التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المَمر -


المَمر
مأمون التلب
2004م

دائريٌّ كالعالم، مُجَوَّفٌ أيضاً، وكلُّ خَطْوَةٍ تُخْطَى عَلَيهِ لَهَا دَوِيُّ قُنْبُلَةٍ خَائِنٌ، دَوِيٌّ لا تَحِدُّه الـمَـسَافَاتُ والجُّدرانُ السَّمِيكة، وعلى هذا تُطبعُ حَالَتُكَ الدَّائِمَة: أَصَابِعُكَ فِي أُذنيكَ. هَكَذَا كُنتُ أنا، لا أدري ما هو حالُ البَّقِيةِ؛ مِنْهم مَن يَضَعُ أصابِعَهُ، ومنْهُم مَن هُوَ لا يَسْمعُ أسَاسَاً صوتَ الخطواتِ الصَّاخِبَ المحتومَ، أسْتَغْرِبُ تَمَامَاً مِن هَذه الأوضاع!!، أليسَتْ حَوَاسُّنا بِنَفْسِ الحسَاسِية والإستجابة؟، ألا يبصرونَ مَا يَحْدث حَولهم؟ الغريب جداً أن تجدَ أحدَهم يُنكرُ وجودَه في مَمَرٍّ ويَدَّعِي أنه يسيرُ في مساحاتٍ غير محدودةٍ وبدون سياجٍ وبحُرِّيَّةٍ كاملة، مع أنني أراه يدور في نفس المكان، يذهبُ إلى بدايةِ الممرِّ ويعود إلى نهايته بالطولِ والعرض وبحركة نمطية فجّة.

رأيتُ أنواعَ الكائناتِ والتصرفاتِ والتجاربِ المريعة، رأيت من يُذبَحُ على مساطبَ مصنوعةٍ من الذهبِ الخالصِ وهو مبتسمٌ ومستسلمٌ لمصيره، يأتي رجالٌ ونساءٌ يحملون أقلاماً خاليةً من الحبرِ ويغمسونها في دمِهِ الطازجِ الحارِّ ثم يُهْرَعُون إلى الأَمَاكِنِ الأَكْثَر ظَلاماً ويَبْدَأُونَ الكِتَابة، بِجَانِبِ كُلٍّ مِنْهُم ارْتَصَّتْ آلافُ الكُتُبِ تُلَوِّثُ أطْرَافَهَا دِمَاءٌ. رَأَيتُ مَنْ يُحَاوِلُ تَقْلِيْدَ الْجُدْرَانِ فَلا يَسْتَطِيعْ، يُحَاوِلُ تَقْلِيدَ الطَّبِيعةِ الْمُتَنَاثِرَةِ من حَوْلهِ فَيَفْشَلُ بِقُوَّة بُعْدِهِ، يُحَاوِلُ أَنْ يُقَلِّدَ الرَّاحَةَ والْهُدوءَ فَيُدْرِكُهُ التَّعَبُ والهَمّ، يُقَلِّدَ الماءَ في صفاتِهِ فيدركُهُ اللَّوْنُ والطعمُ، يقلِّدُ النَّارَ في اشْتِعَالِهَا فَيُدْرِكُه الرَّمَادُ. يُخْفِقُ في كلِّ هذا  فَيُحَاوِلُ أنْ يُقَلِّدَ سُكَّانَ الْمَمَرِّ فَيَنْجَحْ، ولكِنَّهُ لا يَطْمَئنُّ لِلنَتَائِج، فَيُعِيدُ الْمُحَاوَلاتِ مَعَ بَعْضِ التَّغْيِيراتِ الطَّفِيْفَةِ. رَأَيتُ العُشَّاقَ يَنْتَحِرُونَ وَاحِداً وَاحِداً دُونَ أنْ يَنْتَبِهَ لَهُم أَحَدْ. رَأَيْتُ الشُّعَرَاءَ يَحْمِلُونَ مَكَانِسََهُم اللغويَّةِ فِي مُحَاولةٍ لِكَنْسِ خَرَابَهُم الَّذِي أَصْبَحَ هَوَاءاً يَتَنَفَّسُهُ الجميعُ وهُمْ  يَعْرِفُونَ سَلامةَ الإسْتِحَالة وجَمَالها؛ فَيَغْرَقُون في الظَّلامِ كالظَّلام. رَأَيتُ الكَهَنَةَ يَجْتَمِعُونَ لِيَتَآمَروا عَلَى أَنْفُسِهِم ليَأتُوا فِي آَخِر اللَّيلِ حَامِلِينَ خَنَاجِرَهُم لِيَجْتَمِعُوا اجْتِمَاعَاً آخرَ ليَكُونَ (العملُ محلَّ القول)، وعندما تنفدُ الرِّقَابُ تبقَى رقبةٌ واحدةٌ وتحاول أن تجتمعَ مع البقيَّةِ في محاولةٍ لتَحْرِيقِ عِنَادِ جُدْرَانِ الْمَمَرِّ بآيَاتٍ بَاكِيَةٍ مِن خُشُونَةِ أَصْوَاتِهِمْ. رَأَيتُ النِّسَاءَ فِي أَقْفَاصِ الإتِّهَام، يتَّهِمْنَ القُضْبَانَ وَيَتَعَارَكْنَ مَعَهَا دُوْنَ مُلاحظةٍ لِمَا يَدُورُ بِذِهْنِ القَاضِي من طُيُورٍ مَحْرُوسَةٍ بِيَأْسِهَا، القاضي الَّذِي يُحَاوِلُ بِمَطْرَقَتِهِ الخَفيَّةِ أَنْ يَلْفِتَ الإنتباهَ حتى يصرخُ الهواءُ متألِّماً. رَأَيْتُ السُّيُوفَ تَجْلِسُ عَلَى العُرُوشِ، وَالعُقُولَ تَدُورُ حَوْلَ القُصُورِ فِي مُحَاوَلَةٍ للكَشْفِ عَنْ بِدَايَةِ الدَّائِرةِ ونِهَايَتِهَا. والقُلُوبَ تَبْحَثُ عَنْ قُبُورِهَا باسْتِعْجَالٍ وشَرَاهَة.

الْحَكِيمُ الْمَصْلُوبُ عَلَى لَوْحَةٍ فِي جِدَارِ الممرِّ، مَرْسُومٌ بِدِقِّةٍ جَارِحَة، نِصْفُ جَسَدِهِ أَبْيَض، والنِّصْفُ الآخر أسود، مِن اللونِ الأبيض يشعُّ ظلامٌ كثيفٌ، مِنَ اللَّونِ الأسودِ كَانَ الضوء يُعْلِنُ عَن دَرْبِ نَجَاةٍ مُخِيف. لِلوهلةِ الأولى خُيِّلَ لي أنه ينادِي عليّ، مشيتُ نحوه بخطىً راجفةٍ ولا زلتُ أضَعُ أصابعي عِنْدَ مَدَاخِلِ الصَّوتِ. قال: (إبْعِدْ أصَابِعَكَ عن مَكَانِهِمَا)، قَالها بنظراتِهِ. أنزلتُهُمَا بِبُطءٍ، وتَحَمَّلْتُ الضَّجِيْجَ الأوَّلَ.
بعدَ سنواتٍ من هذه الحادثة، رأيتُ الناسَ في آخرِ الْمَمَرِّ يُحاسَبُونَ في خَيَالِهم ويُوزَّعُون بين جحيمٍ وجنة، وكانت الحروبُ والمؤامراتُ تَتَسامَرُ بِضَحِكٍ طَاهِرٍ فِي أوَّلِ الْمَمَر، وأدركتُ أنَّ جميعَ الكائناتِ تَتَكَوَّمُ في الأطرافِ، وأنَّ القليلَ، القليلَ، هُوَ مَنْ يَسْكنُ الْمُنْتَصَف، قُلتُ هَذَا مَكَانِي.

أصبحتُ شَخْصَاً يَجْلُسُ في مكانٍ مظلمٍ، حاملاً سِحريَ الصَّدِيق، أُحَدِّقُ فِيهِ هُو، ولا أَهْتَمُّ بالهَدَفْ، لأنني مَعَهُ هُو، الآن، ليسَ غداً، ليسَ بالأمسِ، جَالِساً في هذا الفضاءِ الحائرِ في محاولةٍ مستميتةٍ للتعرُّفِ (لأوَّلِ مرةٍ) على هذا الكائنِ الْمُسَمَّى سحراً، بينما يُقَهْقِهُ الْمَمَرُّ بِصَوتٍ عَالٍٍ،. دُونَ أنْ يَسْمَعَهُ أَحَدٌ  سوانا، نحنُ الواقفونَ في مُنْتَصَفِ الْمَمَر.
نحنُ الآنَ
في
مُنْتَصفِ
الْمَمَرّ.
ـــــ
اللوحة: سلفادور دالي

تعليقات

  1. نحنُ الواقفونَ في مُنْتَصَفِ الْمَمَر.
    نحنُ الآنَ
    في
    مُنْتَصفِ
    الْمَمَرّ.

    لطالما تدهشني بتعبيراتك المعبِّرة حد الشهقان..
    مزيداً من الأسود ليُعلن ضوء نجاتنا.

    ردحذف
  2. أما زلت هناك؟ لن أصدق ذلك، لكني أخالك اكتشفت أرضاً جديدة أبهى من منتصف الممر وأكثر احتمالاً أو أشد حرجاً منه وأضيق حالاً..فالوعي يعد بمزيد من النور ولكنه يلتزم كذلك بمزيد من العذاب! يا لسعادتك ويا لشقائك بهذا الكائن السحري صديقك الذي نتبعه حيناً ويقتفي آثارنا أحياناً..يجبرنا على الارتباط به وبعالمه.. نحب أحيانا هذا الجبروت اللطيف، ونكره أحيانا سطوته ومقدرته العجيبة على دفعنا لتبكيت الذات. مثل كل من يمرون على هذا النص أو نصك الآخر في هذه اللحظة بالذات احتفي بك!

    ردحذف
  3. سلام يا وفاء، زمن ما شفناك، أظهري :)

    ردحذف
  4. ناتالي، تعليقك لوحده قصيدة، أتمنى أن أقرأ لك أكثر؛ لديك مدونة؟ بحثت عنك ولم أجدك. تسلمي على تكبد مشاق التعليق.

    ردحذف
  5. لا تمعن في التهذيب كعادتك، فالتعليق هنا على الأقل لم يكن شاقاً لأن الخدر الذي سببه نصك فيّ لم ينته أثره بعد! لا تقلق بهذا الخصوص، فهنالك ما يكفي من أسباب للقلق في الما حول! لك التحية مرة أخرى، ولديك هاتفي أعطني رنة فقط!

    ردحذف
  6. البرزخ- مرج الواعيتين المنشقتين؟!

    ردحذف
    الردود
    1. مشتاقين يا إبراهيم :) وسلام يا أميمة

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأغصان: حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة

تنقيب الظلام الأغصان (حول إيضاحات الشاعر عاطف خيري لنصوصه القديمة) مأمون التلب يقول شاعرنا محمد المهدي المجذوب [1] : [نعم؛ في جانب مني شيخٌ حاسرُ الرأس من فقراء السودان (...) ولقد تعلَّمت من الشيخ الذي فيَّ أشياءَ كثيرةً، أولاً الخدمة، ولم تكن لي عنده مكانة خاصة تميِّزني عن الآخرين، (...) وكان يأمرني بتجويد الخط، والدراسة لا تنقطع؛ كل لحظةٍ امتحان، (...)، ولكن نفوري السِّري من ابن مالك كان شديداً، وكنت أستثقل الحريري سراً، فإذا وجدتُ فرصةً ـ وما كان أقل الفرص مع المراقبة الشديدة ـ خلوت إلى نفسي ألعب بالطين، وأرتد طفلاً حقيقياً يتحدث ويلعب مع نفسه الصغيرة التي ذابت في نفوس الجماعة الصارمة. وكنت أرى في الطين حصوناً وأناساً يتحركون، وكان يداخلني من هذا فرح لا يوصف. ولا أعلم كيف علم الشيخ بهذا العبث فلم يرضه، قال إنه لَهْوٌ مضيعة للوقت، وانفرد بي شيخ آخر فقرَّعَني على هذا الخروج، وحَدَس أنني سأكون مارقاً وكذا كذا، وحَوْقَلَ واستغفر، فهالَنِي ذلك وأفزعني، وجاء يوم كتبت فيه بيتين من الشعر على جدار، وقرأهما المعلم، ورأيت الانبساط في وجهه ولكنه أنكر المعنى؛ وكا

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول

سيَّارة الثورة: مواليد الثمانينات حيفهموني قاصد شنو - الكاتب مجهول مقدّمة طينيّة: سيَّارة الثورة التكنولوجيّة (1) كم من الوقت انتظرت لأكتب عن هذا النص العجيب، والذي لم يُعرَف كاتبه إلى الآن، وربما يتعلَّق الأمر بالظروف والملابسات التي نُشر فيها هذا النص الطريف جداً والتراجيدي بهاويةٍ سوداويَّةٍ مُضحكة. أفهم، كما كتبت كثيراً من قبل، والكثيرون من قبلي، أن اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان اندلع مع ثورة التكنولوجيا. ولكن لننظر إلى الثورة التكنولوجيّة الرابطة لأجزاء العالم بطريقةٍ أخرى، فبينما كان الرابط في الماضي عن طريق الحروب والاستعمار، رست السفن قبلهما، وأطلّ القطار مؤخراً، ثمَّ طارت الطائرة. لننظر لانطلاقة الثورة من بدايات القرن العشرين كـ(غِيْر) السيارة، وهو ما سأصل به لما ميَّز جيل مواليد الثمانينات. على الأقل في السودان. تنطلق السيارة في الغير رقم 4 بلا كابح وبسلاسة لانهائيّة، وهي المرحلة التي دخلت فيها الثورة التكنولوجيّة سوق التنافس الرأسمالي العابر للقارات. ففي العصر الذي يسمع به الناس بالتلفاز ويصلهم بعد مُختَرِعيه بعشرات السنوات، ولفئةٍ محددة جداً من البشر.

Life weapon’s dictatorship - By: Mamoun ElTilib

Life weapon’s dictatorship By: Mamoun ElTilib Translated By: Ibrahim Jaffar Introductions: ( Tayfara was a military slave of the Cavalry Divisions (the Divisions of Knights) which was relegated to the Sheiks-ministers of Hamaj .   He presumably has been enslaved during one of the sieges of Rajab to the Nuba Mountains within the course of his campaign against Kordofan, for he reached the age of reason in the era of Nasser wad Idris .   Imaginatively, we would correlate Tayfara’s memories of childhood with those of Dogalo Doguendan Ari ; a Nuba boy of the next generation who, like Tayfara, has been, as a young boy, enslaved and taken from his native land.   Dogalo , as a young man in his far-off exile, has vividly lived the memory of his homeland that has been sustained within his soul as a minute world of landscapes, distant and diminutive shapes; young kings wearing jewels and straddling horsebacks; steppes of azure color of bubbly plant under the pur