عليَّ ما أفعله فيها، لأنني أُعبر عن مأمون الشخص.
مقاطعاً: هل ينفصل مأمون الشخص عن مأمون الصحفي الذي يكتب في الصحف؟
نعم ينفصلان تمامًا، في الجرائد تعيش داخل الخطوط الحمراء وكيفية التحايل عليها، كيف تتجاوز التقاليد الصحفية ورؤساء التحرير وحتى الجهات الرقابية لتصل فكرتك صافية دون المساس وتجاوز الأسس الصحفية والمهنية المُتعارف عليها، بمعنى أن لا يقول لك أحدهم (لا) في كل المواضيع. بخصوص الصفحة الشخصية فهي المكان الوحيد الذي أُتيحت لنا فيه - طوال تاريخ حياتنا ولأول مرة - أن نقول كل ما نود قوله والتعبير عنه دون خوف، وبانفعال صادق. وقبل الآن انزعج كثيرٌ من الناس عن كلامي عن محمود عبد العزيز، وأنا عندي إشكال أن يُزعجك الناس بشخص، في فترة ما قرأ كل الناس ميلان كونديرا وأصبح ظاهرة، بالمقابل لم أستطع قراءته إطلاقاً وبعد عدد من السنوات وفي يوم مُختلف وبلد مختلف التقيت كونديرا وصادقته، انفتحت عليه، وربما يحدث لي أمرٌ مُشابه مع محمود عبد العزيز في زمن قادم، لا يعني كلامي عن محمود بأنه ليس فناناً، لم أقترب من هذه المنطقة مطلقاً فهذا ليس أصلاً بقول، وكل ما في الأمر أنني لا أملك قدرةً لسماعه، أُحب دائماً أن أصل لأشيائي بقَدَرِي الخاص، قراءاتي واستماعي للموسيقى، حتى شاعر كبير كعاطف خيري قرأت له (الظنون) وانفتحت عليه قبل أن أعرفه كشاعر مشهور أو، فيما بعد، كصديق عزيز. لاحقاً عندما سيطرت سيرة كتابه (سيناريو اليابسة) على الأفق في الجامعة وجدتني غير قادر البتة على قراءة هذا الكتاب، إلا بعد وقت طويل.
*إلى أي مدى يمكن للجوائز، بقدر ما فيها من جوانب إيجابية كأن تعرف الناس بمبدع أو كاتب وغيرهها؛ إلى أي مدى تنطوي على بعد آخر قد يوهم الشخص المحدد بالوصول وتمام التجربة، بالإضافة إلى انطوائها على بعد ربما صار تسليعياً نوعاً ما؟
بأي حال من الأحوال الجوائز مُضرَّة، لكن هذا الأمر يعود إلى معدن الكاتب نفسه؛ فالكاتب الذي يضعضعه نجاح، أو جائزة ويتحول، بمجرد أن يشيد به الناس، لكائن غريب، فهذا يتعلق بمعدن الكاتب وعلاقته بالكتابة. بالنسبة لي لديَّ مشروعُ كتابة وقراءة أتجه له وأعرفه حسب وجهة نظري حول (ماهية الكتابة)، بالنسبة لمن هم قدوتي في الكتابة مثل (ديستوفيسكي) و(هنري ميللر) أو (أمل دنقل) أو (محمد المهدي المجذوب) و(أورهان باموق)، هؤلاء الكتاب الذين يعيشون الحياة ويتعرفون على الناس دون توقف، إذ لا يوجد شيء هنا أو في الحياة الآخرة - كما قال ماركيز- غير مفيد للكاتب، أو كما قال كذلك: "إذا استطعت أن تكون أي شيء سوى أن تكون كاتباً فلا تكتب". ومسألة نجاح كاتب بالنسبة لي لا تمثل إضافة ولا نقصاناً، ما يهمُّني هو تأثير النص وليس نجاح كاتبه، قدرة النص على الصدم وتحريك ساكن الناس، هل هو كذلك أم محض تسلية لا تترك أثراً في ذاكرتك؟ لم تؤثر فيك ولم تجعلك تخجل من نفسك، قرأنا مقالاً يقارن بين (ديستوفيسكي) و(تولستوي) يقول فيه الكاتب إن (تولستوي) يوصلك لتبدأ البحث عن نفسك والأمل والحياة عكس (ديستوفيسكي) الذي يُحرجك جداً مع نفسك لدرجة أن رواياته مُنفِّرة بالنسبة للقراء. يقول محمد خالد خليفة، كاتب المقال: (من السهل جداً ضرب أمثلة عن هذه العبقرية – عبقرية ديستوفيسكي- عندما صور مشهد الكارثة التي أصابت آل مارميلادوف بقوله "فها هم أولاد سكان البيت يتجهون نحو الباب واحداً بعد آخر، وهم يشعرون بذلك الإحساس الغريب، إحساس اللذة الذي يُلاحظ دائماً حتى لدى أقرب الأقرباء حين يَرَوْن شقاءً يحل بقريبهم، وهو إحساس لا يخلو منه أي إنسان مهما يكن إحساسه بالأسف والشفقة صادقاً..") ويعلّق: (بالطبع لا يريد أحد أن يكتشف في نفسه مثل هذا. ولكن دوستويفسكي، يجبرنا بطريقة ما على أن نجد في نفوسنا الشيء السيء، ويقوم بفضح أنفسنا واكتشاف أمرها، لذلك عندما تقرأ له ينتابك الخجل.. وهذه أعظم سمة من سمات عبقريته، تشعر بالخجل وتأنيب الضمير لذلك تصعب قراءته فهو يجبرك على أن تخجل وتستحي، ويقضي على كافة محاولات التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي، وما أبرعه في تصوير الدناءة، والنفاق والرياء والقسوة).
وأقول إن الكاتب الذي يحرجك مع نفسك ويضعك أمامها ويجعلك تعيد التفكير فيها وفي قيمك كلها هذا هو الكاتب المُلهم بالنسبة لي.
*برأيك هل توجد كتابة اسمها كتابة وسائط وأخرى رسمية، بمعنى نفس المقال الذي يكتب بقصدية نشره على صحيفة هل يصلح للنشر عبر الوسائط مثلاً؟
نعم، عندما تكون مُتَّسقاً مع نفسك وأفكارك وداخلياً غير متناقض وكتبت بأي طريقة فهي ستكون كتابتك كمحصلة لك، تخبر عنك وعن أفكارك. الكتابة دائماً جادة والكلمة بدأت بها الحياة والمعرفة وكما يقولون البداية بين أي طرفين، سواء إن كانت سلاماً أم حرباً، تبدأ باللغة، وموضوع الكتابة. لا بد أن يفهم الناس جديتها ويقدرون حجمها، وكنت من قبل كتبت واصفاً الأجيال التي تكتب الآن، إذ يماثل حالها مشهد الأطفال الحزين ذاك حينما يعثرون على جسم غريب ويلعبون به وينفجر بغتة. في (السوشيال ميديا) يحدث أمر مماثل لقصة الأطفال هذه.. يُمسك أحدهم اللغة ويكتب ببراءة وفجأة يكتشف أنه فجَّر لغماً كبيراً جداً، ينفجر في روحه وتقوم حملات ضده وقد يوصف بأنه انتهك حقوق المرأة أو الطفل وغيرها، وكل ما في الأمر أنه كتب شيئاً ما وتركه هكذا. اللغة ليست شيئاً للعب يمكن أن يتسلَّى به المرء ويتركه، وهذه هي الحرب القادمة للكُتَّاب، توعية الناس بجدية الكتابة وجدية اللغة.
* (غلامابي): هل تؤمن بالنظريات النقدية الحديثة والتي تتحدث عن موت الكاتب؟
لا آبه بالنظريات النقدية كموت الكاتب وغيرها ولا أهتم بها. ولا يعنيني كشاعر مثلاً عدد من يقرأون شعري، إذا قرأ لي مائة شخص فهذا عدد هائل لأن الشعر ليس موجهاً لكل الجماهير، وما أكتبه تحديداً هو موجه لأفراد يلتقطونه وقلة الأفراد أمر لا يحبطني إطلاقاً. هناك من يقولون لي (شعرك غير مفهوم) أو معقد أو حتى سيئ مثلاً، هذه المواضيع لا تؤثر عليَّ حتى إذا أصدرت كتاباً شعرياً ولم يتم بيعه فليس في الأمر ما يؤلم البتة، ما يهمني حين مخاطبة المجتمع تلك الطرق المختلفة لمخاطبته: هنالك النثر، المقال، حتى الحوار والمواد الصحفية، الفيسبوك، وكلها وسائل أخاطب بها الناس.
* ما يحدث من تصارع بين المثقفين في الوسائط لا سيما أنني تابعت آراء لعدد من المتابعين العاديين غير المعروفين في الوسط الثقافي لهذه الصراعات ولمحت ما يشبه الأسى في تعليقاتهم وكأنما تكشّف لهم وجه لم يتوقع كثيرهم وجوده في حقل المثقفين تحديداً؟
هذا الأمر يُماثل تماماً حال إنسان يكبر ويجد أن والديه بينهما مشكلات، ومهما كنت عادلاً ومهما شرحوا لك الأمر، كلّ واحدٍ على حدة، فلن تستطيع أن تفهم المُلابسات إطلاقاً، لأن الموضوع مُعقَّد وله علاقة بتاريخ طويل ولا علاقة لك به. فالمشكلات التي تحدث بين المثقفين الأكبر منا سناً هي بالنسبة لي غير واضحة ولا أتدخَّل فيها، لأنني بصدق لا أستطيع أن أفهم الدوافع ومن المؤكد أنك لا تستطيع أن تُنصِفَ شخصاً على حساب آخر.
مقاطعاً: حتى وإن كان طابع هذا الصراع فكرياً أو حول موضوع ثقافي واضح؟
الصراع الفكري بالنسبة لي واضح وطبيعي وخلاق، وهو مطلوب. لكن كما قلت إذا كان الموضوع مُحمَّلاً بأسى وتجريح أُحبِّذ أن يحلَّ هؤلاء إشكالاتهم لوحدهم. مثلاً عندما جئنا اتحاد الكتاب وجدنا أن بين كثير منهم مشكلات لم نفهمها، وعندما تمَّ ترشيحي للجنة التنفيذية ودخلت اللجنة، كتب أحد الكتاب في إحدى الصحف مستنكرا هذا الأمر، وتساءل: من هم هؤلاء؟ ومن منهم أصدر كتاباً؟ ومن منهم من درس في جامعة الخرطوم؟ وهكذا أسئلة بالنسبة لنا هي نفسها غامضة.
* على ذكر جامعة الخرطوم، ألا تعتقد أنه قد أتى الوقت لمساءلة هذا المكان باعتباره نفسه واحداً من المُسلَّمات؟
أعتقد أن الدكتور عبد الله الفكي البشير قد بدأ في الكتابة عن هذا الأمر، وأعتقد أنه سيكون فعلاً مؤثراً وسيثير الكثير من الأسئلة حول إعادة النظر في جامعة الخرطوم، هو طبعاً قدم هذا الكلام في فصل كامل عن الأكاديمية السودانية في كتابه عن الأستاذ محمود محمد طه الموسوم بــ(محمود والمثقفين) وهو يعمل على توسيع هذا الفصل، وهو شخص متخصص وحتى الآن يأتي لدار الوثائق ويمكث فيه لفترات طويلة جداً يبحث وينقب، وهو يقوم بأشياء فعلاً قد تُحدث هزاتٍ كبيرة.
بالتأكيد المؤسسات مثل جامعة الخرطوم تحتاج للسؤال عنها وليس جامعة الخرطوم وحدها بل الكثير من الجامعات السودانية بالذات المختصة في الحقول الإنسانية والفلسفية والفكرية والدينية، تجد فيها إشكالات كبيرة. هذا الموضوع مُعقَّد وأنا شخصياً لا خبرة لي فيه لذلك لا أستطيع أن أُفتي فيه، فقط يمكن للناس أن يتابعوا د.عبد الله الفكي البشير. الجامعات السودانية النشاط الثقافي والفكري فيها رحيب للغاية عكس السياسي، وبشكل شخصي أدعو الناس بأن لا ينقطعوا عنها وإذا وصلتني أي دعوة لقراءة أو أي فعالية بالنسبة لي سيكون ذلك شرفاً كبيراً وسأُلبِّيها فوراً.
*ماذا عن مشروع الشاعر المتجول لا سيما أنك ثاني شاعر تم تنصيبه إذ كان الأول هو الشاعر بابكر الوسيلة، إضاءة عن هذا المشروع العظيم؟
الشاعر المتجول هو فكرة اقترحها الشاعر المغيرة حسين حربية وهو من أعضاء منتدى مشافهة النص الشعري، وهو مشروع ينطوي على بعدَين: شخصي وعام، فكرة مشافهة النص هي أن يخرج الشاعر من المركز هذا وينفتح على وجوه جديدة ويقرأ شعراً في منابر جديدة أو حتى في أماكن عامة ستات شاي أو أسواق وأي مكان يمكن أن يجد فيه هذا الشاعر طريقة لقراءة شعره للناس، يتواصل مع الناس شعرياً ويصل حتى للشعراء الآخرين الموجودين في أماكن بعيدة، بالنسبة لي أتخيل أن الإضافات مفتوحة للغاية وهي فكرة واسعة ومفتوحة على أفق لا نهائي، سأحرص في كل سفرية من أسفاري على اختيار خمس تجارب لشعراء تكون من التجارب التي أعرفها جيداً، وأقدمها في القراءات بمعنى أنني لن أقرأ شعري فقط بل سأقرأ شعراً لشعراء آخرين لأنه هناك من لم يسمع بكثير من هؤلاء الشعراء الذين يمكن أن أقرأ لهم، وعند عودتي سآتي بنصوص من تلك الأماكن التي زرتها لعرضها هنا.. الشاعر المتجول هي خبرة تُضاف للشاعر نفسه غير أنه يعطي خبرة الاحتكاك الدائم مع الناس، بلا شك تجربة الشاعر المتجول مُهمَّة للغاية لأنني سأُسافر داخل السودان، ولأنني لن أسافر لأجل عمل أو يقيدني ارتباط بواجب ووقت محدد، فالمناسبة هي سفرك أنت نفسك كشاعر وهذا شرف كبير بالنسبة لي ومنصب أهم من منصب رئيس جمهورية، بالذات عندما يسلمك له شاعر وباحث بقامة ميرغني ديشاب، وهذه هي الشرعية، أن يقدمك للجائزة شخص مثل ديشاب. وهو قامة شعرية وفكرية كبيرة، وهذا تكليف وهو منصب فعلياً يحتاج لأن يتفرغ له الشخص.
*كتبت رأياً واضحاً عن محمود الجيلي صاحب برنامج ريحة البن وهو رأي أيضاً أثار جدلاً لا سيما أنك انتقدت وجود الجيلي في مهرجان مثل مهرجان محجوب شريف؟
ما أود قوله أنني لا أشاهد برنامج (ريحة البن) إطلاقاً، بل جهاز التلفزيون بصورةٍ عامّة، وقد عاصرت التجربة منذ وقت طويل أيام الجامعة، لاحقاً صادفتني مرةً في التلفزيون ووجدتها – بشكلها التلفزيوني - أسوأ من تلك التي كانت بالجامعة، وما قلته هو أن مجرد وجود الجيلي في مهرجان مثل مهرجان محجوب شريف هو بمثابة منحه الشرعية فيما يقوم به من تجارة بالشعر، هذا عكس محجوب شريف الذي كان أكثر شاعر بعيد عن التجارة بالشعر وأكثر إنسان بعيد عن التجارة بالفن وعن التسليع بصورة عامة.
محمود الجيلي (شغال) باعتبار أن هذا موضوع لـ(البيزنس) كل ما يقوم به هو حشد هواة من حوله يترجَّونه ليقول لهم: يا سلام. من أنت لتصدر منك يا سلام هذه مثلاً؟ وكما أشار عثمان شنقر في مقاله عن ريحة البن أن هؤلاء الناس يريدون أن يقولوا بأن الشعر بدأ من محطتهم متجاوزين لكل الإرث الشعري السوداني.
قصة أن يمنح الجيلي مساحة في مهرجان شريف هي بالنسبة لي منحه شرعية كبيرة وتأكيد على أن ما يقوم به هو صحيح، وهذا عكس الواقع، وأعتقد أن هذا رأي يخصني وهو ليس بأزمة.
مقاطعاً: هنالك لبس ما بين رأيك قبل تنصيبك كشاعر متجول وبعده، تحديداً فيما يخص الشعر، قد يعتقد كثيرون أن رأيك الآن هو تعبير حي عن وجهة نظر رسمية يمثلها الشاعر المتجول وهي مكانة لها قداستها وسلطتها الخاصة ربما؟
هذا سؤال مهم جداً والموضوع نفسه لا بد أن يتم توضيحه أكثر وفرزه، قبل محمود الجيلي مثلاً كنت قلت رأياً واضحاً وعبر مقالٍ كاملٍ في روضة الحاج وهو مقال صحفي نُشِرَ بصحيفة السوداني (الممر). وغير ذلك الكثير من النماذج، ومسألة المنصب هذه لا تُغيِّرُني. والشاعر عبارة عن إنسان حرّ لذلك مسألة أن يُمنح منصباً ليحجّمه فأعتقد باستحالته، إذ يحدث ذلك مثلاً لشخص دبلوماسي أو في مؤسسة دولة كممثل في ملحقية ثقافية لزاماً عليك ارتداء بدلة وكرفتة ومجتمعات رسمية، كل شيء محكوم بطريقة معينة (لبسك أكلك مشيك)..إلخ. أما منصب كـ(الشاعر المتجول) فاسمه متجول: لاحظ الحرية في هذه الكلمة، الشاعر المتجول ليس منصباً يمنحك الأحقية لتقول رأيك كشاعر متجول بل لتقول رأيك كمأمون التلب، كما كنت تقوله من الأساس. يمكن أن تتهمني اتهاماً كهذا -أعني استغلال المنصب- إن كنت أنا (مسكييين) قبل الشاعر المتجول، يمكنك أن تتهمني إن حدثت لي تحولات كثيرة بعد تنصيبي، وأضحى صوتي فجأةً عالياً.
.مقاطعاً: كيف يعي جُلُّ المُتابعين الآن للحركة الثقافية أن ما يصدر عنك في هذه اللحظة من آراء هو يُعبِّر بالضرورة عن وجهة نظرك كمأمون وليس بوصفك الشاعر المتجول، تستمد سلطة قول رأيك من هذه الصفة، وهناك فرق طبعاً؟
طيب، لمزيد من التوضيح، ما أكتبه بصورة شخصية هو واضح وما يُعبِّر عن وجهة نظر الشاعر المتجول تجد (هاشتاق) الشاعر المتجول مرفقاً مع (البوست)، أياً كان شكله، وهذا تقليد بدأه الشاعر المتجول السابق بابكر الوسيلة، أي شيء يصدره كشاعر متجول يكتب تحته (هاشتاق) #الشاعر_المتجول، وهي في معظمها أشعار أو أخبار لفعاليات ثقافية.
ما أود الإشارة إليه أن الطريقة التي يتحرك وفقها الشاعر المتجول تأتي عبر طريق الدعوات من الأقاليم وهي تتكفل بكل الحركة تبع الشاعر في المكان المحدد، حالياً توجد دعوة من بورتسودان بداية شهر مايو الحالي، والمشرفون على البرنامج مجموعة من الشباب ورتَّبوا لعمل قراءتين واحدة في اتحاد الأدباء والكتاب والثانية في جامعة البحر الأحمر بالإضافة إلى برنامج سياحي، وأهم من المنتديات العامة برأيي هي مسألة التجوال في الشارع، وما يهم أكثر هو مسألة الاحتكاك بشعراء آخرين والتعرف عليهم عن قرب، وتوجد أيضاً دعوة من القضارف من منتدى شروق الثقافي ومن شباب في عطبرة ودعوة من الفاشر وحلفا القديمة وكوستي، حقيقة إن تلك الأماكن مزدهرة فيها حركة الكتابة والقراءة، ونجاح كل سفرة هو تحفيز لآخرين للاقتراب من الفكرة أكثر وأنا أعرف أن لديَّ قراء في أماكن كثيرة، وأعرف أنه لن أذهب وأقف في مسرح ويمتلئ بقدر إيماني بهؤلاء القراء مهما كان عددهم فإنهم يستحقون أن يذهب إليهم المرء ويقرأ أشعاره أمامهم، يتعرف عليهم ويحتك بهم.
بالنسبة لي هذا أيضاً محك للكتابة الجديدة أو كما يسميها محمد الصادق الحاج بالأحوال الجديدة في الكتابة (لا أحبذ تلك التصنيفات كقصيدة نثر أو قصيدة حديثة أو ما بعد حداثة لأن هذه الأسماء جميعها بالنسبة لي مشوشة جداً)، المادة الأدبية هي التي أمامك، ومحاولة تصنيفها أولاً كتمهيد لفهمها هو أمر غير مجدٍ والمساحة بين القصة والرواية والشعر تلاشت إلى حد كبير، وحتى بينها والتشكيل والتصوير والموسيقى، تجد كل هذه الأشياء تعمل مع بعضها البعض وتوجد تجارب عديدة لمبدعين قدموا لقراءة بالموسيقى أو بالرسم وهذا شكل العالم الحديث الآن، وهو عالم معقد ويحتاج فعلاً لطريقة لفهمه، لتستوعب كل هذا التعقيد، مسألة الزخارف لا تستطيع استيعاب هذا الأمر ولا حتى القضايا التي تناولها الشعر في يوم ما كموضوعات الوطن أو الغزل المدح والذم أو أشعار المناسبات إلخ، كل هذه الأشياء بدأت تتلاشى، مثلاً في الشعر تجد أنه في (بنات بقن مافيشات) قصيدة جميلة مثل: البنات شدرن دموعن كلما نتر الحبيب دلّن فروعن. (ديل مافيشات هسه) في نوعيات من الكائنات الآن لا وجود لها وحتى نوعيات علاقات أيضاً، مسألة علاقة مفتوحة التي تجدها على (الفيسبوك) هي مُربكة جداً لكثير من الناس حد أن يسألك أحدهم: (ده شنو "أوبين رليشن شيب" ده؟).
لذلك كوننا نسعى في هذا التوقيت لاستيعاب العالم بشكله القديم داخل هذا الجديد المجهول والممتع في التعرف إليه، فهذه مصيبة كبيرة.
وكون أننا لا نفهم مسألة الثورة ضد النظام العالمي الحالي (الرأسمالي) والتي يجب أن تقوم داخل مؤسسات النظام فهذا إشكال لأنه واضح جداً مآلات ونتائج الثورة من خارج المؤسسات، ودونك داعش كثورة من خارج المؤسسة، مثلها والاتحاد السوفييتي بثورته الكبيرة والأكثر تنظيماً. ودائماً أي شخص يحاول أن يفجر منظومة الحداثة في العالم عندما يأتيها من الخارج فهو خسران، ودونك مثلاً (الكيزان) هنا في بداياتهم حاولوا أن يأتوها من الخارج بحلم السيطرة على العالم ودولة إسلامية عالمية وكذا، ولم يكن أي شيء في النهاية لأن العالم لغته مختلفة، التغيير والثورة الفكرية ميقاتهما اقترب وأثق تماماً في الأجيال الجديدة على الرغم من كل ما يقال عنها وأرى أنهم من سيخرجون بنا للأمام، فهذا ليس ذلك العالم الذي عشنا فيه: عالم يسار ويمين، وديمقراطية ودكتاتورية اشتراكية، رأسمالية ودينية ولا دينية وعلمانية وغيره، هذا عالم لأناس أضحت كل هذه الأشياء لا تعني لهم شيئاً.
*غلامابي: كثيرون يقولون إن هذا زمن الرواية امتداداً لقولك بتلاشي الحدود بين الأشكال الفنية المختلفة؟
الرواية بلا شك هي أكثر جاذبية من الشعر لكن الناس الذين يقولون بموت زمن الشعر حدث لهم الآن ما يشبه (الخلعة)، نسبة للحركة المدهشة للشعر اليوم، ممكن أن ينظر لها شخص ما من على البعد ويشعر بأنها عشوائية نوعاً ما وينتابه الشعور بأن أي شخص الآن يكتب شعراً، وأن كل البلد صارت شعراء، كلام من هذا القبيل، فقط كل هذا الأمر يمكن أن يُقرأ كمؤشر لمدى تأثير الشعر على الناس حتى لحظتنا هذه، ومسألة التعبير بالشعر والكلمة المكثفة يخبر عن دور الشعر الكبير والمؤثر حتى الآن، وأنه لم يمت. اليوم في عالم الميديا الجديدة يسيطر ما هو سياسي، وعند عثورك مصادفة على نص شعري في (فيسبوك) مثلاً يكون حالك كمن عثر على وردة في خرابة، واستنشاقها عو تأثيرٌ مُبهرٌ في حدّ ذاته.
ماذا عن الحركة الشعرية وهي قدمت كتابين شعريين لك للشاعر محفوظ بشرى؟
الحركة الشعرية لديها مشروع لا سيما أن هذين الكتابين أنشآ نوعاً من الميزانية، وحتى الآن يدور نقاش عما يمكن فعله بها، عندنا بعض المال يفترض أن نُصدِر به كتاباً قادماً بطريقة أجود، والحركة الشعرية، كما كتبت عنها، هي ليست حركة لديها عضوية وهي حركة فكرية أكثر، مساهمتي أو مساهمة حاتم أو غيرنا في الكتابة والشعر والقراءات وحتى في الاشتراك في مشروع الشاعر المتجول، وكما قلت فإن هدف الحركة الشعرية هو تحسين الكتابة في عالم كله يكتب، تكمن الأزمة فقط في التعاطي بجدية أكبر مع الكتابة، وواضح أن العالم يمضي للأسوأ بالكتابة الموجودة على الإنترنت يمكن أن تقرأ هذا، إذ أن إثارة الكراهية هي الخطاب السائد وهو خطاب الشعوب عموماً، ومسألة أن نتخيل أنه يوجد شعب متطور أكثر من غيره في مواضيع النظر للآخر إذا كان آخر عرقياً أو دينياً أو عالم ثالث وغيره، كله وَهْم، فالأغلبية في أمريكا اتنتخبت (ترامب) وفرنسا تتخوف من (ماريان لوبان) وصعود كبير جداً لليمين المتطرف في دول لم يكن الناس يتخيلوا -مجرد تخيل- حدوث ذلك فيها.
الشعوب تظل هي الشعوب ما دامت توجد (ميديا) عامة، وفي كلمات تتشكل في (الميديا): شرق وغرب وعالم إسلامي وعالم عربي والعالم (الما عارف إيه) والإسلام المتطرف والإسلام المعتدل! هذه تصنيفات وهمية للغاية، ومهما حاولت أن تقنع شعوب الغرب بأن الإسلام مثلاً ليس هو ما يعرض أمامهم، لن يصدقوا ذلك. أي شخص محبط يفجر نفسه، وهذه حالة اكتئاب عالمي. والناس الذين يفجرون أنفسهم كحالات فردية في العالم هي حالة اكتئاب وليست ديناً ولا جهاداً، راجع تاريخ الأشخاص المتفجّرين هؤلاء ستجد أنهم أصاحب سلسلة من الإخفاقات، مثلاً الشخص الذي دهس الناس في (نيس) الفرنسية بكل وحشية كان يتعلّم التكبير قبل عمليته هذه بأسبوعين، وهذا يدلّ على نية انتحارية مسبقة.
لا علاقة مباشرةً للدين بما يحدث إطلاقاً، هذا اكتئاب لا أكثر، ومنظمة الصحة العالمية بنفسها أعلنت أن أكثر الأمراض انتشاراً في العالم اليوم هو الاكتئاب وهو أصعب مرض يواجه العالم الآن، وهذه نتيجته: كل هذه الحروب العالمية الدائرة اليوم هي في حقيقتها عبارة عن حالات اكتئاب جماعية.
ــــــــــــــــــــ
نُشر يومي: 1-2 مايو 2017م - صحيفة (الجريدة) - الخرطوم
تعليقات
إرسال تعليق