التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الصبّارُ القليل - مأمون التلب


الصَبَّارُ القَلِيل

مأمون التلب



 






(1)

تنحني الأشجارُ وترتفعُ

بعصافير تُراقبُ العالمَ بهكذا زوايا متأرجحة

رقصَتُها الأخيرةُ هذه برياح خريفٍ مُنخَفِضَة،

تأتي من خارج الأحلام السحيقة لمَدفوني المُدن،

تجتازُ جُثثهم المخبئة حديثاً تحت أظافر النيل؛

مدسوسةً بين شعيرات جِلدِه المُنتَصِبة،

إذ تُشيرُ بأسنّتها إلى بُقعٍ على أعناق الناس العابرة جسوره المهدّمة،

بقعٌ تلمعُ لحظةَ تلتفتُ الأعناق لترتشف جلالاً مفقوداً نُهبَ من أرواحها؛

بنظرةٍ خاطفةٍ

هادفةٍ بلا وعيٍ

بأنانيّةٍ هائلةٍ تُبرِّرُها الحاجةُ إلى أجنحةٍ جديدة،

إلى حقول عيونٍ جديدة.

 

(2)

اليوم بَدَا أَثَرُ العاصفةِ عاصفاً:

الأشجارُ الجّافة تتمدَّ عارضةً حطامها مائدةً لأعشاشٍ مُتخَيَّلة بأذهانٍ منتشرةٍ في الأجنحة وعَظمَة المنقارِ اللاقِط المُغرّد الصعلوك؛ هكذا بالضبط كان قلبك يَعمَل، بهمَّةٍ يُدوِّر دماءَه بأنحائك، مذكّراً حدقتكَ المعتَمة بأجناسٍ قديمةٍ من الأوامر المُمتِعة.

 

والآن، أراقبُ اليوم، مُطرِقاً، يتذكّر عاصفة الأمس؛

مهموماً كان ومُتحسِّراً،

يسَّاقطُ أحلاماً مائيَّةً نبَعت من نومنا،

وخَلَقَ منها الغيوم:

صباح الخير أيّها اليوم

ما الذي سنقتله اليوم؟

 

(3)

الغيومُ الصغيرةُ تجتاح نصل السكين القاتلة،

الجثّة تُمطِرُ، تحرثُ قبرها بمياهها، وتُبرزُ الشاهد:

قلَّ أن يصرخ الصبيُّ الحفَّار خلال دموعه،

والسلام المُلقى من المودّعين يُنسى في زحمة الفرح العادي بحياةٍ أخرى حالمة.

 

نرى جمال الشجرة المُراقبة بظلالها خطوات من غادروا

نشعرُ اللمسة الداخليَّة للحم قلبٍ فُقدَ في حروب العالم المُستمرّة بألسنتها الممتدة الساخرة.

هناك،

في مفترق الطرق،

نحنِّنُ عيوننا بوجهٍ لن نراه،

وعندما نُديرُ ظهورنا،

ينبعُ نهرٌ من سلاسلنا الفقرية،

يتسامى حدَّ يُصبحُ أعيننا،

يتدنَّى، حدَّ يُصبح مجرفةً لنحت الأرض

وتثوير التراب وحضّه على الدفن.

 

مقابرنا يا مقابرَنا

يا أحلامنا القادمة،

أسرّتنا الجميلة،

وحياتنا المستحيلة.

 

 

(4)

بالصبّار المُعَرَّض لشمس جذورنا الداخليَّة،

تنعكسُ المياه على وجهي ووجهك،

نرى كيف تنساب الحياةُ مني ومنك،

ونجتاز الصحراء كاملةً،

نقتات على الغابات التي نَمت داخلنا،

ونشتهي النهاية كمن يحبُّ أكلَ لَحمِهِ الشخصيّ.

هذه هي الأنهار تذهب بمن نُحبّ

وتعوي كلّ ما شَغَلنَا أَنفُسَنَا بأَنفُسِنا.

 

بالصبّار الذي يشقُّ الحائط يا حبيبي،

باسمه، عَمِّدني، واقتلني.



 

7 أغسطس 2021م

أمدرمان، بيت المال

-----

لوحة: عبد الله محمد الطيب 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا...

مَن يَلحَمُ أبعادي - ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب

مَن يَلحَمُ أبعادي ملف الشاعر محمد المهدي المجذوب مقدّمة طينيَّة: يُعيدني هذا الملف لأيامٍ عَوَالٍ. تضافرت جهود مجموعة من الشعراء والكتاب لأجل هذا الملف الفريد، بقدر فرادة الشاعر الذي نواجهه من خلاله. أُنجز إبّان عملنا بالقسم الثقافي بصحيفة (الأحداث)  ـ (تخوم) ـ في العام 2008م. كان القسم وقتها بضم شخصين، الشاعر أحمد النشادر وشخصي، وقد واتتنا الجرأة والخيال لإنجازِ مغامرةٍ بسيطة عن روحٍ شعريّة وفكريّة وحياتيّة هائلة، عاشت، مجذوبةً، في أرضِ السودان ذات يوم؛ كانت روحاً فريدة، زاهدة، وغنيّة بكلّ شيء. في هذه المقدّمة لا غرض لي أبداً ففي الأسفل يتضح كلّ شيء. هذا الملف في حاجة إلى قراءة وإعادة قراءة، في حاجةٍ إلى روحٍ تستطيع الاستمتاع بملذاته، يحتاج إلى روحٍ ذات أبعاد. اسم الملف، الذي يُنشر به هنا في (طينيا)، مستوحى من اسم المختارات الذي اختاره الكاتب محمد الصادق الحاج (من يَلحمُ أبعادي)، ثمّ ألحقه بمقالته المُخترقة للحُجب: (أتكتَّمْتُم على (هذا المجذوب)، أم لم تكونوا جديرين به؟). أفتتح الملف بما كتبناه كمقدّمة، وعادةً كنا نضع مقدّمات ملف تخوم تحت عنوان (تربة). ثم تأتي...

إجلالٌ ونفورٌ أمام كلام الربّ: حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة"

تنقيبات طينيّة (13) خطاب أَ ماديو : " إجلا لٌ ونف ورٌ أمام كلام الربّ " حول الثورة و"قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسييه مأمون التلب مُقدِّمة طينيَّة: (1) أ عود مرةً أخرى إلى باب (تنقيبات الطينيّة) لقراء مد وّ نتنا ، حيث أزور كُ تُ باً وكُتّاباً آخرين ، وفي الحقيقة فإن الدَّاعي لدخول الباب عادةً يأتي من نصوصٍ وكتاباتٍ أثَّرت فيَّ حدّ الألم والمعاناة والفرح واللذة الهائلة، وغيَّرت فيَّ بعمق، وصراحةً لم يحدث ذلك من ذ مدّة؛ صحيح أنني استم ت عت بمئاتٍ من الكتب الجيّدة خلال سنوات ال ا نقطاع عن العودة هنا، تعلَّمتُ الكثير وانتقلتُ إلى عوالمٍ وبلادٍ وأناسٍ آخرين، إلا أنني فوّتُّ "قطار الليل إلى لشبونة" إلى هذه اللحظة، والتي يتكاملُ فيها عالم القطار مع عالمي الخاص وحياتي الراهنة؛ حيث العجز لا اليأس، والمراقبة لا المُشاركة، أي التقدّم في العمر محسوساً بقوّة، وبالضبط عند مشاهدة الاستبسال الخارق لأجيال اليوم وحلمهم ببناء عالمٍ جديد! إنه لمن المُدهش، بعد أكاليل الهزائم التي تطوّق أعناقنا بأشواكها، أن ترى الحياة تتجدَّد رغم أنف عدميّة وانغلاق آمال عالم ا...