بوَّابةُ الشرق
(عشرة أيامٍ بين مدينتين)
مأمون التلب
مكتب وغاليري التشكيلي فيصل تاج السر
عشرة أيام قضيناها مرتحلين في شرق
السودان، أيامٌ قضيناها في مدينة كسلا، وأخرى جاورنا البحر الأحمر فيها بمدينة
بورتسودان، وكذلك مررنا بتجربة العبور ما بينهما مرّتين، ورأينا خلالها المعنى
الحقيقي والواقعي للسراب؛ سراب الأحلام والطموحات والحيوات المفقودة في الصحارى
والقرى الصغيرة المبتورة من جسد الدولة الخادم للشعوب التي من المفترض أن تدير
حياتها. كذلك قابلنا الوجوه الأخرى المشرقة للشرق، ممثلةً في إنسانها وثقافته
واستيعابه لما يجري من حوله، فقد قابلتُ شباب الحِلَّة في كسلا وقضيت معهم مساءات
شيّقة في الحوار حول مختلف القضايا والهموم بعقولٍ مفتوحةٍ وذكاءٍ لمّاح ومرحٍ لا
يخلو أحياناً من السخرية المريرة والكوميديا السوداء، كذلك رافقت الفنانين
والمثقفين في جولاتٍ بمدينة بورتسودان، والذين استقبلونا بحفاوةٍ لن تُنسى؛ زرت
الغاليريهات وجلسنا إلى البحر وأوليناه أرواحنا، كما تكرَّم اتحاد الأدباء
والفنانين بمدينة بورتسودان باستضافتنا خلال أمسيةٍ ثقافيّةٍ نعرضها خلال هذه
الرحلة المكتوبة.
(صحيفة (الحداثة) اليوميّة، الأحد 1 مارس 2020م)
كسلا
كنتُ محظوظاً أن صادَفَت نزعتي للسفر، في رحلةٍ إلى الشرق،
زواجَ ابنة الراحل عثمان حسين شقيق أستاذنا الكاتب والناقد المعروف جابر حسين، وعلاقتي
بأسرة حسين ممتدّة ومُتأصلة لسنوات، حتَّى أنني أصبحت ابناً بينهم. برفقته وابنته عازّة،
وصديقتنا الألمانيّة ساسكيا العاملة بمعهد جوته الألماني، التي رافقتنا لأغراض سياحيّة؛
جميعنا غادرنا مدني متوجّهين إلى كسلا لاصطحاب صديقتي القديمة وشقيقة جابر الأستاذة
نفيسة حسين من بيتها هناك، حيث تُقيم، قضينا يومين التقينا فيهما بابن كسلا الدكتور
محمد الخاتم، والذي تعرّف عليّ صدفةً وأخبرني أنه من المتابعين لما أكتب من خلال الملفات
الثقافيّة بالصحف السيارة لسنوات. كان ذلك مدخلاً لتنسيق قراءاتٍ أدبيّة مصغرة لمجموعتي
الشعريّة لشلّة من شباب المدينة، بجانب نادي مريخ كسلا، وكانت القراءة باباً أدَّى
بنا لعقد صداقةٍ وحواراتٍ في السياسة والثقافة ومواضيع هجرة الشباب والبطالة وأوضاع
المدينة بصورة عامَّة، وكان وعيهم عالياً بكلّ شيء، فقد تأثّروا بالثورة الأولى التي
أنجزوها وشهدوها في حياتهم، ديسمبر المجيدة، فقد كانت أعمارهم تتراوح ما بين 20 –
27 عاماً. بعضهم كان مشاركاً وبفاعليَّة في اعتصام القيادة العامّة بالخرطوم، وجميعهم
لم يتغيّبوا عن اعتصامهم بمدينتهم. كانت أغلب حواراتنا تدور حول السفر والهجرة، وهل
هو الوقت المناسب لذلك؟ أعمارهم الصغيرة تقف إلى جانب مَن يرون أن الهجرة ضرورة قصوى،
فما الفائدة من تبديد العمر في بلدٍ يُقعدُ أبناؤها تقدّمها وتبدو عاجزةً عن التطور
على الأقل في المستقبل القريب الذي سيلتهم أعمارهم كاملةً، بينما يرى البعض الآخر–
لنقل الأغلبيّة- إن الوضع المُتغيِّر يُمكن أن يَهِبَ حياتهم معنى إن وُجِّهت ناحية
البناء لأجل مستقبلٍ أفضل لمن سيأتون، فقد بذل أهل البلاد المتقدّمة الدماء والحروب
والمآسي في سبيل هذا التطور– يقول أحدهم- فإلى متى ننتظر جيلاً ليبني ويردم الهاوية
المُتعاظمة في جميع نواحي حياة السودانيين؟ ماذا عن الأطفال القادمين؟
مسرح تاجوج
البنية التحتيّة للثقافة في كسلا تعتمد على مباني مسرح
تاجوج الذي تمَّ ترميمه حديثاً، وتمت إعادة تسميته بإضافة كلمة (الجديد)، مساحته رحبة
وجدرانه زُيِّنت بجداريات ولوحات جميلة. في حوار تلفزيونيٍّ بتلفزيون الولاية مع الأستاذ
جابر حسين وشخصي، تحدث الأستاذ عن المسرح وتاريخه، وعن جماعة أولوس الثقافيّة في ثمانينيات
القرن الماضي والتي مثّلت إضافة كبيرة لمشروع الحداثة الأدبي في السودان، من خلال إصدارتها
نصف الشهريّة التي كان يشرف عليها أدباء مثل الشاعر محمد عثمان كجراي، مبارك أزرق،
ميرغني ديشاب، وجابر نفسه، والراحل أحمد طه (الجنرال)، وغيرهم. وانطلقت من الحوار دعوة
لبعث الجماعة بدايةً بنشر إبداعات أهل المدينة خلال صفحة الجماعة المُفعَّلة بموقع
فيسبوك. كذلك جاء الذكر على اتحاد الأدباء والفنانين بالمدينة والذي يُعاني إهمالاً
شديداً، عبر عنه الأستاذ إبراهيم نايل، مرافقنا وشاهد لجميع مراحل النشاط السياسي والثقافي
بالمدينة منذ سبعينيات القرن الماضي؛ بوصفه للأشجار العشوائيَّة الكبيرة التي تسكن
دار الاتحاد، وتحوّله إلى ما يشبه الخراب رغم أهميّته في مرحلة ما بعد الثورة.
غاليري خُلاَل
غادر الفنان محمد المعتصم، خريج كلية الفنون الجميلة،
إلى المملكة العربية السعودية مغترباً بعد تخرّجه، ثمَّ عاد إلى بورتسودان، حيث ينتمي،
مُقلِّباً وجوه الأعمال التجاريّة المحتملة في المدينة. في العام 2018م، خلال احتفالات
رأس السنة، وخلال زيارة صديقه الفنان محمد صديق من الخرطوم، تمَّ الاتفاق على افتتاح
غاليري ضمن فرص المعارض الصغيرة التي أُنشئت في المدينة المشكّلة لما يُعرف بـ"سوق
البازار"، هناك، على امتداد ممرٍّ متّسعٍ رُسمت على جدرانه العديد من المنحوتات
والجداريات، في محاولةٍ لعكس ثقافة المنطقة والتراث السوداني المتعدد والحضارة والتاريخ
من خلالها. البازار، بصورةٍ عامَّة، يعرض أدوات زينة وأعمالاً يدويّة وجلديّة، خزف
ومنسوجات وعطور، ووسط ذلك افتتح محمد المعتصم غاليري (خلال) ليكون معرضاً تشكيليٍّاً
متخصّصاً فقط في عرض الفنون المُنتجة لفنانين محليين. واجتذب الغاليري السيّاح- على قلَّتهم-
ومحبّي الرسم والتلوين من شباب وشابات المدينة، والذين يأتون كذلك لحضور حصص الرسم
للمبتدئين التي ينظّمها الغاليري. يقول محمد المعتصم مؤسس الغاليري لـ"الحداثة"
إن الإقبال جيّد، خصوصاً أعمال البورتريهات التي يُنفّذونها للزوار، ويقول إنهم يعرضون
أعمالاً لفنانين أصدقاء من الخرطوم. وعلى المستوى المحلّي فإن المعتصم يطمح لأن يكون
الغاليري نواةً لتأسيس فرع من كلية الفنون الجميلة بالمدينة التي من الممكن أن تقدّم
خدمة التعليم لجميع مدن الولايات الشرقيّة، حتَّى وإن تكوّنت كليّة بجامعة البحر الأحمر.
في هذا الاتجاه، دُعيت لمرافقتهم إلى أكاديميَّة (برايت
لايت Bright Light)
حديثة التكوين، والتي أتاحت لهم مساحةً مكانيّة لمباشرة ورشهم السنويّة لتعليم الرسم
للفنانين وللمبتدئين كذلك، والتقيتُ هنالك بحفصاء أحمد إحدى المؤسسات للأكاديميّة التي
تقدّم خدمة تعليم اللغات والحاسوب وكورسات التنمية البشرية والدورات التدريبيّة المتخصصة
كالرسم. يقول الفنان محمد صديق القادم من الخرطوم لأجل هذه الورشة، إن أعداد المنتسبين
يتصاعد يوميّاً خلال الورشة، وإن هذا الإقبال دفعهم للتفكير في مبادرة لتأسيس القسم
الذي يحلمون به.
بورتيف يوث
في الشوارع، تفجَّرت طاقات الإبداع الفني مُرافقةً للثورة
كما كان الحال في بقيّة مدن السودان، إذ كان الرسم في جدران الشوارع التي ضمّت اعتصامات
الشعب السوداني مؤشراً لاستقرار الثورة واستمراريّتها وثقتها الكاملة في بلوغ أهدافها،
الموسيقى والغناء والشعر والرسم، الأدوات المدنيّة الأولى التي مثّلت رأس الرمح في
التعبير عن الثورة وأحلام الثائرات والثوّار، وفي خضمّ ذلك تكونت جماعة (بورتيف يوث
Portive
Youth) الفنيّة. يقول في شأنهم كاتب القصة القصيرة
والمحرر بمجلة (جيل جديد) الثقافيّة، الأستاذ أيمن هاشم، إن بورتيف تكوّنت أيام الاعتصام
كما حدث لكثيرٍ من المجموعات في مختلف المدن، وانتشرت رسومات أعضائها في العديد من
المرافق وشوارع المدينة مثل جامعة البحر الأحمر ومدرسة كلية التربية، إضافةً لغرافيتي
شارع القيادة العامّة، مركز الاعتصام، وأن فِعلهم قد حرَّك الساحة الفنيّة ودفع بالمبدعين
للخروج بفنونهم إلى الشعب الثائر، والسائر في شوارع المدينة يوميّاً، من هذه المجموعة
الأستاذة إسراء السر الصافي، التي لم نتمكن من مقابلتها في المقر الذي أسسته المجموعة
بوسط المدينة، وهو عبارة عن غاليري لأعمالهم. وجدت المجموعة تجاوباً شعبيّاً واسعاً،
وتميّزت أعمالهم بالتجويد.
أيمن هاشم من المؤسسين لمجلة (جيل جديد) الثقافية الإلكترونية
الشهريّة، والتي بدأت بجريدة حائطية بجامعة بورتسودان، حتّى أصبحت اليوم موقعاً لنشر
الإنتاج الثقافي والفكري والأدبي والفني من كل البلدان المُعبِّرة بالعربيّة.
ريدة
قابلت مهندسة الديكور والرسامة مروة عبد الله محمد الطيب
في محلّها، اختارت له اسم (ريدة)، تفتح واجهته مباشرةً أمام غاليري خلال بممر سوق البازار،
فبجانب الأعمال اليدويّة والفلكلوريّة المميزة، هنالك لوحات تشكيليّة معلّقة تخصّها.
فرغم تخرجها عام 2014م في كلية التصميم الداخلي بجامعة أم درمان الأهليَّة، لم تتوقّف
مروة عن ممارسة الرسم وتنمية مشروعها الشخصي والبحث عن سبلٍ لرعايته، من خلال الدخل
المادي الذي يوفّره العمل في مجال التصميم الداخلي. تقول لـ"الحداثة" إن
الرسم هو الأساس في حياتها، وإن بورتسودان هي البحر، هو الذي يُحيط بحياتها وخيالها
كفنانة. وبحماسٍ تقضي مروة فترة ما بعد الظهر إلى المساء في محلّها (ريدة) الذي لا
يخلو كذلك من زيارات فنانين آخرين من مجالات إبداعية أخرى. مروة وُلدت وعاشت معظم حياتها
بليبيا وعادت للسودان للدراسة، ومنها، نسبةً لانتماء أهلها، انتقلت لمدينة بورتسودان
حيث تُكافح للحفاظ على حياتها كرسّامة وسط التزامات العمل في مجال التصميم. وبعكس رصفائها،
عرفت من حديثها أنها على معرفةٍ بالفنان التشكيلي فيصل تاج السر، الذي يُعتبر اليوم
الفنان التشكيلي المحترف الوحيد تقريباً بالمدينة.
مرسم ومكتب فيصل
تعرّفت على فيصل منذ بدايات الألفيّة عن طريق المراسلة،
لم نلتقِ وجهاً لوجه لأكثر من 15 عاماً من الصداقة والتواصل عبر الرسائل والمواقع الإلكترونيّة
العربيّة المهتمة بالثقافة والفنون والآداب، وانتقلنا معاً لعصر مواقع التواصل الاجتماعي،
وكان لقاؤنا الأول والأخير في العام 2014م ببورتسودان خلال مهمة للبحث عن الآثار الفنيّة
للتشكيلي الراحل أسامة عبد الرحيم، ابن المدينة، ولأسفنا لم نعثر له على أثر بعد أن
تعبنا في الوصول إلى منزل أخته وزوجها. هذه المرة كان اللقاء أكثر رحابةً، تحدثنا في
مكتبه عن التشكيل والفنون عامةً في سياق الثورة، ما قبلها وما بعدها، وعن إحجامه من
المعارض التشكيليّة، إذ يكتفي صديقنا بتعليق لوحاته بأسلوبه الجميل على جدران مكتبه
الشاسعة في الاتجاهات الأربعة حتّى تُقارب أن تلامس السقف، بحيث يُصيبك الارتباك عندما
تكتشف- إن كنتَ من الباحثين عن الفنان- أن المكتب العتيق يعمل في مجال التخليص الجمركي؛
إذ تبدو أوراق العمل والفايلات متواضعةً أمام الغطاء المُتنوّع لتشكيلات الألوان وأساليب
العمل على الخامات المختلفة والأبعاد الغائرة لأعماله المميزة. يقول فيصل، أمام أسئلة
وإلحاح الأستاذ جابر حسين في لقائنا الأول في النادي العالمي، إنه لن يقوم بالجري وراء
تنسيق وتنظيم المعارض العامّة، إذ أن هذه وظيفة شخص آخر، وهو الوسيط الفني الذي يبحث
عن الفنانين وأعمالهم ويُنسّق مع دور العرض كما يحدث في بقيّة أنحاء العالم. كلانا،
جابر وشخصي، رأينا في ذلك حرماناً لمجموعة قيّمة من الأعمال التشكيليّة، خصوصاً أهل
المدينة الذين لم يسمع فنانوها عن وجوده من قبل، الشباب منهم على الأقل، والذين التقيناهم
في جولتنا الشرقيّة.
بعد يومين، نسّقت مع الشباب زيارةً لمكتب فيصل، وكان
اللقاء الأول حميماً وتلقائيّاً تداخل فيه الحوار حول الهموم الفنيّة بصورة عامّة،
وما يُمكن أن يُنجز من مشاريعٍ مشتركة فيما بينهم. في اليوم الأخير تركتهم يتّفقون،
ومعهم شعراء وكتاب ومثقفون من الجنسين في كورنيش البحر، على الاجتماع لتنسيق فعاليات
للكتاب المفروش دوريّة أسوةً بمفروش جماعة عمل الثقافية في الخرطوم، وأن يكون نقطة
انطلاقٍ للكثير من العمل. وقد رحّب فيصل بكل مبادرة وعبّر عن دعمه غير المشروط لكل
ما يُمكن أن يُؤسس في المستقبل.
وفي ختام زيارتنا ذات الطابع الرسمي، بدعوة كريمة من
اتحاد الأدباء والفنانين بالمدينة، نُظِّمت ليلة ثقافية بعنوان (الآداب والفنون: بوابة
للسلام والثورة)، بدار الاتحاد يوم الأربعاء الموافق 19 فبراير 2020م، تحدث فيها الأساتذة:
الكاتب والناقد جابر حسين، الكاتب والباحث أحمد الحاج. وقدّم القراءات الشعرية الشعراء
محمد أدريانو وشخصي، وفي الموسيقى والغناء: جيتار إبراهيم التوم، بيانو الفاتح بكري،
والغناء مع العود منتصر دونتاي. تضمنت الفعالية توقيع على نسخ محدودة لكتاب (طينيا،
شهقة الماء في المْدرَك). ورافقت القراءات موسيقى خلفيّة لإبراهيم التوم والفاتح بكري.
التهريب
مرةً أخرى إلى كسلا في طريق عودتنا، كانت سانحة للجلوس
إلى مجموعة الشباب الذين التقيتهم لمدة أطول وبراحة أوسع، حدّثوني بتفصيلات عن حيواتهم
وطموحاتهم، كلّ فردٍ بما سَمح الوقت بقصَّته يرويها. في الأثناء عاد الحديث عن أزمة
التهريب في الحدود الشرقيّة من كسلا؛ المواد التموينيَّة المهولة التي تعبر الحدود
"السائبة"– بتعبيرهم- للدرجة التي يُمكن أن تسدّ تلك المواد المهرّبة جوع
الشرق كلّه، يذهب إلى دولٍ أخرى ويُباع بأسعارٍ تتباهى بمضاعفاتها، البنزين والجاز،
ثمّ تذكرت دَهشة صديقتنا ساسكيا وهي تروي لي خبراً قرأته في الصحف، فحواه أن شخصاً
ضُبطَ في محاولته تهريب 250 رأساً من الجمال! قالت: "250 رأساً؟ كيف فكَّر في
تهريب هذا العدد المهول؟ أين سيضعهم؟ في جيبه؟"، قصصتها على صديقي مجدي مختار
الموظّف بمنظمّة تعمل في مجال حقوق الأطفال والجندر، وقد كان يُشير إلى ذات الأزمة.
نعرف أن النظام السابق قد ترك لنا جثّةً مسجاة تعود لعصور ما قبل الدولة ذاتها، حيث
تأتي موارد الدولة من الجبايات، وقلع أموال المواطن الفقير، ولكنّ انعدام هذه الدولة
يتجلّى واضحاً بأبشع صوره في الأقاليم. إن خسائر البلاد من عدم تكوين الحكومات الولائية
المدنية فادحة ومهولة.
وحول هذا الموضوع يلاحظ كذلك الكاتب والناقد راشد مصطفى
بخيت، الذي يزور الشمالية هذه الأيام مع فريق تصوير لا ندري أي إبداعٍ سيخرج به؛ كتب
على صفحته: (كزول منقطع عن الفيسبوك ولافي بين الشمالية، كريمة وكرمة وكرمكول، نوري
والدلنج والأبيض وكازقيل، كوستي والجزيرة أبا خلال 16 يوماً؛ أحب أقول ليكم إنو الثورة
لسه ما بقت دولة برة الخرطوم ولا شبر. جوة الخرطوم ذاتها ما بقت، آي لكن في معافرة
على الأقل. هناك ماف دولة كلو كلو والمعافرة بين المواطن وصاحب الحظ التعيس والشرطي).
خاتمة: تكوينات البوابة
الحيوانات في أشكالٍ عديدة، حرَّة، وتسير بين القرى على
شكل مجتمعات، الحمير بسلاسة أبنائها، الجمال والكلاب وما خُفي منها؛ الجمال الخلاب
الضائع لسحر الشرق، المدفون والمكمم بالأزمات الاقتصاديّة المتتالية منذ بداية تكوين
الدولة السودانية الحديثة، العطش والفقر والجوع والجهل المنتشر، في انتظار إزالة هذه
المظالم ليصدح بجاذبيّته التي، بسهولةٍ، ستأتي بالبشر من جميع أنحاء المعمورة. لكنّ
إنسانها قد تجذَّرت أساليب حياته في تربة الأزمات؛ فأصبح العطش وانعدام المياه غير
المبرر على الإطلاق يُمثّلان ثقافة يوميَّة في الاقتصاد المائي، وكأن الحل مستحيل،
هل ميزانيّة دولتنا تنصبّ في حصد طرق وأساليب إشعال الحروب واستهداف المواطن بالدمار؟.
الظلال المؤلمة التي تتكوّم بصدرك وأنت تمرّ بالقرى الصغيرة المتصحّرة، الجلود المصبوغة
بلون الرمال والعواصف الجافّة، كل الاستبعاد المُنتَظِر ليد العون من الدولة الخارجة
لتوها من فوّهة الجحيم. العيون الصغيرة التي تراقبك من خلف زجاج الباص وهي تحمل المكسّرات
والفول والترمس، ثيابها الممزّقة المتطايرة مع الهواء والصحراء المُشقِّقة لشفاههم
العطشى، إنها المياه بانقطاعها تُحوِّلُ حياة مجتمعاتٍ بأكملها وتؤثِّرُ على ثقافتها
الغذائيّة وطريقة حركتها ما بين الينابيع القليلة والركض خلف العابرين من سُكّان المدن
يشحدونهم ماءً فقط. إنّها بوابة الشرق العظيمة وقد حطّمتها ألحان النسيان المنسابة
إليها من كلّ حاكمٍ يأتي.
تعليقات
إرسال تعليق