تنقيبات
طينيّة (13)
خطاب أَماديو: "إجلالٌ ونفورٌ أمام كلام الربّ"
حول الثورة
و"قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسييه
مأمون التلب
مُقدِّمة طينيَّة:
(1)
أعود مرةً أخرى إلى باب (تنقيبات الطينيّة) لقراء مدوّنتنا، حيث أزور كُتُباً وكُتّاباً آخرين،
وفي الحقيقة فإن الدَّاعي لدخول الباب عادةً يأتي من نصوصٍ وكتاباتٍ أثَّرت فيَّ
حدّ الألم والمعاناة والفرح واللذة الهائلة، وغيَّرت فيَّ بعمق، وصراحةً لم يحدث ذلك منذ
مدّة؛ صحيح أنني استمتعت بمئاتٍ من الكتب الجيّدة خلال سنوات الانقطاع
عن العودة هنا، تعلَّمتُ الكثير وانتقلتُ إلى عوالمٍ وبلادٍ وأناسٍ آخرين، إلا
أنني فوّتُّ "قطار الليل إلى لشبونة" إلى هذه اللحظة، والتي يتكاملُ
فيها عالم القطار مع عالمي الخاص وحياتي الراهنة؛ حيث العجز لا اليأس، والمراقبة
لا المُشاركة، أي التقدّم في العمر محسوساً بقوّة، وبالضبط عند مشاهدة الاستبسال
الخارق لأجيال اليوم وحلمهم ببناء عالمٍ جديد!
إنه لمن المُدهش، بعد أكاليل
الهزائم التي تطوّق أعناقنا بأشواكها، أن ترى الحياة تتجدَّد رغم أنف عدميّة
وانغلاق آمال عالم الإنسان اليوم. وفي بلاد النيلين، تتصاعدُ أرواحهنَّ وأرواحهم مُعَطِّرةً
السماء المُكَدَّسة بدخان الأسلحة الفتَّاكة، كما هو الحال في كلّ مكانٍ في
العالم. في "تغريده بطريقة برايل"، رأى
صديقنا العزيز الشاعر هرمس تلك السماء، وهو يُغنّي في ختام قصيدته:
(في الزَمَنِ الذي سماؤه تكَدَّست بالرصاص،
في الزّمن الذي أرضهُ لا
تجاوب أقدام الحفاة،
في كوكبٍ يَنفَجِرُ وسطَ
ضحكات الأغبياء؛
تعثَّرتُ في الطبيعة وهي
تسقطُ،
مِن تحتِ الأرض، لفوقِ السحاب،
ولا بريد ينزلُ ليطفئ،
ولا أجساد تصعدُ لتوَلِّع
بالغضبِ الأقدسِ نارَ الإكليل،
وتغرسه في الأرض ويُنادَى:
لم ينادِ أحد، ولم يقُل أحَد،
الطّيرُ تنسخُ الطّريق وتسردُه
الآن،
الحمامُ العابرُ فوقَ الساحات
مُفخَّخ،
والعصافيرُ تُغَرِّد بطريقة
برايل)[i]
(2)
آلمتني رحلة "قطار الليل
إلى لشبونة" مع كاتبها باسكال مرسييه (والذي أُقابله للمرة الأولى)، إذ كانت
معاتباته لا تنفد، وبصيرته تُشفي من آلام الذنوب الهائلة الخانقة، ثمَّ الحسد
الطاغي من خطاب بطَلِهِ الميّت، الكاتب والطبيب أماديو دي برادو، وهو ابن السابعة عشرة، أمام هيئةٍ من الأهرامات
السلطويَّة، ممثَّلةً في رجال الدين المؤلِّهين لأنفسهم، ثمَّ الأب، وليس نهايةً
بسلطة الدولة.
ففي وصف أخت الميّت لأخيها
تقول: (كان يمقتُ أولئك المتكبّرين، المُتعجرفين، والمُنتَفخين
كما كان يُسمّيهم (..)، كان يكرههم أينما وُجدوا: في السياسة، بين الأطباء،
بين الصحفيين. وكان قاسياً في أحكامه. أحببتُ مواقفه لأنه كان نزيهاً. دون أي
اعتبارٍ لذاته أيضاً. لكنني لم أكن أحبّه عندما يتحوَّل إلى مُنفّذ عمليّات كبيرة،
إلى مُخرِّب. عندها كنت أتجنّبه، كنتُ أتجنَّبُ شقيقي الجبَّار).
هل ذكّرني هذا التجبّر والتخريب نفسي وهي غاضبة؟ وهل زال الغضب أم تحوَّل داخلي؟ ربما تلاشت
القبضة عندما انسَحب جسدي الافتراضي
من فضاء التفاعل الإنساني
الكوني الحادث في اللحظة،
أي بعد التنازل عن "السلطة"، لكنَّ لهيبها في الأصابع لا زال يحترق، وربما كنتُ في انتظار برود اليد
والساعد والانتقال عبر العروق إلى قرارة "نار
القلب العضويَّة"، ربّما أنتظرُ شخصاً آخر في ضفةٍ جديدةٍ من عمري؟ أسئلة
لا إجابةَ عليها، إلى أن أصل إلى خطاب أماديو المُرعد،
فتتكشَّفُ بعض المُفارقات العصريّة التي طالما شغلتني، كذلك فداحة الجريمة التي
ارتكبها رجالُ ديننا في حقّ إلههم حتى بدى العالم مُفتَقِدَاً
لوجوده كليَّةً.
لقد قتلوه، ويصرّون على تحطيم
حتَّى كلماته العظيمة، فتراهم يهدمون المُستقبل بتهشيمِ وسحلِ أجسادِ حامِلِيه.
هنا أُشاهد قوَّة الحياة، وإصرارها على الازدهار مع كلّ روحٍ
شهيدةٍ تندمجُ في تربتها لتُشكِّل ما اصطلحنا على تسميته بالجذور.
(3)
أما لماذا هذه الخطبة، من
الماضي، في تنقيبات اليوم؟ لأنها تحمل صوت حياة الغد، وشباب اليوم، صرختهم
الداخليَّة وما يعيشونه
فعليَّاً، وبهذا يكون
الأدبُ عظيماً (وتُفرَزُ الكتب الخالدة عن "ساندويتشات" الحاضر اللاهثة
لأجل جوائز "ماكدونلز" الأدبيّة).
يقول الروائي العظيم ماريو بارغاس يوسا في مقالٍ حديث[ii]:
"لا يمكن للعلم والتكنولوجيا في عصرنا الحالي أن
يُكمّل بعضهما الآخر، وذلك للثراء اللامتناهي من المعرفة وسرعة تطورها، والذي
قادنا إلى التخصصات وغموضها. لكن لطالما كان الأدب وسيبقى واحدًا من القواسم
المشتركة لدى التجربة البشرية، والتي يتعرَّف البشر من خلاله
على أنفسهم والآخرين بغض النظر عن اختلاف وظائفهم، خطط حياتهم، أماكنهم الجغرافية
والثقافية، أو حتى ظروفهم الشخصية. استطاع الأدب أن يساعد الأفراد على تجاوز
التاريخ؛ كقرَّاء لكلٍ من ثيرفانتس، شكسبير، دانتي، وتولستوي. نحن نفهم بعضنا عبر
الزمان والمكان، ونشعر بأنفسنا ننتمي لذات النوعية، لأننا نتعلم ما نتشاركه كبشر
من خلال الأعمال التي كتبوها، وما الذي يبقى شائعاً فينا تحت كل الفروقات التي
تفصلنا. لا شيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصب والفصل الديني والسياسي
والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائماً في الأدب العظيم: أن الرجال والنساء
من كل الأمم متساوون بشكل أساسي، وأن الظلم بينهم هو ما يزرع التفرقة والخوف
والاستغلال".
(4)
عندما استمعت لخطبة أماديو،
مرَّت بخاطري وجوهُ الثائرات والثائرين الجميلة المقتولة، سمعتُ صوتهم فيها، إذ أن الأرواح
الكاتبة للأدب العظيم تستمعُ دائماً لهذه الأصوات الهاربة المُعتمة المواربة
من الوجود، تُمسكُ بها
وتُشكّلها من موادّ الخيال والأحلام، وتقذفُ بها إلى وجوهنا وتسرقُ دموعنا.
إن الثورة في بلاد السودان ما
هي إلا جزء من ثورة الإنسان في العالم أجمع ضدّ التخريب الخلاَّق لأنظمة اليوم
الحاكمة، للأرض والإنسان. أنظمة تجد الثورة عندنا نفسها في مواجهتها مهما آمنت أن
"هذه الأرضُ لنا"، وطالما ظلَّ وَهم
الأوطان حاضراً فإن ثورات العالم لن تلتقي، وسيتحدّث سياسيُّونا دائماً، بأخلاق
عالمٍ فَنَى، باسم "شعوبهم" المُتخيَّلة، وإلى الأبد: ستظلّ الحدود تفصل
غضباتنا.
(5)
في مقالٍ لم أنشره كتبت
-والعياذ بالوطنيَّة- تحت عنوان (الجحيم
فارغ، كل الشياطين هنا)[iii] أنه
و(قبل التنبؤ بمآلات الثورة المستمرّة منذ ديسمبر 2018م داخل
"حدودنا"، علينا أن نضعها في مكانها الصحيح كامتداد لثورات الفقراء
والمُكبَّلين، المعزولين والمقصيين، المُستعبدين والمُستَبعَدين، ثورة
"الآخرين" الذين لم يكن لهم صوتٌ في لوحة الجنون الخلابة لعالم الأمس الذي يبدو أن لا أمَل في إصلاحه؛ فلا هي ثورة سودانيَّة، ولم يُنجزها ما
يُمكن أن يُسمَّى "شعب السودان"، أنجزها الإنسان في هذه الرقعة المُميزة من الأرض
بنيليها، ولها، بالطبع،
خصائصها، وما يميّزها في خارطة الصراع الثوري العالميّ، منذ
سلميّتها وصولاً إلا الاختلاف الخلاَّق لمُنجزيها على أرض الواقع.
الصراع الثوري في العالم بلغَ
مداه العُنفِيّ وجاوزَ حدوده، "غضبُ الملعونين" حَمَل السلاح وشكَّل
المليشيّات ولم ينجح، لكنّ الثورات الشعبيّة اجتاحت العالم، وبدأت تُلهم بعضها
البعض وتتنامى. إلا أن تفرّقها ظلّ دائماً ما يَهزِمُها، إذ تنفردُ بها وحوش السوق
العالمي، وتحالفاتها ذات الرؤوس المُتعدّدة؛ بلا أية ملامح آيديولوجيَّة هذا
الحين، بل الوقاحة الصارخة لإبراز القوَّة فقط، ولا هدف سوى إثبات القوّة الساحقة.
ملمحٌ وحيدٌ نراه في خلفيّتها: تجاعيد أوراق النقدِ في يد الفقراء المُتَعَرِّقة.
تَصَاعُدُ الثورة في أرضنا
وصل حدّاً غالياً في مقارعة رؤوس تحالفات الوحوش العالميّة، المُتخصّصة في وأد غضب
الناس وإسكاتهم ورشوتهم -وهو ما نجح مرات عدّة- حدّاً ارتُكِبَت لقتله مجازر
متتالية لم تتوقّف أبداً، في العاصمة اليوم نرى الحرب تُراقبنا في النوافذ،
احتلَّت الثائرات والثوار الشوارع سيطروا عمليَّاً على الحكم، وبارتباكٍ تتبعثر مركبات الجيوش المتعدّدة وتتراكض
بيأس، والعالم يُراقب هذا الشباب وهو يُركِّع أعتى التحالفات العالميّة.
(...)
إنني أرى مآل استمرار ثورتنا الأساسي ليس في تحرير شعوب نهري
النيل وما جاورهما فقط، بل في إلهامها وتأثيرها على شعوب العالم أجمع، كما فعلت
ذلك ثورات سابقات وآنيَّات إن كان من مُتابع. إن انعدام الأمل الكامل في الإصلاح
والتحرير هو ما يدفع الناس إلى التضحية في كلّ مكان، بأنفسهم وكلّ شيء. قبل أكثر من خمسين عاماً قال ميللر، في حَرفيَّةٍ
أحسده عليها: (إن الوحش طليق، يطوف
العالم. لقد أَفلَتَ من المختبر. وهو في خدمةِ كلّ من يجد الشجاعة على استخدامه.
العالم أَمسَى، حقيقةً، رقماً! إن أخلاقيّة الوجهين، مثل كلّ ذي وَجهين، قد
انهارت. وهذه الفترة هي فترة التدفّق والخطر المحيق. لقد حلَّ الانجراف الكبير.أما
الحمقى فيتحدثون عن الترميمات، والتدقيقات، عن الانحيازات والائتلافات،
عن التجارة الحرّة والاستقرار الاقتصادي، والإصلاح!. لا أحد يؤمن من الأعماق بأن
وضعيّة العالم يمكن تصحيحها. كل واحد ينتظر الحدث الكبير، الحدث الوحيد الذي يشغل
تفكيرنا ليل نهار: الحرب القادمة. نحن عبثنا بكلّ شيء، فلم يبقَ بيننا من يعرف كيف،
ومن أين يصل إلى التحكّم. المكابح لا تزال موجودة، لكن أتراها ستعمل؟ نحن نعرف
أنها لن تَعمل. قد انطلَقَ المارد. لقد أمسَى عصر الكهرباء متخلّفاً وراءنا، كأنه
العصر الحجري. عصرنا هو عصر القوّة، القوّة الخالصة الصريحة. اليوم... أمامنا:
إمّا الجنّة أو النار، ولا وسط بينهما. وكل الدلائل تُشير إلى أننا سنختار النار)[iv].
اختارت ثائرات وثوّار السودان
النار، نار العزلة في عالمٍ لم يعد باستطاعته أن يمد يداً لمن يُؤمن -في عالم
الفقراء- بحلمٍ مُستَحَق كـ"الحريّة والسلام والعدالة"، أو دولةٍ مدنيّة
في مناجم يجب أن تحرسها القوّة العسكريّة لأجل من ظلّوا ينهبونها طوال عقود! أو
كما قال: "أخلاقيّة الوجهين، مثل
كلّ ذي وَجهين، قد انهارت".
اليوم "دمنا هو المقياس"[v]،
وهو الذي يدعو -بتدفّقه يغمر الأرض- إلى أن يعود بعض الاحترام الإنساني إلى عالمنا ولُغَتِه؛ أن تكون الأخلاق
والمُثل التي يحكم باسمها عالم شركات اليوم حقيقيّة، ليس فقط حقوق الإنسان
وديموقراطيّة رأس المال العبثيّة، ولكن محواً كاملاً لعالم مُنهار مضى، وأجيال اليوم،
المتّصلة، لن تقبل بما رضينا به نحن أبناء "الحدود". (انتهى)
(6)
ونعود إلى قطارنا الليلي في
ختام هذا التنقيب، والمقطع الذي
اخترته هو عندما وَصَلَت الرحلة بأستاذ اللغات القديمة، غريغوريوس، والتي يتتبع
فيها، خلال "قطار الليل إلى لشبونة"، خيط حياة الكاتب المجهول ذو الكِتَاب
الوحيد والصورة الباهتة على غلافه؛ عندما وَصَلت "رحلتنا" إلى دار
العجزة، حيث لا زال الأب بارتولومو حيّاً في تسعينيّات عمره، يتذكّر ذلك الشاب
الغائب عن الحياة، ويروي عنه لرجلٍ مجهول، أستاذٍ في اللغات القديمة، يجلسُ أمامه،
بينما يقدّم له نسخةً من خطاب أماديو الذي ألقاه خلال حفل تخرّجه باللغة
اللاتينيّة، في معهدٍ كنسيٍّ عتيق وفي قاعة احتفالاتٍ مهيبة، يقول له الأب المصدوم،
حينها، من الصوت الذي نسمعه، اليوم، راعداً:
(كنّا ننتظر حدوث مفاجأة وليس
شيئاً من هذا القبيل. فمنذ الجملة الأولى، ساد صمتٌ يَقطعُ الأنفاس. تلك الكلمات
الصادرة عن ثائرٍ يبلغُ من العمر سبع عشرةَ سنة، الفتى الذي يبدو أنه عاش عمراً
بأكمله، كانت شبيهة بضربات السوط. وكنتُ أتساءل عمّا سيحدث عندما ستدوي الكلمة
الأخيرة. كنتُ أشعرُ بالخوف. أشعرُ بالخوف من أجله، وهو الذي يدركُ ما يفعله
ويجهله في الوقت نفسه. أشعرُ بالخوف من أجل هذا المُغامر صاحب البشرة الرقيقة التي
لم تكن هشاشتها تُعادل قوَّة ما يتلفَّظ به من كلمات. ولكنني أشعر بالخوف من أجلنا
نحنُ أيضاً، نحن الذين قد نفشل في أن نكون في مستوى هذه القضيَّة. كان الأساتذة
جميعهم هناك، جالسين بكلّ صرامةٍ واستقامة. بعضهم أغمض عينيه، وبدوا وكأنهم
منهمكون في تشييد جدارٍ واقٍ يحميهم من هذا القصف المتواتر من التجديف، حصنٌ منيعٌ
في مواجهة انتهاك الذات الإلهية لم يتوقَّع أحدٌ حدوثه بين هذه الجدران.
هل سيواصلون الحديث إليه؟ هل
سيقاومون رغبتهم في الدفاع عن أنفسهم باحتقارهم له فيعود ذاك الطفل العنيد الذي لا
يؤثّر فيه شيء؟.
ستلاحظ أن الجملة الأخيرة،
كانت تُضمرُ تهديداً مرعباً إذ كان يُشتبه في وجود بركانٍ خلفها قادرٌ على قذف
الحِمَم، ولو لم تصل الأمور إلى هذا الحد، لهلك في هيجانه وغضبه. لم يقل أماديو
هذه الجملة بصوتٍ مرتفع رافعاً قبضة يده. بل نطقها بصوتٍ خافت، ناعم تقريباً. لستُ
أدري إلى اليوم ما إذا كان ذلك استراتيجيَّة ليزيد قوّته، أم أنه بعد كلّ الحزم
الذي قذَفَ به، في الصمت، هذه الجمل الجريئة والوقحة، فقَدَ شجاعته فجأةً وأراد أن
يعتذر مُسبقاً برقّة صوته، دون استعدادٍ مُسبق، ولكن ربما كانت تلك الرغبة
تُحَرّكه من الداخل. لقد كان واضحاً أمامَ العالم الخارجي ولكن ليس بالقدر الكافي
لفكِّ رموزِ ذاتِه).
وبعد صفحات من وصف الأحداث
التالية لإلقاء الخطاب يختم بقوله: (لم يُثر الأساتذة موضوع الخطاب فيما بينهم
قط. لن أقول إننا تجاهلناه، ولكنّنا لم نجد الكلمات أو النبرة المناسبة لنتبادل
الآراء في هذا الشأن. وربما كان أغلبنا يشعر بالسعادة للحرارة التي كانت تغمر المدينة
خلال تلك الأيام. وهكذا لم نكن مُجبَرِين على قول "مستحيل" أو
"ربّما يوجد بكلّ تأكيد سرٌّ ما داخلها". كان بإمكاننا بدلاً من ذلك أن
نتعجّب قائلين: "يا له من سعير!"). انتهى.
لقد جاء "السعير" العظيم
وغمر العالم، وما أراه في قطعةِ أرض النيلين، حيث أعيش، أي من زاوية ملامسة
الواقع، فإنني أؤكّد معهم بأن داخلها "يكمن سرٌّ ما"، سرّ المستقبل
المُعاد في كلّ مرةٍ أقسى وأفظع.
فإلى نصّ الخطاب
مأمون
13 يونيو 2022م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خطاب أماديو
إجلالٌ ونفورٌ أمامَ كلام الربّ
[لا أريدُ أن أعيش في عالمٍ
خالٍ من الكاتدرائيَّات. أحتاج إلى جمالها وعظمتها، أحتاجُ إليها لمجابهة الوجه
المألوف من العالم. أريد أن أتأمَّل الزجاجيَّات المضيئة وأستسلم لسحر هذه الألوان
السماويَّة. أحتاجُ إلى ألقها، أحتاجُ إليها لمجابهة لون الألبسة المُوحَّد، القذر
والمُمِل. أريدُ أن أستسلم لبرد الكنائس القاسي وهو يَلُفُّني. أحتاجُ إلى صمتها
المُهيب. أحتاجُ إليه لمجابهة خوار العسكريّين الفارغ وثرثرة المريدين الحاذقة.
أُريدُ أن أُصغي إلى صوت الأرغن الهامس، إلى هذا الغَمْر من الأصوات السماويَّة.
أحتاجُ إليه لمجابهة سخف الموسيقى العسكريَّة الصارخ. أحبّ الناس المصلّين. أحتاج
إلى رؤيتهم. أحتاجُ إليها لمجابهة سمّ السطحيَّة الخبيث وعدم إعمال العقل. أريد
قراءة الخطاب البليغ من الكتاب المقدَّس. أحتاجُ إلى الطاقة الشعريَّة الكامنة
فيه، أحتاج إليها لمجابهة الاستهتار باللغة ودكتاتوريَّة الشعارات. عالمٌ خالٍ من
كلّ هذا هو عالمٌ أرفض العيش فيه.
ولكن يوجد عالمٌ آخر أرفض
العيش فيه أيضاً: العالم الذي يُشَيطَن فيه الجسد والفكر المُستقل، العالم الذي
تُدان فيه أجمل الأشياء التي يمكن أن نعيشها وكأنها ذنوبٌ لا تُغتَفَر. العالم
الذي نُطالبُ فيه بمنح حبّنا للطغاة والاستغلاليين والقَتَلة، سواءٌ أولئك الذين
يتردّد وقع أحذيتهم المُتوحّشة بصداه الصاخب في الشوارع أو الذي تتسلَّل ظلالهم
الجبانة عبر المدينة، صامتة مثل القطط، لتغرز الخنجر اللامع في ظهر ضحاياها حتَّى
يصل إلى القلب. أن تغفر لمخلوقات كهذه وأن تجلّها فوق ذلك، فهذا يندرج ضمن أكثر
الأشياء عبثيَّةً، تلك التي يُمكن أن تُلزمَ بشراً بها من أعلى المنبر. وحتَّى إن
كان بإمكان شخصٍ ما الامتثال لذلك حقَّاً: فهذا سيكون ضرباً من الرياء لا مثيل له
ونُكراناً صارماً للذات لا ثمنَ له غير الخسران المُبين. هذه الوصيَّة.. الوصيَّة
الجنونيَّة والشاذَّة بأن نُحبّ أعداءنا خُلِقَت لتكسر البشر، لتسلبهم كلّ شجاعة
وكلّ ثقة في النفس وتُحَوّلهم إلى دمى طيَّعة بين أيدي جلاَّديهم حتى لا يجدوا بعد
ذلك القوَّة للوقوف ضدَّهم ومواجهتهم بالسلاح إن لَزِمَ الأمر.
أنا أُجلُّ كلام الرب، لأنني
أحبُّ طاقته الشعريَّة. وأنا أكره كلام الرب لأنني أمقتُ قَسوَته. يا له من حبٍّ
صعب، إذ ينبغي على هذا الشعور أن يفصل باستمرار بين الطاقة النورانية الكامنة في
الكلمات، والخضوع الذي يفرضه إلهٌ متجبِّر عبر عنف الكلمات. ويا له من كرهٍ صعبٍ
هو أيضاً، إذ كيف بالإمكان أن نسمح لأنفسنا بكره كلمات تنبع من لحن الحياة في هذه
البقعة من الأرض؟ كلمات بفضلها تعلّمنا مذ كُنّا أطفالاً، معنى الإجلال! كلمات
كانت بالنسبة إلينا مثل المنارات كلما اعترانا الشكّ في أن حياتنا هذه لا يمكن أن
تكون هي الحياة بأكملها! كلماتٌ لولاها لما كُنَّا ما نحن عليه اليوم. ولكن لا يجب
أن ننسى أنها كلمات أمَرت إبراهيم بذبح فلذة كبده كما تُذبَح الشاة. ماذا سنفعل
بكلّ الغضب العارم الذي يجتاحنا ونحن نقرأ مثل هذه الكلمات؟ ما هو موقفنا من إلهٍ
كهذا؟ إله يلوم أيوب لأنه خاصمَه في حين أن أيوب لا حول له ولا قوة. من خَلَقه على
هذه الشاكلة إذن؟ ولماذا لا يُعدُّ ظلماَ حين يُلقي الله بعبدٍ في الشقاء دون
سببٍ، في حين لا يكون من العدل أن يفعل ذلك بشرٌ عاديّ؟.
شعريَّة الخطاب الإلهي هذه
مهيبة إلى درجةٍ يستحيلُ معها كلّ شيءٍ إلى الصمت ويُصبح بذلك كلّ تناقضٍ نباحاً
مثيراً للشفقة. لكن في المقابل لا ينبغي علينا ببساطة أن نضع الكتاب المقدّس
جانباً، بل يجب أن نتخلّص منه عندما نضيق ذرعاً بأوامره وبهذا الاستعباد الذي
يفرضه علينا. الإله الذي يتحدّث فيه هو أبعد ما يكون عن الحياة، إلهٌ مسلوب
الفرحة، يسعى إلى الحدّ من اتساع الحياة الإنسانيّة ورحابتها -تلك الدائرة الكبيرة
التي يمكن لهذه الحياة أن تكون عليها لو تركنا لها حريّة فعل ذلك- ويُحيلها إلى
نقطةٍ صغيرة عاجزة عن التوسّع. منكسرين بأحزاننا، ونائين تحت وطأة الذنوب،
متيبّسين بفعل الخضوع والإهانة والاعتراف، موسومين بصليبٍ من الرماد على جباهنا،
يتوجّب علينا أن نسير نحو القبر يحدونا أملٌ متناقضٌ لألف مرّةٍ في حياةٍ أجمل تحت
ظلّ عرشه. إذ كيف لحياةٍ أن تكون أفضل إلى جانب شخصٍ سَلَبَنا في السّابق كلّ
أسباب الفرح والحريَّات؟.
ومع ذلك فإن لهذه الكلمات
التي تنبع منه وإليه جمالاً مذهلاً. كم أحببتها عندما كنت أخدم القُدَّاس! كم
انتشيت بها على ضوء شموع المذبح! كم هو واضح، واضح مثل الشمس، أن تكون هذه الكلمات
مقياساً لكل شيء! وكم يبدو لي أمراً غريباً أن تحظى كلمات أخرى غيرها بالأهميَّة
عند الناس أيضاً، في حين أن كلّ واحدةٍ منها لا يمكن أن تُعبّر إلا عن متعةٍ
ذميمةٍ وفقدانٍ للجوهر! ما أزال إلى اليوم أتوقَّف عندما أُصغي إلى الترتيل
الغريغوري، وخلال لحظات طويلة من الغفلة، ينتابني شعور بالحزن لأن النشوة القديمة
فَسَحَت المجال نهائيّاً للتمرّد. تَمَرُّدٌ انفجر في داخلي مثل دفقٍ ناريّ عندما
سمعت لأوّل مرة هاتين الكلمتين: التضحية بالفِكر.
كيف سنكون سعداء دون فضول،
دون أسئلة، أو شكّ، أو حجج؟ دون متعة التفكير؟ هاتان الكلمتان الشبيهتان بضربةِ
سيفٍ تقطعُ رؤوسنا، لا تعنيان أكثر من ضرورة العيش بمشاعرنا، بأفعالنا مقابل
التضحية بفكرنا. إنهما دعوة للتفرقة، أمرٌ بالتضحية بما هو جوهر السعادة: وحدتنا الداخليّة
وتناغم حياتنا. العبد مكبّلٌ في السجن بالأشغال الشاقّة لكنَّ ذلك لن يأسر حريّة
تفكيره. غير أن الرب يطالبنا بأن نُعمّق عبوديتنا بأيدينا، حتَّى أعماق ذواتنا، بل
إننا نفعل ذلك طوعاً وعن طيب خاطر. هل يمكن أن تُوجد سخريّة أكبر من هذه؟.
الرب هو الشخص، في مطلق
وجوده، يُراقبنا ليلاً نهاراً ويمسك الدفاتر الخاصّة بكلّ ساعة، بكلّ دقيقة، وبكلّ
ثانية من أعمالنا وأفكارنا، لا يسمح لنا بالراحة أبداً. من المستحيل أن يمنحنا
لحظةً نختلي فيها بأنفسنا. ما هو الإنسان دون أسرار؟ دون أفكار ولا رغبات لا
يعرفها أحد غيره؟ الجلاَّدون، جلاَّدو محاكم التفتيش أو جلاَّدو اليوم يدركون هذا
الأمر جيّداً: اقطع عنه كلّ طريقٍ للعودة إلى الذات، لا تطفئ الضوء مطلقاً، لا
تتركه يختلي بنفسه أبداً، امنع عنه النوم والصمت: سيتكلّم.
حين يسرق منّا التعذيب
أرواحنا فذلك يعني أنه يهدم خلوتنا مع أنفسنا، هذه الخلوة التي نحتاج إليها
كالهواء لنتنفّس. الربّ إلهنا، ألم يفكّر في أنه بفضوله الجنونيّ وجشعه المثير
للاشمئزاز في الاطلاَّع على كلّ شيء، يسرق منا روحنا، الروح التي من المفترض أن
تكون خالدة؟.
من يريد حقّاً أن يكون
خالداً؟ من يريد أن يعيش الكينونة كلها؟ كم سيكون مملاً وتافهاً أن نعلم بأنّ ما
يحصل اليوم، هذا الشهر، هذه السنة ليست له أيُّ أهميّة تذكر. سيتوالى عددٌ لا
نهائيٌّ من الأيام والأشهر والسنوات، عددٌ لا نهائيٌّ بالمعنى الحرفي للكلمة. لو كان
الأمر هكذا فعلاً، فهل سيكون لأيّ شيءٍ أهميّة بعد؟ لن نعود في حاجةٍ إلى أن
نُجاري الزمن، لن يعود بإمكاننا أن نترك أي شيءٍ يفرّ من أيدينا، لن يتوجّب علينا
الاستعجال، سيكون من غير المهم أن نقوم بشيءٍ ما اليوم أو غداً. لا أهميّة لذلك
على الإطلاق. آلاف الفرص الضائعة لن تُمثّل شيئاً أمام الخلود، والحسرات لن يكون
لها أيّ معنى، إذ سيكون لنا دوماً الوقت الكافي لتدارك ما فاتنا. لن يكون في وسعنا
حتّى أن نعيش يوماً فيوماً، لأن هذه السعادة تقتات على الوعي بالزمن الذي يمضي،
فالكسول هو مجازف بحياته أمام الموت، متقاطع مع الأمر بالاستعجال. عندما يتوفّر
الوقت لفعل كلّ شيء في كلّ زمانٍ ومكان، فأين سنجد مكاناً بعدُ لمُتعةِ هَدْر
الوقت؟.
لا يكون الشعور هو نفسه عندما
ينتابنا للمرة الثانية. فهو يُغيّر لونه عندما نعي عودته. مشاعرنا تُرهقنا
وتتجاوزنا تعود في أغلب الأحيان وتدوم فترةً طويلةً جداً. الروح الخالدة ينبغي أن
يتملّكها إحساسٌ كبيرٌ بالتخمة، ويأسٌ صارخ أمام الثقة في أن هذا لن ينتهي، لن
ينتهي أبداً. المشاعر تريد أن تكبر ونحن معها. إنها لم تتغيَّر قط لأنها ترفض ما
كانت عليه قبل الآن، ولأنها تتدفّق نحو مستقبلٍ تبتعد فيه مجدداً عن ذاتها. لو أن
هذا السيل الجارف يمتدّ إلى ما لا نهاية له، فينبغي أن تُولد فينا آلاف المشاعر
التي لا يمكن لنا أن نتخيّلها، نحن الذين اعتدنا زمناً محدود المدى، حتّى إننا لا نعرف
ما الذي وُعِدنَا به عندما نسمع الحديث عن الحياة الأبديّة. ما فائدة أن نعرف من
نكون أمام الخلود دون أن نجد عزاءنا في التحرر ذات يوم من ضرورة أن نكون نحن؟ إننا
نجهل الأمر، وفي ذلك نعمة ربّانيّة، لأننا مع هذا نحن نُدرِكُ شيئاً واحداً فقط:
ستكون جحيماً، جنّة الخلود هذه.
إن الموت هو الذي يُعطي للحظة
جمالها ورهبتها. إن الزمن زمنٌ حيٌّ بفضل الموت فقط. لماذا لا يدرك الرب ذلك، هذا
الرب العليم؟ لماذا يتوعّدنا بحياةٍ أبديّةٍ لن يكون لها أيّ معنى آخر غير مللٍ لا
يُحتَمل؟.
لا أريدُ أن أعيش في عالمٍ
خالٍ من الكاتدرائيَّات. أنا في حاجةٍ إلى ألق زجاجيّاتها الملوّنة، إلى هدوئها
البارد وصمتها المهيب، في حاجةٍ إلى الألحان المتدفّقة من الأرغن وإلى دعاء
المصلّين المقدّس، في حاجةٍ إلى قدسيّة الكلمات، إلى جلال هذا الشعر العظيم. أنا
في حاجةٍ إلى كلّ هذا ومع ذلك أحتاج إلى الحريَّة، إلى الثورة ضدّ كلّ شكلٍ من
أشكال القسوة، إذ لا قيمة لواحدةٍ دون الأخرى، أحتاج إلى الانعتاق من كلّ إكراهٍ
على الاختيار][vi].
[i] قصيدة من كتاب "التغريد بطريقة برايل"
2014م، بذات العنوان، للشاعر المصري محمد مجدي (هرمس)، عنه في المدونة: http://teenia.blogspot.com/2014/03/blog-post.html
[ii] من مقال "لماذا نقرأ الأدب؟" ماريو بارغاس يوسا 2016م، ترجمة: راضي النماصي، نشر بإذن من المترجم: الرابط:
https://radhiblog.com/2014/04/28/literature-llosa/#:~:text=%D9%87%D8%B0%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%20%D8%A8%D8%B9%D9%86%D9%88%D8%A7%D9%86%3A%20%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7%20%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A3,%D9%84%D9%83%D9%86%D9%8A%20%D8%B4%D8%AE%D8%B5%20%D9%85%D8%B4%D8%BA%D9%88%D9%84%20%D8%B7%D9%88%D8%A7%D9%84%20%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%82%D8%AA%E2%80%9D.
[iii] كُتب في يناير 2022م، وتوقّف
لأسباب تتعلَّق بمجريات الأحداث الجارية حالياً، وربما ينتهي بالمستقبل. عنوان
المقال مُقتبس من جملة شكسبير الشهيرة: (الجحيم فارغ، كلّ الشياطين هنا)، وهو
عنوان مؤقّت ربّما يتغيّر.
[iv] رامبو وزمن القتلة، هنري ميللر، دار الجمل،
الطبعة الأولى 2012م، ترجمة سعدي يوسف، من (تنقيبات طينيّة) (9) بعنوان: رامبو والطاقة الذريَّة، على الرابط: http://teenia.blogspot.com/2015/11/9.html
[v] من قصيدة غناء العزلة ضدّ العزلة – الشاعر
الصادق الرضي
[vi]
اقتبست
جميع مقاطع الرواية من النسخة الصادرة عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع – تونس –
بترجمة الأستاذة سحر ستّالة. الطبعة العربية الثانية، 2020م.
شكراً ليك يا ممو🌹
ردحذف